الرسالة، لطارق سليمان النعناعي

الأربعاء الساعة السادسة صباحا. فقدنا الاتصال بهذه المنطقة! فقد تعطلت الأقمار الصناعية، ولا سبيل إلى التواصل مع المقيمين على هذه الجزيرة.

  • ما العمل إذًا؟ فالتقرير دقيق وخطير…
  • لا سبيل إلا أن نرسل إليهم رسالة بالطرق التقليدية، ينقلها أحد رجالنا في أسرع وقت؛ فلابد من أن يتخذوا قرارهم في غضون يومين من الآن.
  • كم يستغرق ذلك من الوقت؟
  • بالطائرة العمودية … عشر ساعات تقريبا.
  • إذًا … لا حل سوى ذلك… الآن … فورًا.
  • الجو صحو، والشمس ساطعة، وظلال الأشجار تمرح على الروض النضير، وتأبى الظلال إلا أن تطاردَ كمثلِ القطِّ خيوطَ الشمس على الأرض؛ لتُبقيَها طائرةً ما بين أوراق الشجر، أو حاطَّةً على أوراقه العليا …

الساعة الرابعة عصرا، وصلت الطائرة إلى الشاطئ… يقفز الرجل إلى الخارج، أين عمدة الجزيرة؟ … فتتعثر قدمه المسرعة ببعض الحفر، ويسقط على الأرض، يقوم مسرعا – كأن شيئا لم يكن – غافلا عما أصاب ثيابه …

  • أهلا وسهلا ومرحبا بك في جزيرتنا.
  • أهلا بك … جئتكم برسالة في غاية الأهمية … تفضل سيادة العمدة!
  • ما هذه الرسالة؟ … يفتحها وقد ارتسم الفضول باديا على تعبيرات وجهه، ويشرع في قراءتها …
  • أمامكم أقل من يومين … سيادة العمدة …

يختلس العمدة النظر إلى الرجل، في أثناء قراءته الرسالة، ويقول في نفسه: ما هذا الأَسْوَدُ الذي جاءنا كالغراب الناعق؟ ألم يجدوا خيرا منه ليرسلوه إلينا؟ وما هذه القذارة على ثوبه؟ ألا يفهمون في تقاليد السفراء والمبعوثين؟ كيف يدخل شخص بهذه القذارة على عمدة؟

وما هذا الكلام الذي لا معنى له؟ من قال هذا الكلام؟ ثم يوجه كلامه إلى الرجل … سننظر في الأمر.

  • سيادة العمدة … نستطيع المساعدة، ونمد لكم يد العون، وفي انتظار أوامركم …
  • لا … لا … شكرا على أية حال … سنتخذ التدابير الممكنة.

يستأذن الرجل في الرحيل، وعلى وجهه سمات الارتياح، كأنه قد فاز في سباقِ عَدْوٍ، أو انتصر في معركة ما كان يُرجى منها غيرُ الهزيمة … موجها ناظريه إلى السماء كأنه يُشهدها، أو يشكرها، أو هما معا.

وقد شرد العمدة، ولم ينتبه إلى مغادرة الرجل، يقلب بصره في الرسالة، ويرجع إليها البصر، كرَّاتٍ وكرَّاتٍ … ما هذا الهراء؟ من أين لهم بهذه المعلومات؟ لو كانت هذه المعلومات صحيحة، لما غابت عنا نحن؛ فنحن أولى منهم بمعرفة هذه الأمور. لعلهم يريدون منا أن نترك أرضنا … لا … لن نمكنهم من ذلك. أو لعلهم يحسدوننا على ما نحن فيه من نعمة، وأمن، ورخاء؛ فأرادوا أن تزول عنا أو أن نزول عنها.

لا … لن أمكنهم من مآربهم الخبيثة، أيظنون أننا بهذه السذاجة؟ ومن أدراني أن هذا القذر صادق فيما تزعم رسالته؟

وتدخل عليه ثلة من رجاله وخاصته… ما الأمر؟

  • رسالة! يقولها مستهزئا … رسالة!
  • ممن هذه الرسالة؟ وهل ثمة أمر خطير؟
  • يهم العمدة بالرد … ثم يتردد ويصمت ثم يغمغم ويشرد … هل أخبرهم؟ أم أتريث في الأمر؟
  • اليوم يوم عيدنا، يوم المرح والاستمتاع … نرجو ألا يفسد شيء فرحتنا، فالناس ينتظرون في الخارج؛ لنبدأ حفلنا السعيد.

يخرج معهم العمدة، يتحرك بينهم ممسكا الرسالة بيده اليسرى، وفكره شارد في أعدائه، أعدائه هو، لكن لا يقال الأمر هكذا في عالمنا، بل قل: هو شارد في أعداء الجزيرة الذين لا يريدون لها استقرارًا، ولا يؤلون جهدا في محاولة زعزعة أمنها وتكدير سلمها…

الجمهور في حركة نشطة، يتأهبون للاحتفال…  ÙØ®Ø±Ø¬ العمدة ليدشن احتفالهم، فظن الناس أنه سيقرأ كلمته مما في يده، لكنه بدأ كلمته وأنهاها، دون أن ينظر إلى ما في يده، مما أثار إعجاب المعجبين: يا لفصاحة العمدة! يا لبلاغته وإيجازه! بداهة، فطرة، طبعا لا تصنعا، فلا حاجة له إلى الاستعانة بما كتبه له الكاتبون، أرأيتم! فهو الخطيب البليغ المفوه.

عاد العمدة إلى مَلَئِهِ وتساؤلاتهم عن الرسالة، وهو ما زال مترددا بين الكتمان والتصريح… حتى سقط في شباك سمعه قول واحد منهم للآخر: خمِّن ما في هذه الرسالة!  ما بها؟ خمن … خمن … خمن … ظلت الكلمة يتردد صداها في عقل العمدة: خمن … خمن … خمن …

ولم لا؟ ماذا لو خمنوا؟ هذا يعطيني وقتا كافيا كي أفكر ولا أصرح بشيء حتى أستقر على رأي … وعندئذ وجَّه كلامه إلى السائل:

ماذا تقول؟ هل تستطيع أن تخمن؟ … حقا؟ خمن إذًا!

وتركهم وذهب إلى مكتبه، وأشعل سيجارا … وسأل نفسه: ما أنت فاعل؟ أتُمزِّق الرسالة وينتهي الأمر؟ أم تُصرِّح لهم بهذا الهراء؟ ماذا …ØŸ

ثم استدعى حاجبه وقال له: استدع مستشاري الخاص حالا! … …

يدخل عليه مستشاره مهرولا محييا إياه، وبإشارة من يد العمدة يقعد عن يمينه … وها هي الرسالة ترتفع بيده الأخرى، وتتوجه إلى المستشار … لاحظ المستشار علامات الانزعاج والقلق على العمدة، وفطن بدهائه إلى عدم تصديقه لهذه الرسالة، فقال له: أظن سيادة العمدة أن هذه الأكاذيب ستنفضح بعد أقل من يومين، وعندئذ سيتأكد الجميع من حصافة رأيكم ودقة نظركم … وقد لاحظ انفراجة بشاشة في وجه العمدة ترحيبا بما قال … فتشجع قائلا: لن تخدعنا هذه الأكاذيب … وإن كان الأمر كما تزعم هذه الرسالة، فلماذا لم يأتك كبار المسئولين؟ فمقامك يستدعي هذا، لا أن يرسلوا إليك ذاك القميء؟ أو لعل هذا الزنجي كاذب، أو مدفوع علينا من أعدائنا … كي يستولوا على الجزيرة دون مقاومة، أو لعلها مؤامرة من الداخل كي ينزعوا الملك منك.

  • وماذا عن الملأ ممن يسألون عما في الرسالة؟
  • فكرتك عبقرية سيادة العمدة في موضوع التخمين، فهذا في الحقيقة عمل الفلاسفة … دعهم يتخيلون ويحدسون، حتى ينتهي اليومان، بل واجعل لهم جائزة على أفضل حدس، وأدق تخمين، ونضرب عصفورين بحجر واحد، نشغلهم عن حقيقة الرسالة من ناحية، فنفوِّت على أعدائنا خدعهم، ومن ناحية أخرى نُوقِع في فخنا هذا مَنْ يقترب حدسه من مضمون الرسالة، فهو إما جاسوس أو معارض لكم من أعداء الداخل، وبذلك نطهر الجزيرة من أمثال هؤلاء، ونستأصل شأفتهم، ثم نكرِّم صاحب أفضل أكذوبة تصب في صالحنا نحن، ثم نمزق الرسالة، ونستبدل بها ما يوافق مصالحنا. يهش العمدة ويبش من رجاحة عقل مستشاره ومفكره، ثم يخرج على الملأ:     

ما رأيكم في أن يخمن كل منكم ما بهذه الرسالة؟ فالتخمين عمل الفلاسفة، وتكون للمبدع جائزته في منصب نائب العمدة، … ولنستمر في احتفالنا وسمرنا، وأمامكم ست وثلاثون ساعة، لإعلان الفائز.

  • ما هذا الكلام سيادة العمدة؟ الرسالة في يدك … اقرأها علينا وتنتهي المشكلة الآن. لماذا تهدر أوقاتنا؟ وتضيع فرصة الانتفاع بما فيها إن كان خيرًا، أو تجنب ما فيها إن كان شرًّا؟

تغير وجه العمدة، ونظر إلى مستشاره، فلم يكن يتوقع ردا من هذا القبيل. وبنظرة إلى مستشاره فَهِمَ كل منهما الآخر … هذا أول مُنْدَسٍّ بيننا … وأول من ستناله الجائزة الحقيقية التي لا يعلمها إلا أنا وأنت … هذا فيما بعد، أما الآن فكيف نخرج من هذه الورطة التي ورطنا فيها ذاك الخبيث المجترئ؟ … لكن ورطة العمدة لم تدم إلا قليلا … فقد انبرى عدد غير قليل من مَلَئِهِ بالتهكم على رأي القائل، وبالرد نيابة عن العمدة، قائلين:

إنها لمتعة من ناحية، وعبقرية من ناحية أخرى، ألا تَفْتَحَ رسالةً هي بين يديك، وتتركها مغلقة، ثم تخمن ما فيها، وهذا ما يفعله الفلاسفة، ونحن لسنا بأقل منهم، ففكرة العمدة فكرة إبداعية ممتعة، بل نحن بعقولنا لسنا بحاجة إلى التبعية إلا لها، ولنكن متبوعين لا تابعين. وإذا نجحنا في ذلك فسنعلن موت الرسالة، فلتبق مغلقة، أو ممزقة، ولتبق عقولنا مفتوحة أو هادية.

هش العمدة وبش مستشاره لهذا الكلام المتناغم مع آرائهما والذي بدا كأنه صادر عن اقتناع صاف، لا كَدَرَ فيه للعمدة أو لمستشاره.   

فأُحْكِمَ بذلك طيُّ الرسالة وأطْلِقَ العنان للعقول السارحة في خيال الظنون، كلٌّ على قدر تحليقه، أو اقتدار ناظريه وتدقيقه.

بقي من الموعد المضروب أربع وثلاثون ساعة، انبرت فيها العقول وتبارت فيها الخيول، علها تنال الجائزة … ويا لها من جائزة لو كانوا يعلمون.

فمن قائل: هي قصيدة مدح العمدة، أو قصيدة غزل في زوج العمدة، أُرِيدَ لها التلحين، والغناء.

ومن قائل: هي قائمة بأسماء الحاصلين على جوائز الجزيرة التقديرية والتشجيعية، واللافت للنظر أن اسم صاحب هذا الرأي كان على رأس قائمة المكرمين، وكانت أسماء أعدائه خارجها.

وقائل: هي إعلام بزيادة الرواتب والمعاشات إلى ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن.

وقائل: هي دليل على خيانة فلان للجزيرة، خيانة عظمى، وهذا قرار إعدامه.

وقائل: هذه الرسالة تأييد من قوة عظمى للعمدة، ومن أجل حماية الجزيرة من أعدائها.

وقائل: هي إعلان وإعلام بموت ما يسمى قوة عظمى، أو خرافة ما يسمى قوة عظمى، وإيذان ببعث الحرية التي تجعل من أنفسنا نحن قوة عظمى.

وبينما هم يقرءون ما كتبه المخمنون إذ دقت الساعة السادسة صباح يوم الجمعة، إيذانا بانتهاء الموعد المضروب …  ÙˆÙ†Ø¸Ø± العمدة إلى مستشاره وابتسم ابتسامة المنتصر، وهز المستشار رأسه تأكيدا …

يا لك من عبقري أيها العمدة … وتعالت الضحكات، وترددت أسماءٌ … هؤلاء … هؤلاء لا ينبغي تركهم يعبثون … وسيرون مع من يلعبون، وسيعلمون أينا أشد بأسا وأشد تنكيلا … خمور تُسكب، وكؤوس تُقرع، احتفاء واحتفالا …

وإذا بالريح تعوي من بعيد، وهاجت الأمواج كالجبال تتجه إلى الجزيرة كالقطارات المسرعة، وانخلعت الأشجار وطارت جبال الموج تكتسح كل شيء، لا تبقي ولا تذر، لا بشرًا ولا حجرًا إلا أشلاءً وحطاما متناثرة تحت جبال الأمواه العاتية، في ثوان معدودة صار كل شيء لا عينا ولا أثرًا. لا شيء سوى الأمواه، لا شيء حيًّا، لا شيء … ثم هدأت الريح ثم طال هدوؤها، ثم طفت أشياءُ كثيرة على وجه الماء، بعيدا بعيدا، خشب وورق وجثث، من بينها ورقة كالقارب، ظهرُها إلى الماء وصدرها إلى الشمس والهواء، وقد خُطّ فيها:

نحذركم – بناء على علمنا ودراساتنا المتقدمة – من تسونامي شديد السرعة والخطورة،

سيصل إلى جزيرتكم في غضون يومين تقريبا، أو أقل،

وعليكم الابتعاد عن الجزيرة في أسرع وقت …

… …. …          القوة العظمى “.  

Related posts

Leave a Comment