الإسلام والسحر، في 24 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!

أكّد الإسلام على أتباعه ضرورة البعد عن الهرطقة والتنطّع في الدين، وشدّد التنبيه على ابتعاد المسلم عن ممارسة السحر والشعوذة، كما نهى المسلم عن الاتصال بالجن أو مبادلتهم المنافع، حتى وصل به الأمر أن طالب المسلم الذي أصابه مس من الجن بالصبر والصلاة والالتجاء إلى الله، ولم يجز له الالتجاء إلى المشعوذين وكل من يدّعي العلاج من السحر والمس الشيطاني. وإليك بعض قصص السحر والسحرة، ومحاربة الله لهم كما وردت في القرآن الكريم:
عصا النبي موسي
فضح الله السحرة وندّد باتباع الجهلاء لهم؛ ففي معرض قصة النبي موسى وقومه أراد الله إظهار كذب السحرة وغشهم وخداعهم. أدار الله منافسة وتحديًا بينه وبين السحرة ولاسيما بين قدرة الله من ناحية وقدرة السحرة من ناحية أخرى، على تحويل عصا إلى حيّة، وانتهت المنافسة بتحقق قدرة الله في أن تتحول عصا موسى إلى حية حقيقية، وفشل السحرة في تحويل عصيّهم وحبالهم إلى حيات حقيقية! قال الله للنبي موسى: “وما تلك بيمينك يا موسي قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهشّ بها علي غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيّة تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى”. أراد الله أن يؤكّد للسامع أصل العصا وذلك بشهادة وإقرار من النبي موسى صاحب العصا، فذكر تاريخ العصا وخبرها معه لتكون إقرارا منه بعصويّة العصا، لأنه ربما يخطر ببال أحد من الناس أن عصا موسى كانت في الأساس حية عظيمة ثم سحرت إلى عصا، كما تمّ تأكيد صدق تحولها إلى حيّة بشهادة السحرة أنفسهم. سأل الله: “ما تلك بيمينك يا موسى”. إنّ العادة إذا سأل أحد أحدا عن شيء يجهله، أن يسأله عنه بلفظ المذكّر، كأن يقول ما هذا الذي في يدك يا موسي؟ أما وقد سأل الله موسى بـ”ما” التي تقال لغير العاقل، وبـ”تلك” التي للمؤنث، فمن المؤكد أنه كان يعرف ما بيد موسى وأنها عصا. قال موسى: “هي عصاي”ØŒ أي إنني أعرفها جيّدا، كأن يكون موسى هو الذي قطعها من شجرتها، ثم جهزها لتصلح للاستخدام، وهي ملازمة له منذ مدة طويلة، ولها معه تاريخ في استخداماتها العصوية، كما يأتي: “أتوكّأ عليها”ØŒ صورة من الاستخدام الرأسي للعصا، Ùˆ ربما يدل على صلابتها. “وأهشّ بها على غنمي”ØŒ صورة من الاستخدام الأفقي للعصا، وربما يدل على طولها. “ولي فيها مآرب أخرى”ØŒ كحمل الأمتعة أو مطاردة ذئب أو لنصب خيمة وهو تعبير يدل على ارتباط موسى بعصاه واستخداماتها العصويّة. فأمره الله أن “ألقها فألقاها فإذا هي حيّة تسعى”ØŒ لندرك أن الله الخالق قادر على أن يغيّر من صورة وحقيقة خلقه كما يشاء؛ فإن الله القادر على خلق العصا على هذه الهيئة، هو أيضا القادر على أن يغير قدره فيها ويجعلها شيئا آخر، كأن تكون حية كاملة الحيويّة، تمارس حيويتها “حيّة تسعى”. دارت المنافسة أمام جمع كبير من الناس يوم الزّينة، وألقى السحرة عصيّهم وحبالهم، وألقى النبي موسى عصاه، فإذا بعصا موسى “تلقف ما صنعوا”ØŒ أي تلقف وتبتلع وتلتهم الأحبال والعصيّ التي ألقاها السحرة، وتخيّل الناس من سحرهم وإفكهم وكذبهم أنها حيات تتحرك، وتأكيدًا لصدق الله وكذب السحرة أنهم وهم أهل الاختصاص والدراية بهذا المجال (السحر)ØŒ شهدوا لموسى بالحقّ، حتى أنهم ضحّوا بأنفسهم وعرّضوها لعذاب فرعون، تكفيرا عن ذنوبهم في ممارستهم السحر وخداع الناس وغشّهم لهم؛ “فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى”ØŒ فقال لهم فرعون: “فلأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”. ومما تقدم يتضح لنا جهد الإسلام في محاربة السحر والسحرة، ويقصد هنا السحر العملي المتعارف عليه بالكهانة والنفث والعقد والتعاويذ وما إلى ذلك، والله أعلم!
“وأضلّهم السامريّ”
أرسل الله الأنبياء إلى الناس ليهدوهم إلى عبادة الله الحق والخير والسلام. عاش الأنبياء بين الناس مُددا عصيبة، منهم من نجح في مهمته، ومنهم من لم يتمكن من ذلك. ترك الأنبياء بعد رحيلهم عن الدنيا علوما كثيرة وأخبارا ومعارف نافعة وتلاميذ عهدوا إليهم بمواصلة جهودهم في الدعوة إلى الله، وبمرور الوقت وتعاقب الأجيال أخذ هؤلاء التلاميذ في تطوير الديانات السماوية بما يرضي طموح الملوك ولا يغضب الأمراء ولا يرهق الناس؛ فالإله أصبح صنما أو حيوانا أو طائرا حتى جعرانًا، المهم ألا يزعج الملك بأوامره، وأن يسمح له أحيانا بمشاركته مرتبة الألوهيّة، وألا يكلف الناس بأي تكليفات تعارض أوامره أو قوانينه، المسموح به للإله الجديد أن يقدّم له القرابين
فقط! واستطاع التلاميذ (الكهّان) المثقفون نشر التديّن الزائف في ربوع المملكة، وانتشرت المعابد. لم يكن للقدماء هذا الكم الهائل المعروف لدينا من المهن والتخصصات؛ فكانت مهنة الناس الرئيسة هي الزراعة أو الرعي، وكان الناس يصنعون طعامهم وثيابهم ويبنون مساكنهم، وذلك بمجهود فردي أو مشاركة جماعيّة؛ فقد كانت ثقافة التعاون والتبادل هي السائدة بينهم. كان العمل يستهلك وقتهم وجهدهم؛ فلا تجد أحدا منهم يعرف عن الدنيا إلا أقل القليل من العلوم والمعارف التي تلزم لقمة العيش وحفظ النوع، والتي تتلخص في هذه الأعمال اليوميّة التي يكرّرها منذ الصبا حتى الممات! الكهنة فقط هم الفئة الوحيدة في المجتمع، المتفرغة للتعلم والتعليم والتفكير والبحث والابتكار والاختراع، والتي يمكنها الاشتغال بالمهن النادرة كالطب والحساب والفلك والكيمياء والهندسة والنحت وصياغة الذهب، حتى الأدب والشعر والقصص وصياغة التاريخ، وتدبير المؤامرات أيضا والجاسوسية والسحر ودس السم للخصوم! الملك المترف فقط وحاشيته هم من كانوا يحتاجون إلى هذا الكم الهائل من التخصّصات المهنية المختلفة. أراد الكهّان أن يحافظوا دائما على جذوة الإيمان متقدة في قلوب العامة والخاصة على السواء، وذلك لضمان استمرار تدفق العطايا والهبات والقرابين والنذور والهدايا للمعبد (لهم)Ø› فكان لزاما عليهم إعمال عقولهم ومخيّلتهم ليل نهار في ابتكار القصص المثيرة عن الإله أو الآلهة لإرضاء الأذواق كافة، وليضمنوا بقاء الخوف والرجاء في عقول وقلوب ونفوس الأتباع؛ لذا كان الكهنة ينظمون حفلات السمر والمهرجانات والموالد والأعياد لاستقطاب الناس وجذبهم إلى المعبد. وكان السامريّ ذلك المؤرخ الحكّاء الراوي القاص الأديب الشاعر الخطيب البليغ المفوّه (الإعلامي)ØŒ القادر على سلب العقول وجذب الانتباه وإقناع البسطاء بأي شيء يريد أن يقنعهم به وهم راضون كأنهم مسحورون أو خاضعون لعملية تنويم مغناطيسي أو كأنّ على رؤسهم الطير! كان السامريّ يقود ويدير حفلة السمر التي تنتهي عادة بأن يقدم العامّة له الهبات والعطايا، رغبة في الخير الموعود ودفعا للشرور المحتملة المتوقعة. قديما عانى سكان فلسطين القحط والجفاف وندرة الطعام، ومن بينهم نبي الله يعقوب -عليه السلام!- وأبناؤه الذين انتقلوا إلى مصر للعيش في ضيافة شعبها ولينقذهم الله من الموت جوعا، وأصبح الدين الرسمي للشعب والملك هو دين النبي يوسف -“مله إبراهيم حنيفا”- وبمرور الزمن وتعاقب الأجيال واختفاء أثر النبوّة طور الأتباع والتلاميذ دين الله إلى ديانات وثنيّة طبقا لأهوائهم ومتطلبات عصرهم! وما إن بعث الله النبي موسى إلى ذرية يعقوب (بني إسرائيل)ØŒ حتى وجد عداوة شديدة من الكهنة، لكنّه تغلّب على كل مكايد وألاعيب الكهّان من بني قومه، واستطاع أن يقنع شعب إسرائيل بطاعته وبالرحيل معه عن مصر والعودة إلى فلسطين، لكن ما يزال سلطان الكهنة ( الإسرائيليين ) مسيطرا على عقول بني اسرائيل، فقد أوهموهم أنه من الحكمة أن يخدعوا المصريين وأن يسرقوهم، وذلك بأن تستعير كل امرأة إسرائيلية حليّ جارتها أو صديقتها المصرية، ثم ترحل به ولا تعيده، والإسرائيليات ماكرات، أطعن الكهنة، والمصريات ودودات، أقرضن حليّهن للإسرائيليات، وإلى الآن ظلت المصريات طيبات لحد البراءة، وظلت الاسرائيليات ماكرات لحد السرقة واللصوصية، وما إن أنجى الله بني إسرائيل من قبضة ملك مصر حتى ذهب النبي موسى مسرعا إلى لقاء الله يشكره على هذه النعمة، فقال الله -تعالى!- لموسى: “وما أعجلك عن قومك يا موسى”ØŸ قال النبي موسى: “عجلت إليك رب لترضى”. قال الله لموسى: “فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامريّ”! أراد النبي موسى أن يتعجّل لقاء الله ويتعجّل الصلاة له ليستزيد من الخير والأجر والثواب والرضا، وأراد الله أنّ يعلّم النبي موسى وأن يعلّمنا معه أمورا مهمة، منها:
1) ألا يتعجّل المؤمن أداء الشعائر الدينية، فالصلاة لوقتها والصوم لوقته
والحجّ لا يجب أن يخرج عن المواقيت والمواعيد المحددة له بدقة، وكذلك في حياتنا العمليّة؛ فإن كل شيء يجب أن يكون في وقته السليم وتوقيته المناسب دون تقديم أو تأخير.
2) أنّ وجود النبي موسى وسط قومه (خراف بني إسرائيل الضالّة)، في مثل هذا الوقت العصيب، كان خيرًا له ولهم وأرضى لله من التعجل إلى لقائه.
استغلّ الكهنة غياب النبي موسى، فتقدّم السامريّ، وأمر الناس بإحضار الذهب الذي أخذوه خديعة وخيانة من أهل مصر، ليصنع لهم به “إلهًا”ØŒ في محاولة يائسة بائسة لاستعادة مكانته بين الشعب، قبل أن يمحوها النبي موسى تماما، وكانت الطاعة العمياء من الناس للسامري، وكان العجل، وكان الصنم، وكان الوثن، وكان الإله الجديد! لم يكن السامريّ بالرجل الهيّن؛ فقد كان عالما محيطا بعلوم شتّى يعجز عن جمعها الآحاد من علماء عصرنا؛ فلديه جانب من علوم النبي يوسف، وعلم التاريخ والأحداث أيضا، وعلم بالصناعة والصياغة والنحت، وكذلك اللّباقة وقوة الملاحظة. وهو أيضا عالم بأحوال الناس وطبائعهم وأهوائهم وما يرضيهم وما يبهرهم ويستميلهم، حتى كانت طاعة السامري واتّباعه أحبّ إلى الكثيرين من بني إسرائيل، من طاعة النبي موسى واتباعه! لم يكن السامريّ بالرجل الهيّن؛ فقد كان عالما بما يريد وقادرا على تحقيق ما يريد، لكن التّعاسة كل التّعاسة لهؤلاء الحمقى الذين أسلموا أنفسهم للجهل والعمى، يتبعون كل دعيّ (سامريّ)ØŒ يوردهم موارد الهلكة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! قال الله: “فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنّا حمّلنا أوزارا من زينه القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقال هذا إلهكم وإله موسى فنسي”ØŒ أي نسي ما علّمه النبي يوسف لأتباعه وتلاميذه من حساب الله للناس في الآخرة. فتوجّه موسى إلى قومه يوبخهم، فقال: ألم يعدكم الله بالسعادة والخير في الدنيا والآخرة، هل استبطأتم هذا الوعد أم شككتم في صدق الله؟ ألا تدركون أنكم بفعلتكم هذه تستوجبون غضب الله عليكم؟ فكان ردهم أنهم كان لديهم ذهب مسروق من المصريين، وأقنعنا السامري بأنه قادر على تجسيد الإله بهذا الذهب! أراد السامريّ بذلك أن يعيد مكانته المفقودة بين الناس، فخلق لهم عجلا مجسّدا يصدر صوتا ليوهم به الحمقى من بني إسرائيل أنه الإله الجديد، ويكون هو بالتأكيد سادن وخادم هذا الإله، في محاولة يائسة لاستعادة مكانته التي أضاعها موسى ودينه الجديد (التوحيد)! وتوجّه موسى إلى السامريّ ليسأله عن اتهام الناس له بالكفر والسحر والزندقة، ويتيح له فرصة الدفاع عن نفسه، فقال له موسي: “فما خطبك يا سامري”ØŒ فقال السامري: “بصرت بما لم يبصروا به”ØŒ أي عندي قوة ملاحظة وقدرة على اكتشاف الأسرار وفهمها وتحليلها والاستفادة منها وتطويعها، ولدي من المهارة ما يفوق قدرات الآخرين! وقال أيضا: “فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي”! اعترف السامريّ بأنه لاحظ قوة في أثر خطا الملاك الذي يأتي إلى النبي موسى (الوحي)ØŒ واستغل هذه القدرة في إضلال الناس، وأنه متحمل نتيجة فعله في إضلال الناس. فقال له موسى: “فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس وإنّ لك موعدا لن تخلفه”ØŒ أي لك في الحياة الدنيا عذاب وفي الآخرة عذاب أكبر، وهذا عقاب السحرة الذين أتاح الله لهم فرصة كبيرة من العلم ومعرفه حق الله، لكنّهم مع ذلك اشتغلوا بالسحر.
لقد حارب الإسلام السحر بشكله المتعارف عليه من استخدام الجن أو التمتمات والتعاويذ والعقد والنفث وخداع الناس بأحابيل السحرة وألاعيبهم، وكذلك حارب الإسلام سحر البيان والكلام والقول وخداع الناس بالمنطق الفاسد والحجة الكاذبة، فأثبت لهم أنه لا يستطيع أحد أن يغيّر عصا إلى حية إلا الله -سبحانه، وتعالى!- لأنه مطلق القدرة، أمّا من ادعى ذلك من السحرة فهو مخادع كاذب- كما حارب الإسلام الخداع وتزييف الحقائق الذي مارسه السامريّ على الجهلاء والحمقى. والعجيب أنّ السحر -وإن كانت له قوة كبيرة في الإضرار بالناس- ليس متاحًا لكل الناس، أما الحسد ففيه قوه أكبر وشر وأضرّ من السحر، وهو متاح لكل الناس؛ فإنّ لكل إنسان سيئ النفس القدرة على الحسد، والعين أقوى من الحسد، والقدر أقوى من العين، والدعاء يغيّر القدر بإذن الله، والله أعلم!

Related posts

Leave a Comment