تكثيف واختزال

من آثار ظاهرة النص القصيرِ التكثيفُ والاختزالُ، أي أن يجدَه متلقّوه قد احتشدت لصاحبه فيه المقاصد؛ فاستخلص منها خلاصة مركزة، كأنها جرعة مقطَّرة، أخلاها من كل ما خشِي أن يشوب صفاءها، فخرج النص وجيز الظاهر والباطن، عليه هيبة الصمت وفي يديه مقاليد الإعراض، فتحرَّجوا من مخالفته، لولا أن البلاء موكَّل بالمنطق!

هذا نص قصير يعبر عن ضياع معالم الحياة، بأربع عشرة كلمة، في ثلاث جمل، على ثلاثة أبيات:

مَلَّ جَذْرَهُ الشَّجَرُ وَانْصِبَابَهُ الْمَطَرُ

وَالْتَوَتْ مَعَايِشُ لَمْ يَسْتَذِلَّهَا وَطَرُ

فَالْكَلَامُ مُلْتَبِسٌ وَالْأَمَانُ وَالْخَطَرُ

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فمُقتضَبيَّة الأوزان المجزوءة المطوية الأعاريض والأضرب، رائية القوافي المضمومة المجردة الموصولة بالواو:

  1. مَلَّ جَذْرَ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  2. هُ الشَّجَرُ= دن دددن، مستعلن، مطوية،
  3. وَانْصِبَابَ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  4. هُ الْمَطَرُ= دن دددن، مستعلن، مطوية، والقافية: دن دددن، هُ الْمَطَرُ.
  5. وَالْتَوَتْ مَ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  6. عَايِشُ لَمْ= دن دددن، مستعلن، مطوية،
  7. يَسْتَذِلَّ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  8. هَا وَطَرُ= دن دددن، مستعلن، مطوية، والقافية: دن دددن، هَا وَطَرُ.
  9. فَالْكَلَامُ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  10. مُلْتَبِسٌ= دن دددن، مستعلن، مطوية،
  11. وَالْأَمَانُ= دن ددن د، مفعلات، مطوية،
  12. وَالْخَطَرُ= دن دددن، مستعلن، مطوية، والقافية: دن دددن، وَالْخَطَرُ.

إن المقتضب وزن قليل الاستعمال، سريع الإيقاع -جاءته السرعة من قِصره ومن كثرة حركاته- كأنه مخلوق ليتحمَّل بقِصره تكثيفَ وجازة هذا النص، وبسُرعته اخترالَها، فيوفِّي به صاحبُه التنبيهَ الذي أراده، قبل أن يمضي في سبيله! وساعدَته على ذلك القافيةُ الرائية المضمومة المجردة الكثيرة الحركات، التي كانت من لُزوميَّتها تَثْنِي البيتَ على البيت، ليكون هذا النص القصير كأنه بيت واحد ذو ثلاث طبقات!

وأما جمل هذا النص القصير الثلاث -ومتوسط كلمات الواحدة منها “4.66“- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

  1. مَلَّ جَذْرَهُ الشَّجَرُ وَانْصِبَابَهُ الْمَطَرُ= ماض ومعرف بأل،
  2. وَالْتَوَتْ مَعَايِشُ لَمْ يَسْتَذِلَّهَا وَطَرُ= (و) ماض ونكرة،
  3. فَالْكَلَامُ مُلْتَبِسٌ وَالْأَمَانُ وَالْخَطَرُ= (ف) معرف بأل ونكرة.

إذا راعينا جنسية أل التي تَعرَّف بها ثاني ركني النمط الأول من هذه الأنماط، كان النمط الثاني كأنه الأول، ووقف النص بهما على الأرض، ليمتد بالنمط الثالث إلى السماء، أو وقف بالنمط الثالث على الأرض، ليمتد بالنمطين الأولين إلى السماء! لقد بلغ من وجازة هذا النص القصير أن أغنت كلُّ جملة من جمله الثلاث عن غيرها: أغنت الأولى عن: “… ÙˆÙŽÙ…ÙŽÙ„ÙŽÙ‘ انْصِبَابَهُ الْمَطَرُ”ØŒ وأغنت الثانية عن: “… وَلَكِنِ اسْتَذَلَّتْهَا أَشْيَاءُ أُخْرَى”ØŒ وأغنت الثالثة عن: “… وَالْأَمَانُ مُلْتَبِسٌ، وَالْخَطَرُ مُلْتَبِسٌ”- إغناءً ظاهرا لا غموض فيه، وكأنه يقول للمتلقين: الحَقُّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِلُ لَجْلَجٌ، قد بلغت؛ فاللهم، اشهد!

Related posts

Leave a Comment