واعروض شعراه

قلت لأستاذي وصديقي الدكتور شعبان صلاح -وكان وكيل كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكبير أساتذة مقررنا المشترك-: اقرأ هذا المقال؛ فإذا أعجبك تركتني أدرّس لطلابي ما جهزتُ لهم، وكان شيئا يدل عليه المقال!
قال: قد قرأته، وأعجبني حتى زادني تمسكا بنهيك عما تريد!
ثم ها هو ذا يقرأ ما كتبته الآن، ÙÙŠÙƒØªØ¨ إليّ: رعاك الله، ورعى منهجك، وقيض لك من يقدر على الإفادة منه!
فأكتب: أضفتها! وتمنيت أن أعلق عليها: طب ما كان م الأول!
فيكتب: لا يوجد من يقدر! والدعاء لا يعني أن ذلك كان وقتها ممكنا. كان هذا تقديرنا للموقف وما زال!
فأكتب: واضح واضح، يا أبا أسامة، إنما مازحتك؛ اللهم إنك صائم، وإني!
فيكتب: هذا أسلوب للمريدين ليس غير، فحين يتحلقون حولك غرّدْ، وساعتها يلذ العطاء وتعظم الجدوى.


يا رَوْضَةَ النّيلِ لا مَسَّــتْكِ بائِقَةٌ وَلا عَدَتْكِ سَـماءٌ ذاتُ أَغْداق
وَلا بَرِحْتِ مِنَ الْأَوْراقِ في حُلَلٍ مِنْ سُـنْدُسٍ عَبْقَريِّ الْوَشْيِ بَرّاق
يا حَبَّذا نَسَـمٌ مِنْ جَوِّها عَبِقٌ يَسْـــري عَلى جَدْوَلٍ بِالْماءِ دَفّاق
بَلْ حَبَّذا دَوْحَةٌ تَدْعو الْهَديلَ بِها عِنْدَ الصَّـــباحِ قَماريٌّ بِأَطْواق
مَرْعى جِيادي وَمَأْوى جيرَتي وَحِمى قَوْمي وَمَنْبِتُ آدابي وَأَعْراقي
في قَلْبِ مَدارِ النيل الجليل تُزْهِرُ رَوْضَةُ مِصْرَ العَتيقةِ مُبارَكةً بدعوة محمود سامي البارودي رَبِّ السَّيْفِ والقَلَمِ السابقة بظهر غَيْبِهِ عنها في سَرَنْديبَ مَنْفيًّا مع أحمد عرابي -رضي الله عنهما!- ثورةً لكرامتها.
ثم في قَلْبِ رَوْضَةِ مِصْرَ الْعَتيقَةِ يَدورُ مَيْدانُ المَماليكِ البَحْريَّةِ قريبا من مِقْياس النيل الذي كانت مَسيرةُ سلطانهم في دَوْلَتِهِمْ من القلعة إليه وفاءً بوفاءٍ، مَحْفِلًا حافِلًا بَهيجًا مُبْهِجًا.
ثم على قلب مَيْدان المماليك البَحْرية تقوم أَشْجارٌ مُلْتَفَّةٌ مُسَوَّرَةٌ مُبَوَّبَةٌ مُغْلَقَةٌ مُثيرةٌ نَهارًا مُخيفَةٌ لَيْلًا، كأنها تاجُ المماليك الخُرافيُّ يَنْتَظِرُ دَوْلَتَهُمْ!
ثم من قلب تّاجِ المماليك تَتَنادى زَمْزَماتٌ فَيْتوريَّةٌ تَتَقاذَفُها أَرْجاؤه:
دن دن… دددن… دن دن… دددن… دن دن… دنّْ
في حَضْـ… رَةِ مَنْ… أَهْوى… عَبِثَتْ… بي الْأَشْـ… واقْ
دن دن… دددن… دن دن… دددن… دددن… دنّْ
حَدَّقْـ… تُ بِلا… رَأْسٍ… وَرَقَصْـ… تُ بِلا… ساقْ
دددن… دددن… دن دن… دددن… دن دن… دنّْ
وَزَحَمْـ… تُ بِرا… ياتي… وَطُبو… لي الْآ… فاقْ
دن دن… دن دن… دن دن… دددن… دن دن… دنْ
عِشْقي… يُفْني… عِشْقي… وَفَنا… ئي اسْتِغْـ… راقْ
دن دن… دددن… دن دن… دن دن… دن دن… دنّْ
مَمْلو… كُكَ لـ… كنّي… سُلْطا… نُ الْعُشـ… شاقْ
فَيَتَفَجَّرُ من تحته يَنْبوعٌ مُثَلَّثُ العيون عن ثلاثة أَشْباحٍ سُمْرٍ مُؤْتَلفينَ مُخْتَلفينَ: أَمّا أَنَسٌ فشابٌّ جَليدٌ مُتَزَمِّلٌ بالأبيض الناصع، وأما أَيْمَن فكَهْلٌ بَدينٌ مُتَلَفِّعٌ بالأخضر الداكن، وأما بَراء فشَيْخٌ سَمينٌ مُتَلَفِّفٌ بالأسود الدامس، قَدْ وَلَّوْا وُجوهَهُمْ شَطْرَ مُنْحَدَرِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بِصَدًى حَسّانيٍّ واحِدٍ:
ددن دن… ددن دن… ددن دن… ددن د… ددن دن… ددن د… ددن دن… ددن
وَلي صا… حِبٌ مِنْ… بَني الشَّيْـ… صَبانِ… فَطَوْرًا… أَقولُ… وَطَوْرًا… هُوَهْ
فإذا تَيّارٌ مَوّارٌ يَتَدَفَّقُ مِنْ صَبَبٍ شَطْرَهُمْ ثم يتفجر عن شَبَحٍ مُنْكَرٍ بينهم مَعْروفٍ عندهم، بصَوتٍ غَريبٍ واحِدٍ:
ددن دن… ددن دن… ددن
أَتَيْتُ الْـ… مَدى عَنْ… قَدَرْ
ددن د… ددن دن… ددن
رَكِبْتُ… رُؤوسَ الْـ… بَطَرْ
ددن د… ددن دن… ددن
وَصَلْتُ… شُعاعَ الْـ… خَطَرْ
ددن د… ددن دن… ددن
بِطاعَـ… ةِ رَأْيِ الْـ… حَذَرْ
ددن د… ددن دن… ددن دن
أَنا دَ… رَكُ الطَّيْـ… شِ شَحْبَلْ
ددن د… ددن دن… ددن دن… ددن دن
سَيَنْفَـ… تِحُ الْبا… بُ يَوْمًا… لِأَدْخُلْ
فصاحوا: مَوْلانا أبو مِذْوَدٍ شَحْبَلُ بْنُ مِسْحَلِ بْنِ أَبي مُرَّةَ الشَّيْصَبانيّ، سِلْمُ كُلِّ فَنّانٍ إِنْسانيّ، حَرْبُ كُلِّ عالِمٍ حَيَوانيّ!
أبو مذود: مَرْحى بِمَنْ طَرِبوا لِلْفَنِّ فَاقْتَرَبوا مَرْحى وَلَوْ نَصِبوا لِلْعِلْمِ لَاغْتَرَبوا
مواليه: يا بَهْجَتَنا بِكَ حاضِرًا فينا غائِبًا عَنّا، وشَوْقَنا إِلَيْكَ غائِبًا عَنّا حاضِرًا فينا!
أبو مذود: يا بَهْجَتي جَميعًا بِكُمْ شَمْلي.
مواليه: أحسن الله إليك! إنما نحن مَواليكَ وخِرّيجوكَ!
أبو مذود: أحسن الله إليكم! بل أنتم مَكْمَلي ومَحْياي ومَخْلَدي.
مواليه: عافاكَ اللهُ! أَبِفَنائِنا تَخْلُد، أَمْ بِمَواتِنا تَحْيا، أَمْ بِنَقْصِنا تَكْمُلُ!
أبو مذود: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ. إِنَّ وَراءَ الْأَكَمَةِ ما وَراءَها!
مواليه: وَراؤُها كَأَمامِها:
فَغَدَتْ كِلا الْفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ مَوْلى الْمَخافَةِ خَلْفُها وَأَمامُها!
أبو مذود: تِلْكُمْ -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- بَقَرَةُ سيدنا لَبيدٍ -رضي الله عنه!- أَدْرَكها الكَلّابُ وكِلابُهُ!
مواليه: فَنَجّاها منهما؛ فَمَنْ لِأَهْوالٍ يُخَفِّفُ بَعْضُها بَعْضًا!
أبو مذود: “اللهُ يُنَجّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ”Ø› فَمَهْ؟
مواليه: طلبنا حقيقة أنفسنا وحقيقة مَن حَوْلَنا وما حَوْلَنا.
أبو مذود: عَزَّتْ أَهْوالًا وجَلَّتْ!
مواليه: فَتَنازَعَتْنا الحقائِقُ!
أبو مذود: كيف -يا مساكين- وما ثَمَّ إلا حقيقةٌ واحدة عليها تدور الصور:
وَفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ الْواحِدُ
لَكَأَنَّكُمْ ما طلبتم إلا الأوهام؛ فهاتوا ما عندكم!
مواليه: أولِعْنا بالكلام؛ فَنَحْنُ نَتَأَمَّلُه.
أبو مذود: أيُّ كَلامٍ؟
مواليه: كلام الحق -سبحانه، وتعالى!- ثم كلام رسوله -صلى الله عليه، وسلم!- ثم كلام أوليائهما -رضي الله عنهم!- ثم كلامنا وكلام سائر الناس -عفا الله عنا!- في كل زمان ومكان، الذي نقف عليه أو يقف علينا.
أبو مذود: عَزَّ كَلامًا، وَجَلَّ! وأيُّ تَأَمُّلٍ؟
مواليه: مُذاكرةُ مسائلَ فيه سائرة مشكلة.
أبو مذود: عَزَّ تَأَمُّلًا، وَجَلَّ! مِنْ مِثْلِ مَهْ؟
مواليه: مِنْ مِثْلِ مسألة تخريج الشعر في علم العروض.
أبو مذود: إِنَّها لَمَسْأَلَةٌ؛ فَكَيْفَ نَشَأَ لَكُمْ أَصْلُها؟
أنس: تَساجلنا مرة في عروض الشعر العربي، على أن يُعَيِّنَ البادئُ ما شاء من أنماطه معروفةً أو مجهولةً، لِيُنْشِدَ منها المبدوءان ما شاءا من القصائد معروفةً أو مجهولةً.
أبو مذود: ما في هذا مِنْ بَأْسٍ؟
أنس: فَعَيَّنْتُ نمطًا بسيطيًّا، وافيًا، مخبونَ العروض والضرب، نونيًّا، مضمومًا، مجردًا، موصولا بالواو؛ فأنشدني براء من لامية أبي بصير أعشى قيس الباذخة الشامخة، قوله:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِل وَهَلْ تُطـيقُ وَداعًا أَيُّها الرَّجُـل
غَرّاءُ فَرْعاءُ مَصْقولٌ عَوارِضُها تَمْشــي الْهُوَيْنى كَما يَمْشي الْوَجي الْوَحِل
كَأَنَّ مِشْيَتَـها مِنْ بَيْتِ جارَتِها مَرُّ السَّــحابَةِ لا رَيْـثٌ وَلا عَجَل
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْــواسًا إِذا انْصَرَفَتْ كَما اسْتَعانَ بِريحٍ عِشْـرِقٌ زَجِل
لَيْسَـتْ كَمَنْ يَكْـرَهُ الْجيرانُ طَلْعَتَـها وَلا تَراها لِسِرِّ الْجارِ تَخْتَتِل
يَكـادُ يَصْرَعُــها لَوْلا تَشَـدُّدُها إِذا تَقـومُ إِلى جاراتِهـا الْكَسَل
إِذا تَقومُ يَضوعُ الْمِسْـكُ أَصْوِرَةً وَالزَّنْبَقُ الْوَرْدُ مِنْ أَرْدانِـها شَمِل
ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الْحَزْنِ مُعْشِــبَةٌ خَضْراءُ جادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِل
يُضاحِكُ الشَّمْـسَ مِنْها كَوْكَبٌ شَـرِقٌ مُؤَزَّرٌ بِعَمـيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِل
يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْـها نَشْـــرَ رائِحَةٍ وَلا بِأَحْسَـنَ مِنْها إِذْ دَنا الْأُصُـل
أبو مذود: تأملوا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- كيف أثنى على صاحبته خَلْقًا وخُلُقًا، ثم كيف وَضَعها مَوْضِعَها من محاسن خَلْقِ الله، ثم كيف خَيَّلَ لَنا قَوْلَ رسولنا -صلى الله عليه، وسلم!-: “إِنَّما الدُّنْيا مَتاعٌ، وَخَيْرُ مَتاعِها الْمَرْأَةُ الصّالِحَةُ”ØŒ ثم لا تذهلوا عما في قوله: “لَوْلا تَشَدُّدُها”ØŒ من احتراس شريف؛ فقاتله الله، ما أشعره!
أنس: وأنشدني أيمن من نونيَّة أبي الطَّيِّبِ المُتَنَبّي الباذخة الشامخة، قوله:
بِمَ التَّعَلُّلُ لا أَهْلٌ وَلا وَطَن وَلا نَديمٌ وَلا كَأْسٌ وَلا سَكَن
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أَنْ يُبَلِّغَني ما لَيْـسَ يَبْلُغُـهُ في نَفْسِـهِ الزَّمَـن
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إِلّا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ ما دامَ يَصْـحَبُ فيهِ روحَـكَ الْبَدَن
فَما يُديمُ سُـرورٌ ما سُــرِرْتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيْـكَ الفائِتَ الْحَزَن
مِمّا أَضَرَّ بِأَهْلِ الْعِشْـقِ أَنَّهُمُ هَووا وَما عَرَفوا الدُّنْيا وَما فَطِنـوا
تَفْنى عُيونُهُمُ دَمْعًا وَأَنْفُسُـــهُمْ في إِثْرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجْـهُهُ حَسَـن
تَحَمَّــلوا حَمَلَتْكُـمْ كُلُّ ناجِيَةٍ فَكُـلُّ بَيْنٍ عَلَيَّ الْيَوْمَ مُؤْتَمَـــن
ما في هَوادِجِكُمْ مِنْ مُهْجَتي عِوَضٌ إِنْ مِتُّ شَوْقًا وَلا فيها لَها ثَمَن
يا مَنْ نُعيتُ عَلى بُعْدٍ بِمَجْلِسِـهِ كُلٌّ بِما زَعَمَ الْواشــونَ مُرْتَهَن
كَمْ قَدْ قُتِلْتُ وَكَمْ قَدْ مِــتُّ عِنْدَكُمُ ثُمَّ انْتَفَضْتُ فَزالَ الْقَبْرُ وَالْكَفَن
قَدْ كانَ شـاهَدَ دَفْني قَبْلَ قَوْلِهِـمُ جَمـاعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبْلَ مَنْ دَفَنوا
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ تَجْري الرِّياحُ بِما لا تَشْـتَهي السُّفُن
أبو مذود: تأملوا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- كيف أَشْرَفُ على الدنيا فارسا متحققا بمعنى الفروسية، عالي الهمة، طامح الأمل، شديد الأنفة، ثم كيف ضَيَّعَ هو تضييعه واهتدى، وقَتَّلَ هو تقتيله وعاش، ثم كيف خَيَّلَ لنا ما سارت به سيرة عنترة الفلحاء، مِنِ انْتِفاضِهِ مِنْ قَبْرِهِ لما اجْتَرَأَ عليه زائِرُه؛ فقاتله الله، ما أشعره!
أنس: فأحسنا ما شاءا؛ فإن القصيدتين تتخرجان بالتَّقْطيع (بيان أجزاء كل بيت من القصيدة)، ثم بالتَّوْقيع (بيان دندنة إيقاع الأجزاء)، ثم بالتَّفْعيل (بيان رموز التفاعيل المصطلح بها على الأجزاء)، ثم بالتَّوْصيف (بيان أحوال التفاعيل سلامة وتغيرا)، في علم العروض، على مثل ما يتخرج آخر ما أنشدا منهما فيما يلي:
يَوْمًا بِأَطْـ يَبَ مِنْ ها نَشْرَ را ئِحَةٍ وَلا بِأَحْـ سَنَ مِنْ ها إِذْ دَنا الْـ أُصُل
دن دن ددن دددن دن دن ددن دددن ددن ددن دددن دن دن ددن دددن
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن متفعلن فعلن مستفعلن فعلن
سالمة مخْبونة سالمة مخبونة مخبونة مخبونة سالمة مخبونة
ما كُلُّ ما يَتَمَنـْ نى الْمَرْءُ يُدْ رِكُهُ تَجْري الرِّيا حُ بِما لا تَشْتَهي السْـ سُفُن
دن دن ددن دددن دن دن ددن دددن دن دن ددن دددن دن دن ددن دددن
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
سالمة مخْبونة سالمة مخبونة سالمة مخبونة سالمة مخبونة
فعَيَّنَ أيمن نمطا بسيطيًّا كذلك، بخمس وعشرين تفعيلة، وتسع أعاريض غير ثابتة الصورة، وستة أضرب أولها وثانيها ورابعها وخامسها مقطوعة مُسَبَّغَةٌ، وثالثها وسادسها مُذَيَّلانِ، نونيًّا، مقيدا، أولى قوافيه وثانيتها ورابعتها وخامستها مُرْدَفاتٌ بالألف وثالثتها وسادستها مردفتان بياء المد- فَبُهِتُّ أنا وبراء!
فقرأ علينا مما زعم أنه نونية محيي الدين بن عربي الأندلسي، قوله:
سَرائِرُ الْأَعْيانْ
لاحَتْ عَلى الْأَكْوانْ
لِلنّاظِرينْ
وَالْعاشِقُ الْغَيْرانْ
مِنْ ذاكَ في بُحْرانْ
يُبْدي الْأَنينْ
يَقولُ وَالْوَجْد
أَضْناهُ وَالْبُعْد
قَدْ حَيَّرَهْ
لَمّا دَنا الْبُعْد
لَمْ أَدْرِ مِنْ بَعْد
مَنْ غَيَّرَهْ
وَهُيِّمَ الْعَبْد
وَالْواحِدُ الْفَرْد
قَدْ خَيَّرَهْ
في الْبَوْحِ وَالْكِتْمانْ
وَالسِّرِّ وَالْإِعْلانْ
في الْعالَمينْ
أَنا هُوَ الدَّيّانْ
يا عابِدَ الْأَوْثانْ
أَنْتَ الضَّنينْ
كُلُّ الْهَوى صَعْب
عَلى الَّذي يَشْكو
ذُلَّ الْحِجابْ
يا مَنْ لَهُ قَلْب
لَوْ أَنَّهُ يَذْكو
عِنْدَ الشَّبابْ
قَرَّبَهُ الرَّبّ
لكِنَّهُ إِفْك
فَانْوِ الْمَتابْ
وَنادِ يا رَحْمنْ
يا بَرُّ يا مَنّانْ
إِنّي حَزينْ
أَضْنانِيَ الْهِجْرانْ
وَلا حَبيبٌ دانْ
وَلا مُعينْ (…)
دَخَلْتُ في بُسْتانْ
اَلْأُنْسِ وَالْقُرْب
لِمَكْنِسِهْ
فَقامَ لي الرَّيْحانْ
يَخْتالُ مِنْ عُجْب
في سُنْدُسِهْ
أَنا هُو يا إِنْسانْ
مُطَيِّبُ الصَّبّ
في مَجْلِسِهْ
جَنّانُ يا جَنّانْ
اِجْنِ مِنَ الْبُسْتانْ
اَلْياسَمينْ
وَخَلِّ ذا الرَّيْحانْ
بِحُرْمَةِ الرَّحْمنْ
لِلْعاشِقينْ
أبو مذود: تأملوا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- كيف أذاب خَلْقَ الحَقِّ -سبحانه، وتعالى!- كُلَّه بعضه في بعض بماء الطاعة، ثم كيف دَلَّ على تَأَتي مَقام المعرفة بالصبر على الكَشْف، ثم كيف خَيَّلَ لنا قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: “أَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعيمٍ”Ø› فقاتله الله، ما أشعره!
أيمن: هي من النمط الذي عَيَّنْتُهُ لهما كما كانت نونية أبي الطيب من النمط الذي عَيَّنَهُ لنا أنس؛ فإنها تتخرج بالتقطيع ثم بالتَّوْقيع ثم بالتفعيل ثم بالتوصيف في علم العروض، على مثل ما يتخرج آخرها فيما يلي:
دَخَلْتُ في بُسْتانْ
ددن ددن دن دنّْ
متفعلن فاعلْنْ
مخبونة مقطوعة مُسَبَّغَةٌ
اَلْأُنْسِ وَالْـ قُرْب
دن دن ددن دن دن
مستفعلن فاعلْ
سالمة مقطوعة
لِمَكْنِسِهْ
ددن ددن
متفعلن
مخبونة
فَقامَ لي الرْ رَيْحانْ
ددن ددن دن دنّْ
متفعلن فاعلْنْ
مخبونة مقطوعة مسبغة
يَخْتالُ مِنْ عُجْب
دن دن ددن دن دن
مستفعلن فاعلْ
سالمة مقطوعة
في سُنْدُسِهْ
دن دن ددن
مستفعلن
سالمة
أَنا هُو يا إِنْسانْ
ددن ددن دن دنّْ
متفعلن فاعلْنْ
مخبونة مقطوعة مسبغة
مُطَيِّبُ الصْـ صَبّ
ددن ددن دن دن
متفعلن فاعلْ
مخبونة مقطوعة
في مَجْلِسِهْ
دن دن ددن
مستفعلن
سالمة
جَنّانُ يا جَنّانْ
دن دن ددن دن دنّْ
مستفعلن فاعلْنْ
سالمة مقطوعة مسبغة
اِجْنِ مِنَ الْـ بُسْتانْ
دن دددن دن دنّْ
مستعلن فاعلْنْ
مطوية مقطوعة مسبغة
اَلْياسَمينْ
دن دن ددنّْ
مستفعلان
مُذَيَّلةٌ
وَخَلِّ ذا الرْ رَيْحانْ
ددن ددن دن دنّْ
متفعلن فاعلْنْ
مخبونة مقطوعة مسبغة
بِحُرْمَةِ الرْ رَحْمنْ
ددن ددن دن دنّْ
متفعلن فاعلْنْ
مخبونة مقطوعة مسبغة
لِلْعاشِقينْ
دن دن ددنّْ
مستفعلان
مذيلة
أنس: فَعَيَّنَ براء نمطا بسيطيًّا كذلك، غيرَ ثابتِ الطول، ولا منقسمٍ -فلا عروضَ له- مقطوعَ الضرب، رائيًّا، مضموما، مردفًا بالألف، موصولًا بالواو؛ فبُهِتُّ أنا وأيمن!
فقرأ علينا فيما زعم أنه “طَلَليَّةُ” أحمد عبد المعطي حجازي، قوله:
كانَ الْحَنينُ مَدًى عَذْبا وَكانَ لَنا مِنْ وَجْهِها كَوْكَبٌ في اللَّيْلِ سَيّار
هذا دُخانُ الْقُرى ما زالَ يَتْبَعُنا وَمِلْءُ أَحْلامِنا زَرْعٌ وَأَجْنِحَةٌ وَصِبْيَةٌ وَطَريقٌ في الْحُقولِ إِلى الْمَوْتى وَصَبّار
فَمُلْتَقى الْأَرْضِ بِالْأُفْقِ الَّذي اشْتَعَلَتْ أَلْوانُهُ شَفَقًا فَالْقاطِراتُ الَّتي غابَتْ مُوَلْوِلَةً في بُؤْرَةِ الضَّوْءِ فَالْحُزْنُ الَّذي هَطَلَتْ عَلَيَّ أَمْطارُهُ يَوْمًا فَصِرْتُ إِلى طَيْرٍ وَسافَرْتُ مِنْ حُزْنِ الصَّبيِّ إِلى حُزْنِ الرِّجالِ فَكُلُّ الْعُمْرِ أَسْفار
يا صاحِبَيَّ قِفا فَالشَّمْسُ قَدْ رَجَعَتْ وَلَمْ تَعُدْ بِغَدٍ كُلُّ الْمَقاهي انْتِظارٌ ساءَ ما فَعَلَتْ بِنا السِّنونَ الَّتي تَمْضي وَنَحْنُ عَلى مَوائِدٍ في الزَّوايا ضارعينَ إِلى شَمْسٍ تَخَلَّلَتِ الْبِلَّوْرَ واهِنَةً وَلامَسَتْ جِلْدَنا الْمُعْتَلَّ وَانْحَسَرَتْ عَنّا إِلى جارِنا فَما نَعِمْنا وَلَمْ يَنْعَمْ بِها الْجار
يا صاحِبَيَّ أَخَمْرٌ في كُؤوسِكُما أَمْ في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَذْكار
وَما الَّذي تَنْفَعُ الذِّكْرى إِذا نَكَأَتْ في الْقَلْبِ جُرْحًا عَلِمْنا لا دَواءَ لَهُ حَتّى نَعودَ وَما يَبْدو أَنِ اقْتَرَبَتْ أَيّامُ عَوْدَتِنا وَالْجُرْحُ نَغّار
ها نَحْنُ نُفْرِطُ فَوْقَ النَّهْرِ وَرْدَتِنا وَتِلْكَ أَوْراقُها تَنْأى وَيَأْخُذُها وَراءَ أَحْلامِنا مَوْجٌ وَتَيّار
يا صاحِبَيَّ أَحَقًّا أَنَّها وَسِعَتْ أَعْداءَها وَجَفَتْ أَبْناءَها الدّار
لَوْ أَنَّها حوصِرَتْ حَتّى النِّهايَةِ حَتّى الْمَوْتِ لَوْ سَحَبَتْ عَلى مَفاتِنِها غِلالَةً مِنْ مِياهِ النِّيلِ وَاضْطَجَعَتْ في قاعِهِ لَوْ سَفَتْها الرِّيحُ فَانْطَمَرَتْ في الرَّمْلِ وَانْدَلَعَتْ مِنْ كُلِّ وَرْدَةِ جُرْحٍ وَرْدَةٌ فَالْمَدى عُشْبٌ وَنُوّار
هذا دُخانُ قُراها يَقْتَفي دَمَنا وَمِلْءُ أَحْلامِنا زَرْعٌ وَأَجْنِحَةٌ وَمِلْءُ أَحْلامِنا ذِئْبٌ نَهَشُّ لَهُ نَسْقيهِ مِنْ كَأْسِنا الذّاوي وَنَسْأَلُهُ عَنْها وَنَنْهار
أبو مذود: تَأَمَّلوا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- كيف أحال بلده المعمور إلى أَطْلالٍ مُخْرَجًا، ثم كيف وقف على الأطلال البعيدة قريبا، ثم كيف رَدَّ الذكرى على الذكرى خائفا، ثم كيف خَيَّلَ لنا صَوابَ دَعْوَةِ الأَوَّلِ على الأطلال: “وَلا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ الْقَطْرُ” كارها كُلَّ مُؤَمِّنٍ؛ فقاتله الله، ما أشعره!
براء: هي من النمط الذي عَيَّنْتُهُ لهما كما كانت نونية أبي الطيب من النمط الذي عَيَّنَهُ لنا أنس، وكما كانت نونية محيي الدين بن عربي الأندلسي من النمط الذي عينه لنا أيمن؛ فإنها تتخرج بالتقطيع ثم بالتَّوْقيعِ ثم بالتفعيل ثم بالتوصيف في علم العروض، على مثل ما يتخرج آخرها فيما يلي:
هذا دُخا نُ قُرا ها يَقْتَفي دَمَنا وَمِلْءُ أَحْـ لامِنا زَرْعٌ وَأَجْـ نِحَةٌ وَمِلْءُ أَحْـ
دن دن ددن دددن دن دن ددن دددن ددن ددن دن ددن دن دن ددن دددن ددن ددن
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن متفعلن فاعلن مستفعلن فعلن متفعلن
سالمة مخبونة سالمة مخبونة مخبونة سالمة سالمة مخبونة مخبونة
لامِنا ذِئْبٌ نَهَشْـ شُ لَهُ نَسْقيهِ مِنْ كَأْسِنا الذْ ذاوي وَنَسْـ أَلُهُ عَنْها وَنَنْـ هار
دن ددن دن دن ددن دددن دن دن ددن دن ددن دن دن ددن دددن دن دن ددن دن دن
فاعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن مستفعلن فاعلْ
سالمة سالمة مخبونة سالمة سالمة سالمة مخبونة سالمة مقطوعة
أنس: فصحتُ أنا وأيمن أنْ بئس -والله- النمط ما نَمَّطتَّ يا براء! فصاح فينا: بل بئس -والله- الطَّرَبُ ما طَرِبْتُما! ثم بئس النمطُ -وأَعَنْتُهُ على هذه- ما نَمَّطتَّ يا أيمن! فصاح فينا بل بئس -والله- الطَّرَبُ ما طَرِبْتُما!
أبو مذود: بل بئس -والله- الخَيْبَةُ ما خِبْتُ!
مواليه: اللهم نجاةً!
أبو مذود: مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْغَفَلَةِ!
مواليه: حاشاك وإيّانا أن نكون من الغافلين!
أبو مذود: وهل أغفل ممن استأنسوا من العلم مستوحشين من الفن، “وَما تَفَرَّقوا إِلّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ”ØŒ صدق الله العظيم!
مواليه: حَنانَيْكَ، مولانا، قلوبنا أَوْعِيَةٌ أَواعٍ بين يديك!
أبو مذود: إِنَّ الْمُوَصَّيْنَ بَنو سَهْوانَ!
مواليه: “عَفا اللّهُ عَمّا سَلَفَ”!
فَتَساخَرَ أبو مذود: فأما السالف منكم إليَّ فلا!
فَتَصاغَرَ مواليه: “وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ”!
فَرَقَّ لَهُمْ أبو مذود: “لا تَثْريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ”.
اعلموا -يا مساكين- أنكم جميعا مصيبون غير مخطئين؛ فلقد تساجلتم في عروض الشعر لا في علم عروض الشعر، وإن كنتم عَيَّنْتُمْ أعاريضكم بمصطلحاته.
وبين عروض الشعر وعلم عروضه فرق واضح؛ فعروضه تكرار مُرَكَّباتِ مقاطع أصواته اللغوية المُعَيَّنَةِ، على نحو خاص يدركه السامع ويرتاح له، وعلم عروضه منهج البحث عنه المفضي إلى ضبطه بقواعد أصيلة جامعة مانعة.
ثم بين حركة عروض الشعر وحركة علم عروضه فرق كذلك واضح؛ فحركة عروضه سريعة سابقة لحركة علمه، وحركة علمه بطيئة لاحقة لحركة عروضه؛ فربما وَلَّدَ شاعر في شعره ما أَهمله عالم في علمه جريًا على ألا يثبت إلا ما تواترت على توليده أجيال من الشعراء، وعلى قبوله أجيال من المتلقين.
براء: أجل، قد أهمل الخليل بحر المتدارك!
أبو مذود: أهمله -رضي الله عنه!- وله منه قصيدتان، إهمالَ العالِم، وأثبته على دائرة المُتَّفِقِ مُهْمَلًا؛ فلله دره، أيَّ إنسان كان! لَمّا لم يكن تَواتَرَ عليه غيره لم يثبته، وكأني بالأخفش وارثِ علمه وباب الناس إليه، لم يُعْمِلْهُ إلا بقصيدتيه إكبارا له!
أيمن: وربما تواترت على التوليد أجيال من الشعراء، وعلى القبول أجيال من المتلقين، والعالمُ على إهمالِهِ نَفْسِهِ لا يَتَحَلْحَلُ!
أبو مذود: أجل، نِحْلَةً فيه قَداميَّةً يَدْرَأُ بها نِحْلَةَ في الشعراء حَداثيَّةً أو مُسْتَقْبَليَّةً!
أنس: وهل القدامية في العلماء دون الفنانين، والحداثية والمستقبلية في الفنانين دون العلماء؟
أبو مذود: اعلموا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- أن القدامي من اشتغل بالماضي وعمل له، والحداثي من اشتغل بالحاضر وعمل له، والمستقبلي من اشتغل بالمستقبل وعمل له؛ ومن ثم يكونهم العلماءُ والفنانون جميعا.
ولكننا نقبل الفنان قداميا أو حداثيا أو مستقبليا لا يرى غير نفسه، ولا نقبل العالم إلا قداميا حداثيا مستقبليا جميعا معا، حتى إذا تَلاعَنَ بين يديه الفنانون الثلاثة وتَنافَوُا، استوعبهم بكمال نظره الذي لن يكون إلا بمزج أعمالهم كلها بعضها ببعض مادةً لعمله.
ومن ثم ظهر بَيِّنًا جَليًّا في الحضارات المختلفة جَوْرُ الفنان، وغَمَضَ وصَعُبَ اجتماعُ الفن والعلم لإنسان واحد!
براء: قَداميّانِ بالِيان!
أيمن: غافِلانِ غائِبان!
أنس: مُسْتَقْبليّانِ واهِمان!
أبو مذود: إِنَّ الْمُوَصَّيْنَ بَنو سَهْوان!
ما صاحباك -يا أنس- بواهمين، ولا صاحباك -يا أيمن- بغائبين، ولا صاحباك -يا براء- بباليين، بل ما ذكرتموه -يا مساكين- كله شعر عربي بعروض عربي.
مواليه: أَيْنَ، أَيّانَ، أَنّى؟
أبو مذود: أما النمط الأول الذي عَيَّنَهُ أنس، فالنوع القديم المستمر، الذي نشأ بجزيرة العرب قبل هجرة رسول الإسلام -صلى الله عليه، وسلم!- بعدة قرون ربما كانت خمسة، وضبطه الخليل -رضي الله عنه!- بكتابه الضائع. ولا أرى من بأس في أن نسميه “العَموديَّ” على الشائع فيه الآن، ولا سيما أنه النوع الذي نبه أبو علي المرزوقيُّ في مقدمة شرحه لمختارات أبي تمام منه، على العمود الذي به نَهَضَ الشعر العربي القديم من سائر الكلام واختيرت مختاراتُه من سائر القصائد، كالعمود الذي به تنهض الخيمة من سائر الأرض وتُؤْثَرُ من سائر المنازل.
وأما النمط الثاني الذي عَيَّنَهُ أيمن، فالنوع الوسيط المستمر، الذي نشأ بالأندلس أواخر القرن الهجري الثالث، بهندسة أشطار البيت العمودي تامًّا أو غيرَ تامٍّ وزَخْرَفَةِ أَطْرافها، وضبطه هبة الله بن سناء الملك، بكتابه “دار الطراز في عمل الموشحات”ØŒ وسمي “المُوَشَّحَ” لشبه أشطار أبياته المتوالية مهندسةً مزخرفةً، بصفوف الجواهر واللآلئ المتوالية ملصقةً على وشاح زينة المرأة الذي تجذبه من خَصْرِها لتطرحه على كتفها.
وأما النمط الثالث الذي عَيَّنَهُ براء، فالنوع الحديث المستمر، الذي نشأ بالعراق والشام ومصر أواخر النصف الأول من القرن الميلادي العشرين، بإطلاق البيت من عقال شطري البيت العمودي وقافيته وعقال أشطار البيت الموشح وقوافيها، واجتهدت أن تضبطه نازك الملائكة بكتابها “قضايا الشعر المعاصر”ØŒ ولا أرى من بأس في أن نسميه “الحُرَّ” على الشائع فيه الآن، ولا سيما أنه ظاهر التحرر من قيود العمودي والموشح.
أنس: كيف تعد ذَيْنِكَ المُوَشَّحَ والحُرَّ كهذا العَموديِّ!
أيمن: بل كيف تعد ذَيْنِكَ العَموديَّ والحُرَّ كهذا المُوَشَّحِ!
براء: بل كيف تعد ذَيْنِكَ العَموديَّ والمُوَشَّحَّ كهذا الحُرِّ!
أبو مذود: بَلْ إِنَّ الْمُوَصَّيْنَ بَنو سَهْوان!
هي -يا مساكين- سَواءٌ، كُلُّ نَوْعٍ منها وَلَدُ دَواعٍ خاصة من الأسباب والغايات والوسائل وغيرها، وكلُّ داع من هذه الدواعي إنسانيٌّ باقٍ بَقاءَ الإنسان نفسِهِ؛ فمن ثم ينبغي أن نقبل كل نوع من الشعر قبولنا لكل طَوْرٍ مِنْ أَطْوارِ الإنسان أو لكلِّ حالٍ مِنْ أَحْوالِهِ، فإنْ يَفْضُلْ عَمَلٌ ما مِنْ نوع أحيانا عَمَلًا ما مِنْ نوع آخر، لم يحملنا فَضْلُ الفاضل على إلغاء نوع المَفْضول؛ فإن الأعمال لَتَتفاضَلُ في النوع الواحد نفسه؛ فكيف بها في الأنواع المختلفة، ثم إن الفاضل عند أحدكم ربما كان مفضولا عند غيره، والعكس صحيح كذلك.
ثم إننا إن لم تَدْعُنا إلى نوع ما دواعيه، ثَقَّفَتْنا ثَقافَتُهُ المتعلقةُ به التي لا خير في اطراحها؛ فزادت من إنسانيتنا وأخصبت من حياتنا وأنارت من بصيرتنا، ورحم الله محمود حسن إسماعيل!
مواليه: رحمةً واسعةً!
أبو مذود: ما أَحْسَنَ ما لَبِسَ لِكُلِّ حالٍ مِنْ أَحْوالِ الْإِنْسانِ، بمجموعته “موسيقا مِنَ السِّرِّ”Ø› فَدَلَّ على ثَقافَةٍ واسِعَةٍ، وإنسانيَّةٍ زائدةٍ، وَحَياة خَصيبةٍ، وبَصيرةٍ نَيِّرَةٍ!
براء: أحفظ له قوله:
أَلْفانِ وَعَشْرَةُ آلافْ
وَأَنا طَوّافْ
في الْبَحْرِ الْغارِقِ في الْأَسْدافْ
روحي مِجْدافْ
قَلْبي مِجْدافْ
يَجْتازُ جُنونَ الرّيحِ وَيَنْفُذُ في الْأَلْفافْ
وَيُحيلُ اللُّجَّ طَريقًا لِلْأَعْرافْ
وَيُلاقي الْجَوْهَرَ في الْأَعْماقِ فَلا أَغْوارَ وَلا أَصْدافْ
وَحقيقَةَ هذا الْكَوْنِ تَلوحُ فَلا أَسْرارَ وَلا أَلْطافْ
اَلْمَرْكَبُ طافْ
عُرْيانَ الرُّؤْيَةِ لا مَكْفوفَ وَلا خَوّافْ
أبو مذود: هو من أوائل حُرَّتِهِ “موسيقا مِنَ الزَّمانِ” في مجموعته “موسيقا مِنَ السِّرِّ” نفسها، ولْتَتَأَمَّلوا دَوْراتِ الساعات في أثناء الفاءات.
أيمن: أحفظ له قوله:
يا رِياحَ الْمَغيبْ
يا أَغاني الزَّمَنْ
أَيُّ سِرٍّ رَهيبْ
في حَشاكِ اسْتَكَنْ
لِلشَّقيِّ الْغَريبْ
فَوْقَ هذا الْوَطَنْ
هَلْ سَمِعْتِ الْجِبالْ
في سُكونِ الظُّلَمْ
تَشْتَكي لِلرِّمالْ
سِجْنَها مِنْ قِدَمْ
أَمْ سَقاكِ الْخَيالْ
جُرْعَةً مِنْ عَدَمْ
فَعَبَرْتِ التِّلالْ
وَالرُّبا وَالْقِمَمْ
غابَةً مِنْ زَوالْ
أَطْلَقَتْها السُّدُمْ
شابَ فَوْدُ الْغُيوبْ
وَهْيَ رَيّا الْفَنَنْ
إِنْ سَرَتْ لا تَؤوبْ
أَوْ بَكَتْ لا تَئِنْ
يا رِياحَ الْمَغيبْ
يا أَغاني الزَّمَنْ
أبو مذود: هو من أَوائل مُوَشَّحَتِهِ “رياحُ الْمَغيبِ” في مجموعته التي باسمها، وَلْتَتَأَمَّلوا دَوْراتِ الأقدار في أَثْناء الأسرار.
أنس: ألمحمود حسن إسماعيل المِصْري الصَّعيديِّ الدَّرْعَميِّ، هذان الكَلامان!
أبو مذود: أجل، له هو نفسه عقله لسانه!
أنس: وكيف اجتمع في عقله ثم استقام على لسانه، مثل هذين ومثل قوله:
لا أَرْفُضُ الْمَوْتَ لكِنّي أُسائِلُهُ هَلْ ذُقْتَ ما أَنْتَ بِالْإِنْسانِ فاعِلُه
شَيْءٌ هُوَ الْمَوْتُ يا جَبّـارُ تَكْتُمُهُ خُطـاكَ أَنْتَ وَراءَ الْعَيْنِ حامِلُه
مُقَنَّـعٌ بِمَتاهـاتٍ وَأَوْدِيَــةٍ وَأَغْصُـنٍ زَهْرُهـا ماتَتْ بَلابِـلُه
وَتَسْـحَرُ النّاسَ تَأْوي في مَخادِعِهِـمْ وَفي خُطاهُمْ بِكَفٍّ لا تُزايِلُه
تَمْـشي بِلا شَـبَحٍ تَسْقي بِلا قَدَحٍ وَكُلُّ بابٍ وَمَهْمــا أَنْتَ داخِلُه
أَعْمى عَصـاكَ بِلا دَرْبٍ وَلا بَصَـرٍ وَلا صَــدًى يُرْشِدُ الْآذانَ قاتِلُه
وَلا يَقودُكَ إِلّا الْغَيْبُ تَعْلَـمُهُ وَكُلُّ حَـيٍّ بِوَجْــهِ الْأَرْضِ جاهِـلُه
تَزورُ لا أَدَبُ التَّـزْوارِ تَعْرِفُــهُ وَلا لَدَيْــكَ إِلى إِذْنٍ وَسـائِلُه
وَلا تُبالي إِذا داهَمْتَ مُنْتَهِيًا يَدْعوكَ أَمْ فارِسًـا تَمْضـي تُصـاوِلُه
بِكَفِّـهِ أَمَـلُ الدُّنْيا وَغَفْلَتُـها وَكَفُّـكَ الْغَـــدْرُ شَـنَّتْهُ مَناجِلُه
سَكَنْتَ في شَرَكِ الْأَنْفاسِ تَرْصُـدُها كَصائِدٍ لَمْ تَخِبْ يَوْمًا حَبائِلُه
أبو مذود: ذاك أنه كان فنانا قداميا حداثيا مستقبليا، وما أنشدتَّ من أوائل عموديته “موسيقا من الموت” في مجموعته “موسيقا مِنَ السِّرِّ” نفسها، وَلْتَتَأَمَّلوا دَوْراتِ القَضاء في أَثْناءِ الفَناء.
أنس: ولكنْ ثَمَّ أصول عروضية ينبغي مراعاتها، وإلا خرج الكلام عن أن يكون أبياتا من الشعر، والأبيات عن أن تكون قصيدة واحدة.
براء وأيمن معًا: ما هي، يا فقيه؟
أنس تاليًا: “مَجْموعُ أَبْياتٍ مِنْ بَحْرٍ واحِدٍ، مُسْتَوِيَةٌ في عَدَدِ الْأَجْزاءِ، وَفي جَوازِ ما يَجوزُ فيها، وَلُزومِ ما يَلْزَمُ، وَامْتِناعِ ما يَمْتَنِعُ؛ فَخَرَجَ ما لَيْسَ مِنْ بَحْرٍ واحِدٍ، وَما هُوَ مِنْ بَحْرٍ واحِدٍ لكِنْ لا مَعَ الِاسْتِواءِ في عَدَدِ الْأَجْزاءِ كَأَبْياتٍ مِنْ الْبَسيطِ بَعْضُها مِنْ وافيهِ وَبَعْضُها مِنْ مَجْزوِّهِ، وَما هُوَ مِنْ بَحْرٍ واحِدٍ مَعَ الْاسْتِواءِ في عَدَدِ الْأَجْزاءِ لكِنْ لا مَعَ الِاسْتواء في الْأَحْكامِ كَأَبْياتٍ مِنَ الطَّويلِ بَعْضُها ضَرْبُهُ تامٌّ وَبَعْضُها ضَرْبُهُ مَحْذوفٌ. وَلَيْسَ اتِّفاقُ الرَّويِّ شَرْطًا في تَحَقُّقِ مُسَمّى الْقَصيدَةِ، بَلْ في وُجوبِ سَلامَتِها مِنَ الْإِقْواءِ وَالْإِكْفاءِ وَالْإِجازَةِ وَالْإِصْرافِ اللّاتي هِيَ مِنْ عُيوبِ الْقافِيَةِ هذا مُفادُ كَلامِهِمْ فَاحْفَظْهُ”.
براء وأيمن: قاتَلَكَ اللهُ، أيُّ بَبْغاءَ أَنْتَ!
أبو مذود: بَلْ لِلّهِ دَرُّكَ، أَيُّ حافِظٍ أَنْتَ!
تلكم -يا مَكْمَلي وَمَحْيايَ وَمَخْلَدي- عبارة السيد محمد الدَّمَنْهوريِّ شيخِ الجامع الأزهر في زمانه، بحاشيته “الإرشاد الشافي على متن الكافي في علمي العروض والقوافي لأبي العباس أحمد بن شعيب القِنّائي” -رحمهما الله!- عن مقالات من سبقه في القصيدة اصطلاحا.
براء وأيمن: إنه -يا مولانا- من حَفَظَةِ الظاهر المُقَلِّدين!
أبو مذود: بل هو -إن شاء الله- من حُفّاظِ الظاهر والباطن المستوعبين؛ فهات بيانك.
أنس: تلك العبارة على قدامتها، تَنْبيهٌ حَسَنٌ على خصائص البيت والأبيات في القصيدة الواحدة، أنها:
عَروضيَّةٌ وَزْنيَّةٌ [التفاعيل (نوع المقاطع اللغوية المعينة {البَحْرُ})، والطول (عدد التفاعيل)، والانقسام (صور أطراف الأشطار)].
وعَروضيَّةٌ قافَويَّةٌ: [الأجزاء (الأصوات)، والنوع (أوضاع الأجزاء)].
فإمّا سَلَّمْتُ لصاحبيَّ هذين بأن أقسامَ نَصَّيْهما تلك المُتَبَجِّحَةَ بإجازة ما يجوز من الزِّحافات كخَبْنِ (مُسْتَفْعِلُنْ) إلى (مُتَفْعِلُنْ) Ùˆ(فاعِلُنْ) إلى (فَعِلُنْ) والعِلَل كتَذْييلِ (مُسْتَفْعِلُنْ) إلى (مُسْتَفْعِلانْ) وقطع (فاعِلُنْ) إلى (فاعِلْ)ØŒ المُتَعَدِّيَةَ إلى استباحة ما لم يقع من العلل كَتَسْبيغِ (فاعلْ) المقطوعة إلى (فاعلْنْ) وحذف (فاعلن) أحيانا من البَيْنِ – أبياتٌ من بحر البسيط بما تكرر فيها من مُرَكَّباتِ مقاطع أصواته اللغوية المُعَيَّنَة، لم أُسَلِّمْ بأنها مستوية في عدد أجزاء، ولا مستوية في لزوم ما يلزم!
أيمن: كيف تقول مثل هذا في نونية سيدنا محيي الدين بن عربي؟
أنس: ألا ترى كيف خرج مطلع نونية سيدك، بعشر تفاعيل، وكل ما بعده على خمس وعشرين! أثم لا ترى كيف جرى في تفاعيلَ من بيتٍ على القطع وهو علة، ثم جرى في أشباهها من بيت آخر على القطع والتسبيغ، وكيف جرى في تفاعيلَ من بيتٍ على السلامة، ثم جرى في أشباهها من بيت آخر على التذييل… وهكذا!
أيمن: بل لا ترى أنت أنها من طريقة “رياح المغيب” السابقة!
براء: وكيف تقول مثل هذا في رائية سيدنا أحمد عبد المعطي حجازي؟
أنس: ألا ترى كيف خرج مطلع رائية سيدك، بثماني تفاعيل، وما بعده بثماني عشرة، وما بعدهما بست وعشرين… وهكذا!
براء: بل لا ترى أنت أنها من طريقة “موسيقا من الزمان” السابقة!
أيمن -وأعانه براء-: تَعْسًا لها أُصولًا عَليلةً!
أنس: بل سَعْدًا لها أُصولًا جَليلةً تُخْرِجُ نَصَّيْكُما عن الشعر إلى النثر؛ فإنَّ من شاء وجد مثلهما في خلال كلام الناثرين!
أبو مذود: اعلموا -يا مَساكينُ- أَنَّ عروض الشعر وَلَدُ الموسيقا التي كانت بشريَّةً (غِناءً)، ثم صارت بشريَّةً آليَّةً (غِناءً وَعَزْفًا)، ثم صارت آليَّةً (عَزْفًا). وكلما طَوَّرَتْها سَعَةُ حُرّيَّتُها وقوَّةُ سَبْقِها وسُرْعَةُ حَرَكَتِها، زادَ بَوْنُ ما بينها وبين وليدها الذي لا يعرف غير اتباعها والتعلق بها.
كانت الموسيقا دَوْراتٍ كثيرة قصيرة ساذجة محددة متوالية؛ فكان عروضُ العمودي والقصيدةُ منه أبياتٌ كثيرة قصيرة ساذجة محددة تتوالى مؤتلفةً أجزاءً (بحرا) وأحوالَ أجزاء (سلامة وتغيرا).
ثم صارت الموسيقا دَوْراتٍ قليلة طويلة مزخرفة محددة متوالية؛ فكان عروضُ الموشح والقصيدةُ منه أبياتٌ قليلة طويلة مزخرفة محددة تتوالى مؤتلفةً أجزاء (بحرا)، مختلفة أحوال أجزاء (سلامة وتغيرا).
ثم صارت الموسيقا دَوْرةً واحدة متطاولة مضطربة؛ فكان عروضُ الحر والقصيدةُ منه ينبغي أن تكون بيتًا واحدا متطاولا مضطربا يبدأ ثم لا ينتهي إلا أخيرا مرة واحدة، ولكنها لم تستقم على ما ينبغي لها إلا بعد زمان طويل.
وإِنَّ تلكم الخصائص العروضية الوزنية والقافوية التي أحسن أنس استنباطها من عبارة الدمنهوري، لَهِيَ الروابطُ الباطنة التي إذا انضافت إليها روابطُ النصِّ الواحدِ اللغويةُ الظاهرةُ استوت القصيدةُ بُنْيانًا عَروضيًّا لُغَويًّا (نَصًّا مَوْزونًا)، وَحدةُ جانبه العروضيّ البيتُ، ووَحدة جانبه اللغويّ الجملة.
ثم إِنَّه بنصيب البيت والأبيات في القصيدة الواحدة من هذه الخصائص، يظهر نوع الشعر.
ثم إِنَّ الدمنهوري عالمٌ قَداميٌّ لم يتجاوز نصيب البيت العمودي.
ثم إِنَّه تَقْليديٌّ لم يتجاوز أبيات العروضيين، بل كان متن صاحبه أكثر شعرا من حاشيته التي فَرَّقَتْ بين العروض وشعره، ورحم الله محمود حسن إسماعيل مرة أخرى!
مواليه: رحمة واسعة مرة أخرى!
أبو مذود: حدثنا أبو تميم عبد الحميد بسيوني -وكان مستشار أمير الكويت- أنه شهد مجلس أستاذنا محمود محمد شاكر، وقد أقبل محمود حسن إسماعيل -رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، ولم يَفْتنّا بعدهم، ولم يحرمنا أجرهم!- ينشد من شعره المجلس الجليل، وفيه الحسّاني حسن عبد الله الفنّان الشاعر العالِم العَروضيُّ الْقَداميُّ، يَتَسَقَّطُ له، حتى لَقَطَ شيئا صاح به عليه؛ فغضب محمود حسن إسماعيل.
قال أبو تميم: فلما كان المجلس التالي، بَدَرَ إسماعيلُ بِحُرَّتِهِ “الوَهَجُ وَالدّيدانُ”ØŒ يقول:
تَفْعيلَتانْ
ثَلاثُ تَفْعيلاتْ
وَسَبْعُ تَفْعيلاتْ
وَأَحْرُفٌ تُعانِقُ الْأَلْحانَ بِالْأَحْضانِ وَالرّاحاتْ
تُدَفِّقُ النّورَ عَلى حَفائِرِ الْأَمْواتْ
شَلّالَ موسيقا بِلا قَواعِدٍ مَرْسومَةِ الرَّنّاتْ
مَعْصومَةِ الْإيقاعِ دونَ حاسِبٍ مُزَيَّفِ الْميقاتْ
يَعُدُّها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَجيءَ بِالْأَسْبابِ وَالْأَوْتادِ وَالشَّطْراتْ
تَشُقُّ بابَ الرّوحِ لا تَسْتَأْذِنُ الْإِصْغاءَ وَالْإِنْصاتْ
وَلَيْسَ في إِعْصارِها سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ
وَلا فُضولُ الْمَوْتِ وَهْوَ يَسْأَلُ الْحَياةَ عَنْ تَوَهُّجِ السّاحاتْ
وَلا فُضولُ اللَّيْلِ وَهْوَ يَسْأَلُ الْفَجْرَ لِماذا تَنْسَخُ الرُّفاتْ
ضَجَّ الْبِلى مِنْ صَيْحَةِ الْإِشْراقِ في تَشَبُّثِ الْمَواتْ
وَانْتَفَضَتْ هَياكِلٌ مَرْصوفَةُ الطُّقوسِ مِنْ تَناسُقِ الْأَشْتاتْ
وَكُلُّ ما فيها قَرابينُ تُقَدِّسُ الرِّمامَ في كُلِّ حَصادٍ ماتْ
مَصْلوبَةُ الْجُمودِ وَالرُّكودِ وَالْهُمودِ وَالسُّباتْ
عَلى مَطايا زَمَنٍ مُهَرَّأِ الْأَكْفاتْ
تَحَرَّكَتْ في غَبَشِ الْكُهوفْ
جَنائِزًا في لَحْدِها تَطوفْ
مَشْلولَةَ الْمَسيرِ وَالْحِراكِ وَالْوُقوفْ
كَأَنَّها لِتُرَّهاتِ أَمْسِها رُفوفْ
أَوْ أَنَّها لِكُلِّ نورٍ شَعَّ في زَمانِها حُتوفْ
تُريدُ شَلَّ الْوَهَجِ الْعَصوفْ
بِأَعْيُنٍ ضِياؤُها مَكْفوفْ
وَأَلْسُنٍ نِداؤُها مَعْقوفْ
تَهاتَرَتْ مَخْدورَةً مِنْ سَمْتَةِ الْعُكوفْ
وَراعَها تَمَزُّقُ السُّجوفْ
وَخَيْبَةُ التَّكْرارِ وَالدُّوارِ في الْقيعانْ
فَأَنْشَبَتْ هُذاءَها في الْقَشِّ وَالْعيدانْ
وَالْحَبُّ عَنْ عَمائِها مُغَلَّفٌ نَشْوانْ
وَوَعْيُها مِنْ غَشْيَةٍ غَفْلانْ
وَطَرْفُها مِنْ عَشْيَةٍ ظَمْآنْ
لِكُلِّ ما لَمْ يَبْقَ فيهِ قَبَسٌ لِخُطْوَةِ الْإِنْسانْ
سُبْحانَ رَبِّ النّورِ مِنْ تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ
سُبْحانَهُ سُبْحانْ
مَنْ أَيْقَظَ الدّيدانْ
أَنْغامُ هذا الطَّيْرِ ما لَقَّنَها بُسْتانْ
وَلا حَداها حارِسٌ يَقْظانْ
وَلا بِغَيْرِ ما تَجيشُ نارُها تَحَرَّكَتْ بَنانْ
مِنْ ذاتِها وَوَحْيِها رَحيقُها الصَّدْيانْ
الرّافِضُ الْإيماءَ لِلْوَراءِ يَمْتَصُّ خُطا الرُّكْبانْ
الرّافِضُ الْقِياسَ في الصَّدى وَفي الْمَدى وَفي اللِّسانْ
وَفي هَوى التَّنْغيمِ وَالتَّفْخيمِ وَالتَّرْنيمِ وَالْإِرْنانْ
تَدَفَّقَتْ لا تَعْرِفُ التَّطْريزَ في تَوَهُّجِ الْأَلْحانْ
وَلا خِداعَ السَّمْعِ في تَبَرُّجِ الْحُروفِ لِلْآذانْ
وَلا لِخَطْوِ اللَّحْنِ قَبْلَ سَكْبِهِ مِنْ نايِها ميزانْ
أَسْكَرَها خالِقُها قَبْلَ انْبِثاقِ اللَّحْنِ بِالْأَوْزانْ
تَحَرَّرَتْ فَما بِها لِلْقالَبِ الْمَصْبوبِ قَبْلَ كَأْسِها إِذْعانْ
زَخارِفٌ مَطارِفٌ مَتاحِفٌ لِقِشْرَةِ الْأَكْوانْ
قَواقِعٌ بَراقِعٌ بَدائِعٌ زَيّافَةُ الْأَلْوانْ
جَلَّ عَزيفُ النّايِ أَنْ يَقودَهُ إِنْسانْ
وَجَلَّ روحُ الْفَنِّ عَنْ تَناسُخِ الْأَبْدانْ
فَالشِّعْرُ شَيْءٌ فَوْقَ ما يَصْطَرِعُ الْجيلانْ
روحٌ تَرُجُّ الرّوحَ كَالْإِعْصارِ في الْبُسْتانْ
بِزَفِّها وَحَرْفِها وَنورِها الْمُمَوْسَقِ النَّشْوانْ
وَخَمْرِها الْمَعْصورَةِ الرَّحيقِ مِنْ تَهادُلِ الْأَزْمانْ
لِكُلِّ جيلٍ كَأْسُهُ لا تَفْرِضوا الدِّنانْ
مَلَّ النَّدامى حَوْلَكُمْ عِبادَةَ الْأَكْفانْ
فَجَدِّدوا أَرْواحَكُمْ لا تَظْلِموا الْميزانْ
فَالشِّعْرُ لَحْنٌ مِنْ يَدِ الرَّحْمنْ
سُبْحانَهُ سُبْحانْ
مُلْهي النُّسورِ عَنْ خُطا الدّيدانْ
مواليه: “حاسِبٍ مُزَيَّفِ الْميقاتْ”ØŒ “سَبّابَةٌ تُعَذِّبُ الْهالاتْ”ØŒ “فُضولُ الْمَوْتِ”ØŒ “فُضولُ اللَّيْلِ”ØŒ “تَشَبُّثُ الْمَواتْ”ØŒ “تَناسُقِ الْأَشْتاتْ”ØŒ “تَحَرُّكِ الْأَكْفانْ”ØŒ “تَناسُخِ الْأَبْدانْ”ØŒ “عِبادَةَ الْأَكْفانْ”ØŒ “خُطا الدّيدانْ”!
اللهمَّ نجاةً! لقد عَرّاهُ للملأ، ثم سَلَحَ عليه! بل لقد زَلْزَلَهُ وأَضَلَّه عن نفسه ثم تركه في بَيْداء! فأَيَّةُ مَذَمَّةٍ لم يَصُبَّها عليه! وأَيَّةُ مَحْمَدَةٍ لم يَسْلُبْها منه!
أبو مذود: ثم تأملوا -يا مَكْمَلي ومَحْيايَ ومَخْلَدي- كيف تَجَلّى قوله:
“فَالشِّعْرُ شَيْءٌ فَوْقَ ما يَصْطَرِعُ الْجيلانْ”ØŒ
مَنارَةً يرى بها العالِمُ استيعابَ الفنانين جميعا قَداميّينَ وحَداثيّينَ ومُسْتَقْبَليينَ -مهما تَلاعَنوا بين يديه وتَنافَوا- طَريقًا إلى كمال نظره الذي لن يكون إلا بمزج أعمالهم كلها بعضها ببعض مادةً لعمله.
– وقوله:
“لِكُلِّ جيلٍ كَأْسُهُ لا تَفْرِضوا الدِّنانْ”ØŒ
منارة أخرى يرى بها العالِمُ كُلَّ نَوْعٍ من أنواع الشعر، وَلَدَ دَواعٍ خاصة من الأسباب والغايات والوسائل وغيرها، وكلَّ داع من هذه الدواعي إنسانيًّا باقيًا بَقاءَ الإنسان نفسِهِ؛ وأننا إن لم تَدْعُنا إلى نوع ما دواعيه، ثَقَّفَتْنا ثَقافَتُهُ المتعلقةُ به التي لا خير في اطراحها؛ فزادت من إنسانيتنا وأخصبت من حياتنا وأنارت من بصيرتنا.
مواليه: اللهم، لك تُبْنا، وإليك أَنَبْنا؛ فَتَقَبَّلْنا في عبادك الخطّائين التوابين؛ وكَرِّهْ إلينا جَهالَةَ الجُهَلاءِ وسَفاهَةَ السُّفَهاءِ ما أَحْيَيْتَنا، فإِمّا قَعَدَ بنا العَجْزُ عن شَأْوِ مولانا أبي مذود وتعليمه، فاقبضنا إليك غيرَ مُحَرِّفينَ ولا مُزَيِّفينَ ولا مُخْتَلِفينَ!
تَأَمَّلْـ… تُ في قَهْـ… وَتي
ددن دن… ددن دن… ددن
خُلودَ… هَوى نَجْـ… مَتي
ددن د… ددن دن… ددن
بِمَنْزِ… لَةِ الْبَهْـ… جَةِ
ددن د… ددن دن… ددن
فَلَمْ أَصْـ… حُ مِنْ سَكْـ… رَتي
ددن دن… ددن دن… ددن
أَنا فَـ… لَكُ الْحُلْـ… مِ شَحْبَلْ
ددن د… ددن دن… ددن دن
سَيَنْفَـ… تِحُ الْبا… بُ يَوْمًا… لِأَدْخُلْ
ددن د… ددن دن… ددن دن… ددن دن
فإذا الصوتُ الواحدُ الغَريبُ يتباعد بالشَّبَحِ المَعْروف عندهم المُنْكَرِ بينهم، والتَيّارُ المَوّارُ يَتَدَفَّقُ في الصَّبَبِ وراءهم.

Related posts

Leave a Comment