عروضي بين موسيقيات 4

عَرُوضِيٌّ بَيْنَ مُوسِيقِيَّاتٍ

(قصة تدريس عروض الشعر لطالبات الموسيقى)

– ترى -يا بنياتي- ماذا كانت معازف الشاعر المغني الأول؟
– لم تكن له معازف!
– بل كانت أوتار حنجرته الصوتية هي معازفه الأولى، يقلد بها ألحان الكائنات من حوله.
– أهذه هي معازفه!
– ثم ربما ضعف عن ذلك؛ فاستعان من أدوات حياته بما يعوض ضعفه: قصبة ينفخ فيها فتترنم مثل عصفورة، وقربة ينقرها فتهدل مثل حمامة، وقوسا يشد وترها فتحن مثل قمرية. وقليلا قليلا في الزمان الطويل بعد الزمان الطويل زادت المعازف، وجادت، واستقلت بأهلها الذين صاروا يجدون من يستمعون إليهم وحدهم؛ فيجتهدون لهم فيما يطربهم، حتى ابتدعوا أجناسا وأنواعا كثيرة مختلفة متزايدة من التعبيرات الموسيقية. وبقي للشاعر ما انتهى إليه غناؤه شعره قبل أن تستقل بموسيقاه آلاتها، من خصائص عروضية (وزنية، وقافوية).
– كأنك اطلعت على الغيب!
– بل اطلعت من روايات الأصفهاني على خبر أبي النضير الذي دخل عليه الموصلي مجلسه فوجده يغني مثلما يقطع الخليل بن أحمد البيت تقطيعا عروضيا؛ فقال له فيه؛ فقال: هذا الغناء القديم!
– كيف هذا؟
– مثل غناء ميحد حمد مغنيكم البدوي المعروف، ومثل غناء صوفية صعيد مصر بردة البوصيري!
– أين ذاك من هؤلاء!
– لقد مررت بموقف سيارات مدينة ملوي من محافظة المنيا بصعيد مصر؛ فسمعت مسجل غناء البردة:
أمن تذك/ كر جي/ ران بذي/ سلم/ مزجت دم/ عا جرى/ من مقلة/ بدم/
أم هبت الر/ ريح من/ تلقاء كا/ظمة/ وأومض ال/ برق في الظ/ ظلماء من/ إضم/
يقف المغني على أواخر الأجزاء وقفات منغومة، تزداد في أواخر الأبيات سحبة هابطة حزينة. أما ميحد حمد فقد كان سائقي العماني مفتونا بشريطه “الحواس الخمس”ØŒ الذي جرى فيه بلهجته العامية، على وتيرة واحدة واضحة من الغناء العروضي!
– ثم سلك الشاعر بلغته وعروضه مسلكا، وسلك الموسيقي بآلاته ومقاماته مسلكا غيره، وتباعدت الشقة حتى استحال علينا تصديق ذلك الأصل الذي ذكرت؟
– نعم، ولكن بقيت الموسيقى على بال الشاعر، والشعر على بال الموسيقي، يتشوف كل منهما إلى مآلات قرينه، ويتطلع إلى مناصاته، حتى إذا ما قام قائم الغناء، واجتمعا هما والمغني جميعا معا- تواضع كل منهما للمغني.
– يتواضعان للمغني!
– نعم؛ فللغناء شعره وموسيقاه المناسبان، اللذان يتحرى فيهما الشاعر والموسيقي كلاهما أن يتخففا من كنوزهما الثقيلة العويصة، ويكتفيا بما يتحمله المغني. ولو تأملا لوجدا أنهما قد راجعا حال جدهما الواحد الأول الشاعر المغني!
– آه شوقا إليه!
– تدعي ما ادعيت من ألم الشوق إليها والشوق حيث النحول
صدق أبو الطيب!
– وماذا يرضيك؟
– أن تنصتن إلي أقرأ كلمتي هذه التي أجملت لكن فيها ما سبق كله إجمال حريص طروب، وأن تقرأنها أحسن قراءة وتكررنها أوفى تكرار حتى تحفظنها؛ فمن حفظتها فلها خمس درجات كاملة:
لَوْلَا الْغِنَاءُ لَمْ يَكُنِ الشِّعْرُ وَلَوْلَا الْمُغَنِّي لَمْ يَكُنِ الشَّاعِرُ
لقد نشأت الموسيقى وعَرُوض الشعر نشأة واحدة؛ فكان المغني الأول إذا شغله أمر من الحزن أو الفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى، يُلَحِّنُها من سِرِّ نفسه تلحينا يُمَثِّل مشاعره ويُهَدْهِدُها. ثم صار يُدَنْدِنُ الأصوات مُركبةً في كلمةٍ ذاتِ معنى، فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن كلماتٍ مختلفةً مؤتلفةً في جملة واحدة -وعندئذ كان البيت من الشعر- فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن جُمَلا مختلفةً مؤتلفةً -وعندئذ كانت القصيدة- فهو ينتقل من بيتِ الجملةِ منها إلى بيتِ الجملةِ باللحن نفسه؛ فإذا الأغنيةُ (القصيدةُ) دوراتٌ متشابهاتٌ لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، تَضْبِطُها قَرَارَاتُها (قَوَافِيها).
ثم نشأت الآلات، فاسْتَقَلَّتْ بالموسيقى عن عروض الشعر، ومضى كُلٌّ في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن بَقِيَتْ صِلَةُ الغناء الواصلةُ، تَحْمِلُ الموسيقيين والشعراء جميعا معا، على أن يجتمعوا على لُغَةٍ سَواءٍ، وعندئذ يُراجعون ذلك الأصل البعيد؛ فتَلْتَبِسُ أنغامُ الموسيقيِّ بتفعيلاتِ الشاعر، والبَحرُ العروضيُّ بالمَقامِ الموسيقيّ، وتتفجر اللغةُ السَّوَاءُ، ويتجلَّى خِصْبُ تَوْظيف العَروض تَوْظيفا موسيقيًّا!

Related posts

Leave a Comment