دلالة “ثُم” على التشريك والترتيب والمهلة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته … وبعد:
في أثناء قراءتي في التراث وقعت على إشارات في هذا الأمر ودونتها في مدونة لأرجع إليها وأنظر فيها أو لأستوضح ممن هو أعلم مني.
وهذا رابط التدوينة:
http://nahjjj.blogspot.com/2015/06/blog-post_3.html?m=1
وسؤالي هل هو ثابت في الفصحى مثل هذا الاستعمال أم هو من الشاذ أو من التوسع الذي يُتسامح فيه ولا يطّرد. أرجوا تفصيل الجواب بذكر الشواهد وأقوال العلماء بحسب ما يتيسر.
وجزاكم الله خيرًا.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
حيا الله السائل الكريم، وأحيانا به!
تُستعمل “الواو” Ùˆ”الفاء” Ùˆ”ثم”ØŒ للدلالة على تَشْرِيكِ ما بعدها في تَحمُّل المراد المتحدَّث عنه. وتختص “الفاء” Ùˆ”ثم” بإفادتهما دون “الواو” ترتيب ما بعدهما على ما قبلهما (مجيئه بعده)ØŒ وتختص “الفاء” بمجيئه بعده دون مُهْلة (تَراخٍ)ØŒ Ùˆ”ثم” بمجيئه بعده بمهلة؛ ففي استعمال “ثم” إذن دلالة على تَشْرِيكٍ وتَرْتِيبٍ ومُهْلَةٍ (تَرَاخٍ). وقد اختلف النحويون في دلالة “ثم” على التَّشْريك والتَّرْتِيبِ والمُهْلَة جميعًا، أخذًا بما حفظوا من قرآن كريم ونثر شريف وشعر نفيس.
ولسوف أنقل لك من “المغني”ØŒ إجمال ابن هشام لذلك، ولكنني أحب لك أن تجري مجرى المجتهدين في تأمل الكلام العربي، لا مجرى المتبسطين؛ فتنظر فيما وراء الظاهر؛ فثَمَّ البيانُ الحَقّ.
قال ابن هشام في “ثُمَّ”: “حرف عطف يَقْتَضِي ثَلَاثَة أُمُور: التَّشْرِيك فِي الحكم، وَالتَّرْتِيب، والمهلة. وَفِي كل مِنْهَا خلاف:
فَأَما التَّشْرِيك فَزعم الْأَخْفَش والكوفيون أَنه قد يتَخَلَّف؛ وَذَلِكَ بِأَن تقع زَائِدَة فَلَا تكون عاطفة الْبَتَّةَ، وحملوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم}، وَقَول زُهَيْر:
أَرَانِي إِذَا أَصْبَحتُ أَصْبَحْتُ ذَا هَوًى فَثُمَّ إِذَا أَمْسَيْتُ أَمْسَيْتُ غَادِيَا
وَخُرِّجت الْآيَة على تَقْدِير الْجَواب، وَالْبَيْت على زِيَادَة الْفَاء.
وَأما التَّرْتِيب فَخَالف قوم فِي اقتضائها إِيَّاه تمسكًا بقوله تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، {وَبَدَأَ خَلْق الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتابَ}، وَقَول الشَّاعِر:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
وَالْجَوَاب عَن الْآيَة الأولى من خَمْسَة أوجه:
أَحدهَا: أَن الْعَطف على مَحْذُوف؛ أَي من نفس وَاحِدَة أَنْشَأَهَا ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا.
الثَّانِي: أَن الْعَطف على {وَاحِدَة} على تَأْوِيلهَا بِالْفِعْلِ؛ أَي من نفس توحدت أَي انْفَرَدت ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا.
الثَّالِث: أَن الذُّرِّيَّة أُخرجت من ظهر آدم -عَلَيْهِ السَّلَام!- كالذر ثمَّ خُلقت حَوَّاء من قُصَيْرَاه.
الرَّابِع: أَن خلق حَوَّاء من آدم لما لم تجر الْعَادة بِمثلِهِ جِيءَ بثم إِيذَانًا بترتبه وتراخيه فِي الْإِعْجَاب وَظُهُور الْقُدْرَة لَا لترتيب الزَّمَان وتراخيه.
الْخَامِس: أَن ثمَّ لترتيب الْإِخْبَار لَا لترتيب الحكم، وَأَنه يُقَال: بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب؛ أَي ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب.
والأجوبة السَّابِقَة أَنْفَع من هَذَا الْجَواب؛ لِأَنَّهَا تصحح التَّرْتِيب والمهلة وَهَذَا يصحح التَّرْتِيب فَقَط؛ إِذْ لَا تراخي بَين الإخبارين، وَلَكِن الْجَواب الْأَخير أَعم؛ لِأَنَّهُ يَصح أَن يُجَاب بِهِ عَن الآية الْأَخِيرَة وَالْبَيْت.
وَقد أُجِيب عَن الْآيَة الثَّانِيَة أَيْضًا بِأَن {سوأة} عطف على الْجُمْلَة الأولى لَا الثَّانِيَة.
وَأجَاب ابْن عُصْفُور عَن الْبَيْت بِأَن المُرَاد أَن الْجد أَتَاهُ السؤدد من قِبل الْأَب وَالْأَب من قبل الابْن، كَمَا قَالَ ابْن الرُّومِي:
قَالُوا أَبُو الصَّقْر مِنْ شَيبَانَ قُلْتُ لَهُمْ كَلَّا لَعَمْرِي وَلَكِنْ مِنْهُ شَيْبَانُ
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ ذُرَا حَسَبٍ كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ
وَأما المهلة فَزعم الْفراء أَنَّهَا قد تتخلف بِدَلِيل قَوْلك: أعجبني مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب؛ لِأَن ثمَّ فِي ذَلِك لترتيب الْإِخْبَار وَلَا تراخي بَين الإخبارين، وَجعل مِنْهُ ابْن مَالك {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} الْآيَة، وَقد مر الْبَحْث فِي ذَلِك وَالظَّاهِر أَنَّهَا وَاقعَة موقع الْفَاء فِي قَوْله:
كَهَزِّ الرُّدَيْنِيِّ تَحْتَ الْعَجَاجِ جَرَى فِي الْأَنَابِيبِ ثُمَّ اضْطَرَبْ
إِذ الهَزّ مَتى جرى فِي أنابيب الرمْح يعقبه الِاضْطِرَاب وَلم يتراخ عَنهُ”.

Related posts

Leave a Comment