سيارتي الشبح لا ردها الله 1-3

­

… فإن تكن حقَّرتْ إليَّ الأموال الكثيرة، وجَرَّأَتْني على بَذْلها -وهذه مَنْقَبَتُها اليتيمة- لقد عوَّدتني على غيابها، حتى فارقتُها غيرَ مشتاقٍ إليها، ولا متمسكٍ بها، ولا نادمٍ عليها!

فلا ردَّها اللهُ، أيّةَ شيطانةٍ كانتْ!

(1)

لا -والله- ما أردتها، ولا سعيت إليها، ولكنها سُلِّطَتْ عليَّ عشر سنوات وعلى بنيَّ، فصبرتُ عليها خطأً مثلما يصبر المريض على مرض عُضال بَغيض الداء مَخوف الدواء؛ فسَوَّأَتْ خلقي، ولَوَّحَتْ لَوْحِي، وتجبَّرتْ حتى أعانني عليها حَيْنُها الحائِنُ؛ فاطَّرَحْتُها عني مثلما أَطَّرِح حذاء مُتهرِّئًا مؤذيًا، غيرَ مبال بما جره عليَّ بخسي ثمنها، من أهلي الذين جعلوني مجنونا، ومن أهلها الذين جعلوني سارقا، ولو اطلعوا على سيرتها لجعلوني حكيما كريما!

لقد كنت المبتلى بمثلها في جامعة القاهرة، لا أكاد أبدو بها لحراس الأبواب حتى يعتدلوا ويسلموا تسليما، ولا الطلاب حتى ينبِّه عليها بعضُهم بعضا، ولا الموظفين حتى يأتوني إليها مذعنين، غير  عجوز بعيدة العقل أقبلت تعبر أحد طرق الجامعة، فرأتها من بعيد تنهب الأرض تَسُدُّ الأفق؛ فأشارت بيُسراها متكئةً على عصاها بيمناها، مثلما تذُبُّ ذبابا أو تحقِرُ شبابا، وكانت أبعد من أن يُخشى عليها، فلما مررتُ بها قبل أن تتحرك صاحت: يا خنزير! فرَجَعْتُها إليها، وفتحت نافذتها غضبانَ: ألي تقولين هذا وأنا أستاذ بالجامعة! فقالت: ظُزْ! تدوسني وتقول أستاذ بالجامعة! فعرفت قيمتي وذهبت!- ولا زملائي حتى ينفُضوا مني أيديهم، ولا أساتذتي حتى يقيسوا إليها ويحتجَّ بها بعضُهم على بعض!

وكنت المخدوع بها في كل طريق مفتوح سريع، أحسبها جامدةً وهي تمرُّ مَرَّ السحاب، لا يمنعها مانع، ولا يَبْخَعُها باخِع، غيرَ سَفْرَةٍ ساحلية كئيبة، اضطُرَّ الشرط فيها إلى اعتراضها ذهابا وإيابا آسفين؛ فأما في الذهاب فأخذوا رخصتي، وأما في الإياب فأخذوا رخصتها؛ فقال أحد من كلمني من أصهاري قبل وصولي، يطمئن عليَّ: إذا اعترضوها ثالثةً فأعطهم عَيِّلًا من العِيال!

 (2)

حكى لي أحد زملائي ولم نكن عندئذ جميعا من ذوي السيارات، أن ابن ثَريٍّ مصري تكبَّر بسيارته على الناس في شوارع القاهرة وتجبَّر وطغى وبغى، حتى أحدث فيهم وأفسد؛ فأمسكوا به؛ فهاتف أباه؛ فأتاه من فَوْرِه، ولم يكد يراه في أيديهم حتى صرخ فيه يسبه ويلعنه ويضربه؛ فرحمه الناس وحالوا دونه، ثم قال له: والله -يا ابن الكلب- لئن لم تعتدل لآخذنَّ منك الشبح، ولأعطينَّك الفِيَات، ولأجعلنَّك مثل أولاد الشوارع!

قلت: يا خيبة أمل المصابين المساكين الذين رحموه، ثم يا لأمثالنا -عندئذ- الذين لم يدركوا القيام في مقام ذوي الفِيَات من أولاد الشوارع!

ثم ضرب الدهر ضَرَبانَه، وسافرتُ عن الشبح -بعدئذ- معتقلةً بمأواها؛ فتوصل إليها بَراءٌ وكان المقدَّم على أقرانه في تخصصه الجامعي، وسوَّلت له نفسه أنَّ ركوبها إلى كليته أسهل من أن يبحث عمن يُقلُّه فيفوته الوقت؛ فلما أشرف بها على حراس باب الجامعة الأكبر استصغروا حجمه وسنه وزِيَّه -وإن أربكتهم البطاقة على يمين زجاجها- وتوقفوا في شأنه حتى يستأذنوا قائدهم، فطلبه، فجاءه، فعاتبه، فأَحْسَنَ إِعْتَابَهُ، فنصحه، فذكر له أنه رأي أبيه أيضا، فأثنى له على أبيه ليقنعه بمراده، ثم اضطُرَّ بما وجد من حضور جوابه أن يسمح له، على أَلَّا يعود! ولم يكن يُريد أن يعود فقد رآه بها من أراد أن يراه، ثم حَمَلَ عليها في إيابه من أراد أن يحمل، وقضي الأمر، واستوتْ بمأواها، ولكن بعد أن هبطتْ بمرتبته في تخصُّصه عما كانت قبلئذ، ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ!

يا لَلْمِسْكين!

أَغرَّه منها أنْ لم يحتَجْ في اختبار القيادة إلا إليها؛ إذ اقتحم بها مِضمارَ الاختبار الضيق؛ فلم يُكلِّفْهُ الشرطيُّ غير أن يدور فيه قليلا، ثم جاءه يتودَّد إليه بالنجاح، وقد أبى أبوه إلا أن يتعلمها في مدرسة الوزارة على كثرة طلابها؛ فرزقه الله الأستاذ صفوت المعلم المخلص الكريم العطوف، الذي كان يعلمه ثم يوصله إلى قريب من بيته!

ويغضب المصريون حين تُردُّ عليهم خارج مصر رُخَصُ قيادتهم، بما فاح من عطن فسادها الآسن. ويقول قائلهم: يرفضون تبديل رخصتي، وقد ذهبتُ فيها إلى الشرطي بمكتبه، فأجلسني، وأضافني، فلم أكد أُكمل قهوتي حتى جَهَّزَها لي معاونوه! يرفضون تبديل رخصتي أنا!

ألا عَجَبًا أَيَّ عَجَبٍ!

 (3)

ومن خصائصها المقيتة أنها كانت لا تصبر على شيء يصيبها، مهما كان هَيِّنًا؛ فلابد أن تظل بريئة من كل سوء -وهي السوءُ نفسه- فإذا صبرتْ سائرُ السيارات على الكُسُور والشُّقُور والبُقُور، وتَبَلَّغَتْ برُقَع الألوان حتى يتيسَّر طلاؤها- لم تصبر هي ولا على البُثُور حتى تُعالج منها في وقتها، وتُطلى طِلاءً لِتَبْهَى بَهاءً، وهو خَطْبٌ مُهِمٌّ مُدْلَهِمٌّ، لأن أكثر الطرق التي كانت تمر بها لا يتسع لها ولا يعبأ بها.

مرَّت بي في شارع التحرير من حي الدقي بالقاهرة وكانت حديثة التجهيز، فإذا سيارة رِيجاتا مسنونة الجانب تقف فجأة من غير تنبيه، وتطعن كشافها بسن جانبها، ويخرج سائقها، فينادي سائق تاكسي أمامه: تَعالَ؛ أين تذهب! يريد أن يقنعني بأنه بريء مما فعلته بها سيارته، وأنه ذنب سائق التاكسي الذي ركن إلى اليمين لينزل ركابا ويحمل غيرهم، ثم انعطف فجأة إلى اليسار. وهو صادق، ولكنه مقصر بإهمال إصلاح كشافات سيارته الخلفية.

نزلتُ -وما كان أحراني ألا أنزل- فقد سَدَّت الطريق، وعَطَّلت الناس، ولم نجد من الشرطة من يفصل في الأمر، إلا أحد المتطوعين من المارة بكلمة من الحكمة العملية العالية: أنا رجل كُفْتَجِيّ (متواضع المستوى)ØŒ أرى أن تستعيض ربنا وتتوكل عليه، لأنك على حسب الظاهر صادم لا مصدوم! وتطوّع آخر بعدما اجتمع علينا شَعْبُ المكان: أنت -ما شاء الله!-  رجل أعمال، لن يؤثر فيك ثمن كشاف! وتطوّع أحد ركاب التاكسي نفسه بعدما ضَجِرَ لتأخره عن عمله: لقد كنتَ مسرعا، والسرعة هنا عشرة كيلوات في الساعة! فاضطررت أن أسامح سائق التاكسي الذي لم يصدق حتى أَكَّدْتُ له، ومضيت!

            ومرّت بي في طريق القاهرة الحر إلى الإسكندرية تنهب الأرض، فانتهت ولم تشبع، فإذا طريقٌ مَكروبٌ بشاحنة ضخمة من عن يسار، وبسكة القطار من عن يمين، وبحواجز إسمنتية ضخمة مفاجئة من أمام، ضيَّقت بها الشرطة الطريق لتضطر السيارات إلى الإبطاء أمام كَمينها غير الكَمين -وكانت معي أسرتي كلها- فاجتهدت عَبَثًا أن أخفف من سرعتها؛ فقد كان الطريق متربا يُزَحْلِقها مهما تمسكت به. وفكّرتُ في الإفلات يمينا؛ فخفت الانقلاب عن مرتفع سكة القطار- ثم في الإفلات يسارا أَسْبَقَ من الشاحنة؛ فخفت أن تدركني قبل حواجز الشرطة فأضيع بينهما! ولم أجد خيرا من أن أصدم الحواجز! نعم؛ فأقبلت عليها مثلما يقبل الاستشهاديّون دون أن يعرف شيئًا أحدٌ من أسرتي المشغولة داخلها بنفسها! قالت أم براء لنفسها: لماذا توقَّفَتْ؟ ولم تدر أنها أطاحت بأحد حواجز الشرطة مثلما تنقله شواحن حمله الضخمة من مكان إلى مكان، وفتحت لنفسها منفذا، ثم توقفت!

قيل: أصدمت الحاجز حقا! وقيل: لو كانت غيرها لوجدت الحاجز على مقعدها الخلفي! وقيل: احمد الله على نجاتك أنت وأسرتك! وقيل: لهذا يصر بعض رجال الأعمال الجوالين على ألا يركب غيرها! وقيل، وقيل، وقيل،…ØŒ ولكنها لم تستمع لما قيل، وأطالت مكوثها عند معالجيها! فإن تكن حقَّرتْ إليَّ الأموال الكثيرة، وجَرَّأَتْني على بَذْلها -وهذه مَنْقَبَتُها اليتيمة- لقد عوَّدتني على غيابها، حتى فارقتُها غيرَ مشتاقٍ إليها، ولا متمسكٍ بها، ولا نادمٍ عليها!

فلا ردَّها اللهُ، أيّةَ شيطانةٍ كانتْ!

Related posts

One Thought to “سيارتي الشبح لا ردها الله 1-3”

  1. تعليق الدكتور سالم العريمي،
    مدير مكتبة صور من محافظة الشرقية العمانية:
    “مقالة جميلة أصيلة أسيلة كصاحبتها الشبح
    فلئن تركتها غير نادم فلعل الله يبدلك واقعا خيرا منها وحقيقة أجمل منها بكثير.
    والشبح بها من الصفات الكثير: قوة من غير ضعف وشجاعة من غير خوف ومكانة لا تخشى عليها الضيم والحيف.
    فليتك صابرتها وكنت لها كما قال فاروق جويدة لمحبوبته:

    وأنا الوحيدُ أسيرُ وحدي فوقَ خاطرةِ الرصيفْ

    والعيدُ والأشواتُ والظلُّ الكثيفْ
    أنا دونكِ الشبحُ المخيفْ.

    عوضك الله خير أستاذي ورزقك خيرا منها ووهبك مما جادت به صنائع بني الأصفر من بدائع المركبات والسيارات”.

Leave a Comment