فلسفة النبي إبراهيم (الرجل الذي بحث عن ربّه حتى وجده)، في 24 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله ربّ العالمين!

يُعد النبي إبراهيم نموذجا فريدا للطفل والشاب والرجل العاقل المفكر الباحث عن الحقيقة؛ لذا كان إمام العقلاء عبر التاريخ الإنساني كلّه، والله أعلم! لو استعرضنا سريعا تاريخ الأنبياء والنبوّات، نلاحظ أنّ جميع الانبياء جاءهم الوحي من السماء ليحقق التواصل بينهم وبينها ويعلمهم تفاصيل المهمّة الموكلة إليهم، إلا النبي إبراهيم؛ فهو الذي بحث عن الطريق إلى السماء حتى وجده وارتقى في مراقي القرب حتى وصل! وسمّي بالخليل، أي الذي تخلل حب الله والإيمان به قلبه الشريف، وتخلل هو ونفذ بصفاء روحه ونقاء سريرته، إلى الحضرة العليّة، فاعتلى مكانه، وتبوأ مكانته، وذلك من خلال نوافذ العقل والفكر المحدودة الضيّقة، والله أعلم! يقول الله: “إنّ إبراهيم كان أمّة”ØŒ والأمّة هي الجماعة من الناس الكثيرة العدد العظيمة الأثر، والتي تختص لنفسها بخصائص محددة، وتتميّز عن غيرها بصفات معيّنة؛ فإذا هاجر إليهم غيرهم من الناس ذابوا وانصهروا فيهم واتصفوا بصفاتهم وتأثروا بهم. فكذلك النبي إبراهيم كان أمّة وحده، إذا جاءه الناس أفرادا أو جماعات تأثروا به واتّبعوا منهجه، وكان لهم قدوة تُقتدى ومثلا يُحتذى وملّة تهدي إلى الله الحق. أو إنّ ايمانه بالله وحده كان يعدل إيمان أمّة، والله أعلم!
إبراهيم طفلا
في العراق نشأ النبي إبراهيم وسط أسرة عريقة في الوثنيّة؛ إذ كان أبوه هو صانع الآلهة، لكنّه كان صاحب فكر متّقد وبصيرة ثاقبة وعقل ناقد فذّ. لم يستطع إبراهيم أن يقتنع بقداسة الأحجار التي تتحول إلى تماثيل ثمّ إلى آلهة! لم يستطع إبراهيم أن يقتنع بصواب الشعائر الوثنيّة التي يقدّمها الناس للأحجار التماثيل (الآلهة)؛ فما القدرة الخارقة فيها لتحقق نفعًا أو تدفع ضرًّا، حتى يندفع الناس إلى عبادتها! وما طرق التواصل بين الحجارة الصمّاء والناس، حتى تشعر بهم أو يشعروا بها! لا شيء! لم يقتنع إبراهيم بهذا العبث؛ فقرر أن يبحث عن ربّه بنفسه وبمجهوده الفردي. أخذ إبراهيم يحدد لنفسه بنفسه القواعد والشروط والمواصفات التي يجب أن تتوفر في الإله ليستحق العبادة، منها:
1) الكبر؛ فلا يمكن أن يكون الإله أصغر من غيره من الموجودات.
2) الحضور والدوام والبقاء والاستمرار؛ فلا يمكن أن يكون الإله غائبًا أو غافلًا أو جاهلًا.
3) القدرة المطلقة على تحقيق النفع لغيره دون أن يحدّه حد.
4) القدرة المطلقة على إلحاق الضر بخصومه وأعدائه، دون أن يمنعه أحد.
وأخذ ابراهيم يبحث عمّن تتحقّق فيه هذه الشروط، ومع الأسف لم يجد من الموجودات التي من حوله من تنطبق عليه، لكنّه كان مؤمنًا ومتأكّدًا من فكرة الألوهيّة، وبأنّه يجب أن يكون لهذا الكون الفسيح إله، وبأنّه لا يمكننا أن نفترض مجرّد افتراض، أن هذا الوجود من حولنا يسير هائمًا علي وجهه بغير قائد أو ضابط أو مهيمن، لا يمكن! والسؤال الآن: من هو الله؟ أين هو الله؟ وإلى هنا توقف إبراهيم، وعند هذه النقطة تحديدا توقفت جهود جميع الفلاسفة القدماء والمحدثين على السواء. لقد خطا الإنسان المفكّر الخطوة الأولى ناحية الله؛ فكان له على الله أن يخطو تجاهه خطوة يكشف بها عن نفسه، ويعرّف الناس به، ولا يدعهم عرضة للهواجس والوساوس والخطأ والشطط. خاطب الله إبراهيم، وعرّفه نفسه، لكن إبراهيم كان رجلا مفكّرا عاقلا خبيرا؛ وما هكذا تسير الأمور، ولا بهذه السهولة تمضي الأحداث، لا يمكن!
إبراهيم يتحقق من الله
أراد ابراهيم أن يتأكّد من أنّ الّذي يخاطبه ويعرّفه نفسه هو الله نفسه، لا غيره. أراد أن يتحقّق من الله، عن طريق اختبار عملي وتجربة واقعيّة يشهدها بنفسه. يعلم إبراهيم من قبل أن إحياء الموتى مهمة صعبة أو مستحيلة، لا يستطيعها أحد من الإنس أو الجن ولا الملائكة؛ فقال لله: “أرني كيف تحيي الموتى”ØŒ فسأله الله: “أو لم تؤمن”ØŒ فقال إبراهيم: “بلي ولكن ليطمئن قلبي”! كان إبراهيم يؤمن بحقيقة الألوهيّة وضرورتها للكون، لكنّه كان يريد أن يتأكّد من أن الذي يخاطبه هو الله نفسه لا غيره؛ فاستجاب له الله، وقال له: “خذ أربعة من الطير”ØŒ وقطعها قطعًا صغيرة، ثم ضع على كل جبل قطعة منها، ثم ناد عليها، فستأتيك، ولكي تتأكد من صدق التجربة وأنّ الطير التي قطّعتها أنت بنفسك هي التي أتت إليك، سأجعلها تأتي لك سعيا (على طبيعتها)! تأكّد النبي إبراهيم من حقيقة اتصاله بالملأ الأعلى، لكنّه لم يكن يعلم أنّ ما أقدم عليه (الاشتراط على الله) فعل خطير، له تداعيات، وعليه تبعات جد خطيرة، يجب عليه أن يتحملها بصبر وثبات وقوّة، وإلا …! ويمكننا الجزم بأن حياة النبي إبراهيم من لحظة اتصاله بالله، كانت تاريخًا من المحن والمنح، وكل المحن التي تعرض لها النبي إبراهيم كانت تدور حول معنى الترك، أي كان لزاما عليه أن يترك كل شيء لأجل الله، وأن يستغني بالله عن سواه، وذلك بأن يترك ارتباطه المادي بالأشياء (نفسه وماله وأهله وولده)ØŒ مقابل ضمان استمرار اتصاله بالملأ الأعلى.
المحنة الأولى
(محنة النبي إبراهيم في نفسه)
كان لزاما على النبي إبراهيم أن يحدد موقفه من قومه ولاسيما من آلهتهم المدّعاة، فقرر أن يحدث لهم صدمة قويّة، يَحدُث بها التفات قوي وتركيز عال في خطابه إليهم، فقرر أن يكسّر الآلهة، ليثبت لهم بالدليل العملي عدم كفاية الأصنام لتكون آلهة. على أثر ذلك دار حوار بينه وبين الناس، وكادوا أن يؤمنوا به وبدعوته، وأوشكوا أن يقتنعوا بفساد اختيارهم للأصنام لتكون لهم آلهة، لكنّهم تمسّكوا أخيرا بنمط حياتهم، ورفضوا التغيير. كما دار حوار جاد وقوي بين النبي إبراهيم والملك، إلا أنه رفض دعوة إبراهيم، و قرر أن يعاقبه على تكسيره الأصنام وتجرُّئه عليها عقابا يناسب حجم الصدمة التي فعلها بالناس والملك، فقرر أن يقيم محرقة احتفالية عظيمة، ويلقيه فيها أو يتنازل إبراهيم عن دعوته ويعتذر للآلهة! وكان الملأ الأعلى يسمع ويرى. ثبت إبراهيم على الحق، وصبر على المحنة، ولم يقدّم أقل القليل من التنازلات لصالح الحماقة والباطل، وجاد بنفسه، و تركها تلقى مصيرها المؤلم من أجل الله؛ فجاءت المنحة في اللحظات الأخيرة والوقت المناسب والتوقيت السليم! أمر الله النار والأحطاب التي ألقي فيها إبراهيم، أن تكون على غير طبيعتها المعهودة منها، أن تصبح شيئا مريحا لإبراهيم، وحدثا سعيدا لكل المسلمين من أتباعه و من ذريّته حتى قيام الساعة!
المحنة الثانية
(محنة النبي إبراهيم في أهله)
بعد أن ألقي إبراهيم في النار، ظل فيها زمنا حتى هدأت، وظن الناس أنه قد هلك، فإذا به يفاجئهم ويخرج من النار سالما، فآمن به خلق كثير، لكنّ الملك عاند وأصرّ على موقفه من عبادة التماثيل، وقرر أن يطرده هو ومن آمن به من العراق كلّها. هاجر إبراهيم ومن معه إلى سورية، وكانت تشاركه المعاناة زوجته المحبّة الجميلة سارة. وفي سورية عانى الفقر والقحط، فعاد إلى العراق طلبا للمعونة، لكن ملك العراق أبى أن يعطيه شيئا؛ فأمره الله أن يذهب إلى مصر ويطلب من ملكها المعونة، فذهب، لكن كان على مصر ملك شَبِق (محب للنساء و لا يكفيه منهن القليل)، وكانت سارة امرأة إبراهيم فاتنة كأجمل ما تكون النساء، أمر الله إبراهيم ألا يذكر لأحد في مصر أن سارة زوجته، وأخبرهم أنها أخته، وكان الله يختبر إبراهيم: هل يستطيع أن يترك لله، حبّه لزوجته الجميلة وغيرته الشديدة عليها؟ طمع الملك في سارة، لكن الملائكة كانت تحول بينه وبين ما يريد، وجاءت المنحة. أدرك الملك أنّ إبراهيم وأهله أسرة مقدّسة؛ فأعطى إبراهيم أموالا كثيرة جعلته واسع الثراء، و أعطى سارة جارية مميّزة (هاجر). حمل إبراهيم ذلك كلّه، وعاد إلى فلسطين.
المحنة الثالثة
(محنة النبي إبراهيم في ذريّته)
تزوّج النبي إبراهيم زوجته الجميلة سارة، وأحبها حبّا جمّا، Ùˆ عاش معها زمنا طويلا، لكن لم يرزق منها الولد، وكان متشوقا لأن تكون له ذريّة، لكن تمضي الأيام دون جديد. أدركت سارة رغبة زوجها في الإنجاب، وأرادت أن تحل المشكلة؛ فعرضت عليه أن يتزوّج من جاريتها المصريّة هاجر؛ لعلّ الله أن يرزقه منها بالولد؛ فكان. لم يضيّع النبي إبراهيم وقته، وتزوّج بهاجر، فحملت منه سريعا، وأنجبت له ابنه النبي إسماعيل، لكن لم يهنأ النبي إبراهيم بولده؛ إذ أمره الله أن يحمل زوجته وولده الرضيع ويسير بهما جنوبا عبر الصحراء، حتى إذا وصل إلى واد غير ذي زرع (مكّة)ØŒ أمره أن يتركهما هناك، ولا يلتفت إليهما! كان الله يختبر إبراهيم: هل يستطيع أن يترك لله ابنه الوحيد الرضيع وزوجته الضعيفة وسط الصحراء، التي لا شيء بها يساعد يقيم الحياة، أو يشير اليها؟ وجاءت المنحة؛ فقد تدفق الماء من بئر زمزم، من تحت قدم الطفل الرضيع إسماعيل، فتجمّع ناس كثير حول البئر، ونشأت حياة، وازدهرت معها حياة هاجر وابنها إسماعيل. لكن المحنة لم تكتمل بعد؛ فلما أن كبر إسماعيل وأصبح فتى يافعا تسرّ به النفوس، أمر الله عبده ونبيّه إبراهيم بأضعف طرق الاتصال بالملأ الأعلى (الرؤيا المناميّة)ØŒ أن يذبح بيده ابنه (وحيده) إسماعيل! وهو اختبار آخر محنة أخرى لإبراهيم في ولده فلذة كبده؛ “ذلك هو البلاء المبين”! وجاءت المنحة؛ فبعد أن عرض إبراهيم الأمر على ابنه وزوجته وافق الجميع على تنفيذ الأمر الإلهي، وجاء إبراهيم بولده إسماعيل، وأضجعه، وبعد أن أحد السكين أخذ يذبحه طاعة للأمر الإلهي، لكن السكّين لا تقطع! وأمر الله عبده ونبيّه إبراهيم بأن يذبح كبشا بدلا من ابنه، ليكون هذا حدثا سعيدا لإبراهيم وذريّته من بعده، ولكل المسلمين من أتباعه حتى قيام الساعة! بارك الله إبراهيم وآل إبراهيم، وأمر كل المؤمنين بالله عبر اختلاف الزمان والمكان أن يصلوا ويباركوا إبراهيم وأهله.
من استعراضنا لتاريخ النبي إبراهيم يمكن أن نستلخص منه النقاط المهمّة الآتية:
1) أنّه يجب على الإنسان الفرد، أن يبحث عن الله بنفسه، إن لم يكن أمامه خيار مقنع يجعله مطمئنًا إلى أنّ ما يعرض عليه هو الحق الذي لا يقبل الشك.
2) أنّ قدرة الإنسان -مهما تعاظمت- سوف تتوقف عند نقطة محددة؛ فمعظم الإنسانية متّفقة على حقيقة وجود الإله، لكنّهم مختلفون في تحديد من هو هذا الإله المستحق للعبادة؛ فكل الفلاسفة والمفكرين الباحثين في الحقيقة الإلهية توقفوا عند هذه النقطة: للكون إله، ولكن من هو؟ أين هو؟
3) للإنسان على الله أن يعلن عن نفسه، وأن يقدّم له من العلامات والدلالات ما يكفي لإقناعه بحقيقة حقّه الإلهي. والذي تحقق فعلا بإرسال الله للأنبياء وتأييدهم بالمعجزات التي تؤكد صدق تبليغهم عن الله. ولأن الاسلام هو دين الله، ولأن محمدًا هو نبي الله الخاتم، ولأن من مطلوبات الإيمان وجود معجزة يطمئن إليها العقل تثبت له صدق تبليغ النبي محمد عن الله، ولأنّ الله يعلم كل ما سيطرأ على الإنسانيّة من تطور وتحوّل حتى قيام الساعة، ولأنّ الله يعلم أن العلم سيكون لغة البشر في نهاية الزمان- كان كلام الله (القرآن الكريم)، معجزه الله الدائمة الباقية المتألقة المتجدّدة بنفسها، هو الطريق والطريقة، هو السبيل والوسيلة، هو خطوة الله إلى الناس، إلى كل من أراد الهدى، ولكل من سعى بجد ليعرف ويتعرّف الله الحق.
4) أنّ الإيمان بالله الحق، يستلزم من المؤمنين الصبر على صعاب الحياة؛ فإن القاعدة التي تلازم الإيمان بالله، هي أنّ هذه الحياة الدنيا ما هي إلا جزء من مسيرة الإنسان وتاريخه في هذا الوجود، وأنها دار بلاء واختبار.
إن كان الإسلام هو الاستسلام الكامل لأوامر الله القضائيّة والتشريعيّة، فإن النبي إبراهيم قد حقّق الإسلام لله في نفسه وماله وأهله وولده، واجتاز الاختبار؛ فصار نموذجًا يُحتذى، وقدوة تُقتدى، وملّة تهدي إلى الله الحق -والله أعلم!- فإلى روح المبارك إبراهيم، وعبر اختلاف المكان والزمان، لك خالص حبي وعظيم احترامي، رحم الله النبي إبراهيم! 

Related posts

Leave a Comment