الطائفة الباغية 2

قال محمود درويش (1941-2008):
“فِي بَيْتِ نِزَارْ قَبَّانِي
بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ بَيْتُ الدِّمَشْقِيِّ مِنْ جَرَسِ الْبَابِ حَتَّى غِطَاءِ السَّرِيرِ كَأَنَّ الْقَصِيدَةَ سُكْنَى وَهَنْدَسَةٌ لِلْغَمَامِ بِلَا مَكْتَبٍ كَانَ يَكْتُبُ يَكْتُبُ فَوْقَ الْوِسَادَةِ لَيْلًا وَتُكْمِلُ أَحْلَامُهُ ذِكْرَيَاتِ الْيَمَامِ وَيَصْحُو عَلَى نَفَسِ امْرَأَةٍ مِنْ نَخِيلِ الْعِرَاقِ تُعِدُّ لَهُ الْفُلَّ فِي الْمَزْهَرِيَّةِ كَانَ أَنِيقًا كَرِيشِ الطَّوَاوِيسِ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ دُونْ جُوَانَ تَحُطُّ النِّسَاءُ عَلَى قَلْبِهِ خَدَمًا لِلْمَعَانِي وَيَذْهَبْنَ فِي كَلِمَاتِ الْأَغَانِي وَيَمْشِي وَحِيدًا إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ قَاطَعَهُ الْحُلْمُ فِي دَاخِلِي غُرَفٌ لَا يَمُرُّ بِهَا أَحَدٌ لِلتَّحِيَّةِ مُنْذُ تَرَكْتُ دِمَشْقَ تَدَفَّقَ فِي لُغَتِي بَرَدَى وَاتَّسَعْتُ أَنَا شَاعِرُ الضَّوْءِ وَالْفُلِّ لَا ظِلَّ لَا ظِلَّ فِي لُغَتِي كُلُّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى مَا هُوَ الْيَاسَمِينُ أَنَا الْعَفَوِيُّ الْبَهِيُّ أُرَقِّصُ خَيْلَ الْحَمَاسَةِ فَوْقَ سُطُوحِ الْغِنَاءِ وَتَكْسِرُنِي غَيْمَةٌ صُورَتِي كَتَبَتْ سِيرَتِي وَنَفَتْنِي إِلَى الْغُرَفِ السَّاحِلِيَّةِ بَيْتُ الدِّمَشْقِيِّ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ أَرْضُ الْعِبَارَةِ زَرْقَاءُ شَفَّافَةٌ لَيْلُهُ أَزْرَقٌ مِثْلَ عَيْنَيْهِ آنِيَةُ الزَّهْرِ زَرْقَاءُ وَالسَّتَائِرُ زَرْقَاءُ سَجَّادُ غُرْفَتِهِ أَزْرَقٌ دَمْعُهُ حِينَ يَبْكِي رَحِيلُ ابْنِهِ فِي الْمَمَرَّاتِ أَزْرَقُ آثَارُ زَوْجَتِهِ فِي الْخِزَانَةِ زَرْقَاءُ لَمْ تَعُدِ الْأَرْضُ فِي حَاجَةٍ لِسَمَاءٍ فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ الْبَحْرِ فِي الشِّعْرِ يَكْفِي لِيَنْتَشِرَ الْأَزْرَقُ الْأَبَدِيُّ عَلَى الْأَبْجَدِيَّةِ قُلْتُ لَهُ حِينَ مِتْنَا مَعًا وَعَلَى حِدَةٍ أَنْتَ فِي حَاجَةٍ لِهَوَاءِ دِمَشْقَ فَقَالَ سَأَقْفِزُ بَعْدَ قَلِيلٍ لِأَرْقُدَ فِي حُفْرَةٍ فِي سَمَاءِ دِمَشْقَ فَقُلْتُ انْتَظِرْ رَيْثَمَا أَتَعَافَى لِأَحْمِلَ عَنْكَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ انْتَظِرْنِي وَلَا تَذْهَبِ الْآنَ لَا تَمْتَحِنِّي وَلَا تَشْكُلِ الْآسَ وَحْدَكَ قَالَ انْتَظِرْ أَنْتَ عِشْ أَنْتَ بَعْدِي فَلَابُدَّ مِنْ شَاعِرٍ يَنْتَظِرْ فَانْتَظَرْتُ وَأَرْجَأْتُ مَوْتِي”.
ما أنفس هذا النص، وما ألطفه، وما أخفه!
أما نفاسته فمن أنه لمحمود درويش في نزار قباني وهما أشهر شعراء العرب المعاصرين الكبار، ولا يستغني طلاب الشعر عن الاطلاع على مساجلات الشعراء، ولاسيما إذا كانت من شعر بعضهم في بعض؛ إذ يستمتعون عندئذ ويستفيدون. وما زال على بالهم طوال مئتي العام والألف السابقة شعر أبي تمام في علي بن الجهم، الذي اتخذوه شعار قرابة الأدب التي تعارض قرابة النسب.
وأما لطافة هذا النص فمن أنه مثال القصيدة المتحققة بحقيقة الشعر الحر الخارج من سعي الشاعر المعاصر على أثر بنية العمل الموسيقي السيمفوني الطويل المركب المتلاحم الذي ترتفع حركاته وتتموج غير منقطعة ثم تنخفض أخيرا مرة واحدة، وإن حرص درويش على توزيع نصه توزيعا يخفي صنعته فيه، ولم أعبأ بما أظهر حرصا على ما أبطن؛ فرسمته على ما يستحقه.
ربما كان هذا النص أكثر من غيره تمثيلا موسيقيا مباشرا؛ ففيه أربع حركات على عدد حركات السيمفونية التقليدي:
الحركة الأولى: “بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ بَيْتُ الدِّمَشْقِي (…) غُرَفٌ لَا يَمُرُّ بِهَا أَحَدٌ لِلتَّحِيَّة”ØŒ
والحركة الثانية: “مُنْذُ تَرَكْتُ دِمَشْقَ تَدَفَّقَ فِي لُغَتِي بَرَدَى (…) وَنَفَتْنِي إِلَى الْغُرَفِ السَّاحِلِيَّة”ØŒ
والحركة الثالثة: “بَيْتُ الدِّمَشْقِيِّ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْر (…) يَكْفِي لِيَنْتَشِرَ الْأَزْرَقُ الْأَبَدِيُّ عَلَى الْأَبْجَدِيَّةِ”ØŒ
والحركة الرابعة: “قُلْتُ لَهُ حِينَ مِتْنَا مَعًا وَعَلَى حِدَة (…) فَانْتَظَرْتُ وَأَرْجَأْتُ مَوْتِي”.
تحرك بالحركة الأولى تعبير درويش عن بيت نزار الذي يعيش فيه، كيف تكون مثلما يتكون بيت شعره الذي ينظمه. وتحرك بالحركة الثالثة تعبيره عن بيت الشعر الذي ينظمه، كيف تكون مثلما يتكون بيته الذي يعيش فيه. وتحرك بالحركة الرابعة تعليقه على تعبير الحركة الثالثة، مثلما تحرك بالحركة الثانية تعليقه على تعبير الحركة الأولى.
ولقد حرص في الحركة الثانية على أن تطابق الأولى بالتعبير عن أسلوب نظم شعره؛ فتوقعت أن تكون الحركة الرابعة في التعبير عن أسلوب سكنى بيته، فكانت كما توقعت، ولكن عن أسلوب سكنى بيت مثواه الأخير الذي جهزه هو نفسه لنفسه.
ولم يستطع درويش ألا يشارك نزارا في الحركة الرابعة؛ إذ ربما كان حافزه إلى نصه هذا من أصله أنه رأى فيه نفسه، ولو لم يفعل لخانها! ولكنه لم ينج من تناقض مشاعره الطبيعي؛ فاجتمع له في هذه الحركة الرابعة نفسها تعبيره عن رغبته في مشاركة نزار في سكنى بيت مثواه الأخير، وتعبيره عن رغبته في حمل رسالته بعده إلى الناس، ثم غلب الانتظار على الذهاب، وإن دل سكون آخر “يَنْتَظِرْ” من غير جازم، على أنه انتظار المقهور، وإن زعم أنه هو الذي أرجأ موته!
وأما خفة هذا النص فمن أنه من وزن بحر المتقارب الحر (ددن دن×…=فعولن×…)ØŒ لا يؤوده خرم تفعيلته الأولى (بَيْتٌ=دن دن=عولن)ØŒ اعتمادا على نبر مقطعها الأول الباقي من وتدها المجموع (بَيْ=دن). ولكنه يؤوده نطق “يَكُنْ دُونْ جُوَانَ”ØŒ من طرفيه، إلا أن أقدر من أوله اختلاس المد قبل النون الساكنة -ولم أر أن أحرف النص، ولو جاز لي لرسمته “يَكُنْ دُنْ”ØŒ لتستقيم التفعيلة “ددن دن=فعولن”!- وقد عالجته له من آخره بفتح النون -ولم يشكل درويش من نصه شيئا- لكيلا يتعثر الإيقاع (جُوَانَ=ددن د=فعول). وكذلك يؤوده نطق “فَلَابُدَّ مِنْ شَاعِرٍ يَنْتَظِرْ فَانْتَظَرْتُ” من وسطه إذا ارتفع الفعل المضارع، وقد عالجته له بجزمه دون جازم انتفاعا بسكون رائه وزنا ومعنى؛ فأما الانتفاع بمعنى سكونها فقد سبق قريبا، وأما الانتفاع بوزن هذا السكون فمن حيث تستقيم به التفعيلة “تَظِرْ فَانْ=ددن دن=فعولن”.
ومن خفة هذا النص اصطناعه هذه اللغة القريبة الخصيبة، التي تشبه لغة نزار كثيرا، حتى لأظن أن عبارته المفتاحية (بَيْتُ الدِّمَشْقِيِّ بَيْتٌ مِنَ الشِّعْر)ØŒ من كلام نزار نفسه، سمعها منه، وحفظها له، حتى ردها عليه! ولكنه تصرف في ترتيب شطريها (بَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ بَيْتُ الدِّمَشْقِي)ØŒ ليرى الخبر من منظار المبتدأ، كما رأى المبتدأ من منظار الخبر. وربما كان من تنسم النزارية كذلك إقحام ضمير الغائب في قوله: “مَا هُوَ الْيَاسَمِينُ”ØŒ ولا قوة له غير تمثيل هوى نزار الذي كانت منه الركاكة نفسها على بال، يؤثرها على الجزالة عمدا؛ عسى أن تنتقم له بلينها من قسوتها!

Related posts

Leave a Comment