رأس الجنز

De Ras Al Jeanz a San Sebastián
Diario de estudiante omaní
من رأس الجنز إلى سان سبستيان
مذكرات طالب عُماني
الصيد في رأس الجنز

    الآن، في هذا البرد الرطب وهذا الليل المعتم أتت تسعى ممتلئةً شحمًا ولحمًا سعيَ أنثى إلى ذكر بأردافها الصلبة ومناكبها الناتئة، تزفر وتتنهّد وحبات الرمل تتطاير على وقع أنفاسها تحملها رياح الشمال(الأزيب) الباردة إلى أمواج بحر العرب، وبعضه يقع على رأسي ووجهي، تعسًا! وتبًا! قلت: أين أهل حدرا عنك!
    جاءت تشاركني فراشي الدافئ وتقطع لذة النوم بعد يومٍ طويلٍ مُرْهِقٍ لا حول ولا قوة إلا بالله أبي سيرفع الآذان بعد قليل كعادته قبل الفجر بساعة أو أكثر اعتمادًا على النجوم، حملت فراشي وتركت لهذه العجوز البائسة الحفرة وبحثت عن حفرة أخرى دافئة بعيدة عن الشاطئ لا تشاركني فيها سلحفاة خضراء أو حمراء تأتي ترمي بيضها نهبًا للثعالب والقوارض الجائعة.
    حفرت بعمق في حفرة قديمة للسلاحف بعيدة هذه المرة، حفرت الرمال البيضاء بحثا عن حرارة الأرض، ارتميت ناعسًا وجسدي منحنٍ رأسي في طرف الحفرة ورجلي في الطرف الآخر، والباقي تماهى مع شكل الحفرة، غطيت جسدي بغطاء من قطن مليء بالرمال ورائحة السمك التي تشاركك أحلامك حتى كأن الأحلام في تلك الليالي مقصورة على أحلام بحرية فحسب، وهي نتيجة طبيعية فأصوات الأمواج تتكسر على عتبة أذني والرياح تأن وتحن فوق رأسي والرمال تدفن العاري من جسدي، ورائحة السمك لا تفارق أنفي، سويعات وأنهضني أبي بصراخ عالٍ وصوت أجش شكلت تيارات المحيط وعواصف بحر الرجال (بحر العرب) كما يسميه أبي شيئا من نبراته الخشنة الوعرة وعورة مسار بحري بقارب فايبرجلاس ومحرك ياماها من رأس رويس إلى رأس فرتك في موسم الخرف أو الخريف !!
    سخّنت الماء على نار من خشب السمر وتوضأت ثم صليت، وتجمعنا وعمي مسلم يعد القهوة ويقرع غليونه على صخرة صغيرة صماء ثم حشاها بالتبغ (التنباك) وأشعلها ثلاث مرات عجاف رائحة جميلة تحرك في مخيلة الصبي معالم الرجولة والبطولة ففي ثقافتي ثلاث أشياء من مكونات الرجولة: الدوخة ولكروزر (سيارة دفع رباعي) والناقة أو القارب فالأولى سفينة الصحراء وأما القارب أو (الثيبر) بلهجتنا نحن سكّان الساحل الشرقي من عمان فهو سفينة البحار والماء.
    أخذت خبز (السمُّون) ووضعته على جمر لدقائق حتى يشوى وغمصته في شاي الكرك، أهٍ يا له من مذاق لذيذ خبز بطعم الرماد ونكهة الشاي وحرارة السكر، هذا المذاق لا يكاد يفارق طعمه لساني !
دفعنا القارب مع شروق الشمس إلى البحر بمساعدة السيارة بسرعة حتى لا تتكسر الأمواج المحيطية على قاربنا، قريني أحمد بن مسّلم يحاول أن يظهر مهاراته أمامنا حتى يحصل على الثناء والمدح وأنا يكال لي السُّباب والذم.
– لا عليك سترى قريبًا لا محالةَ !
    استخرجنا القرقور (قفص حديدي يصاد به السمك) الأول صيّد جيد ما يقارب عشرين كيلوًا من أسماك العندق والذعرة والغزالة، وكذلك الثاني والثالث، نحن ستة في القارب نسحب (القراقير أو الدوابي ) حوالي عشرين قرقورًا من الصباح إلى العصر، والحبل مشتد لا يكاد يستطيع شخص بمفرده أن يرفع القرقور من القاع، أحمد مسلم أمامي يرميني تارة بأسماك الفقل وتارةً أخرى ببقايا الأسماك الميتة في القرقور ورائحتها نتنة جدًا لا تستطيع أن تميط اللثام عن وجهك بسبب البرد أولاً وبسبب الرائحة ثانيًا، بينما كان البقية يبارون القرقور (يستخرجون الأسماك)، تقدمت قليلاً وأحمد مسلم قد أمسك بالحبل جيدًا من طرف وقد لفّه على يده وربطه من طرف آخر في الجارية(عارضة خشبية في القارب)، وهو غير منتبه نسّمت الحبل قليلاً أي أرخيته، فسقط أحمد مسلم بحرًا وفي البرد !!
– ثم صرخت سلامات .. سلامات !! ورفعته إلى القارب نظر إليّ وعينه تشتعل غضبًا!! وقال: الله يلعنك يا …!
– حاول أن يسقطني لكني كنت قد وثّقت نفسي جيدًا، لم يستطع أن يفعل شيئًا أمام القوم، توعدني لاحقا، سترى(ما عليك بتشوف) وأطلق سيلاً من السُباب بصوت خافت.
    كما تدين تدان! وبسرعة هذه المرة أخرجنا قرقورًا فيه ثعبان البحر(الأنقليس) يعض ويقطع ليس فيه سُمٌّ، حاولت أن أطعن الأنقليس(الحوين) بالسكين لكنه كان أسرع فنهش يدي من وراء القفاز أو الجوارب اليدوية، وقد أخذ قطعةً من يدي وبدأ الدم يسيل بتدفق وأن أصرخ وأبي يقول لي: نجّس الجرح أي: بُل عليه!!
    بعد سنين أدركت أن كلام أبي صحيح فقد طلبت علاجًا للسعات البحر المختلفة فكتب لي الطبيب حامض الأمونيا وقال: هو علاج لكل لسعات البحر المختلفة، الآن أدركت حكمة (الشوبة) أبي وجدي وغيرهم، فالمكوّن الرئيسي في بول الإنسان هو حامض الأمونيا لذلك قال لي أبي: نجّس الجرح، وهو كلام يحمل شيئًا من الاعتقاد(الخرافة) وشيئا من العلم، فيبدو أنهم لاحظوا أن البول علاج جيد للسعات البحر ولكنهم لم يدركوا السبب العلمي فذهبوا إلى تفسيره مثيولوجيًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – المناطق من رأس رويس وغيرها يحبون أكل السلاحف، بل ويفضلونها على أفضل الأسماك بينما المناطق من رأس الجنز فما فوق يرفضون أكلها.

 

Related posts

Leave a Comment