وداعا أخي الحبيب، للدكتور أيمن عيسى تلميذي المصري النجيب

يبدو الكاتب في الصورة الملحقة معلما بقلب على صدره، والراحل -رحمه الله، وطيب ثراه!- معلما بنجم على رأسه!

ودعنا أمس بنفوس حزينة وقلوب مكلومة أخي الحبيب د.محمدعلى عبدالعال رحمه الله وأحسن إليه وبرد مضجعه. لقد صحبته عشرين عاما فما علمت عليه من سوء، ما وجدته إلا إنسانا طيبا عفيفا كريما رفيقا بالناس. التقيته في قاعات المحاضرات بالفرقة الأولى بكلية دار العلوم، يلتف حوله الزملاء الصغار كأنه واحد منهم بل أخ أكبر لهم، إذ تخرج قبل الانتساب إلى دار العلوم في كلية التجارة وعمل في بعض وظائفها، يداعبهم ولا يرد طلبا لأحدهم في تصوير المحاضرات فيتجشم الذهاب إلى منطقة بين السرايات يوميا للتصوير ينفق في ذلك عددا من الساعات. وحين ثقل الأمر وصارت الدفعة كلها تطلب أوراقه خصص يوما من أيام الأسبوع يأتي فيها بمحاضرات الأسبوع كلها ليصوروها جميعا ويمكث معهم الساعات الطوال بلا ضيق أو تبرم. بل ربما دعا الطلاب إلى تناول الطعام في مطعم مجاور على نفقته الخاصة. فقد كان رحمه الله يداوم على حضور المحاضرات، ويندر أن يتخلف عنها، ويحسن بذكائه التقاط الأفكار الرئيسة والأمثلة المهمة من المُحاضر فيدونها بخطه الرشيق الجميل بقلم ذي سن رفيع اسمه top ولا يحتاج بعد التسويد إلى تبييض ألبتة. حرصنا قبل المحاضرات أو بينها على الجلوس في مقاعد الاستراحة بالكلية، نراجع دروسنا ومحفوظاتنا، ثم يفتح حقيبته المربعة السوداء التي لم تخل من طعام قط فيأبى إلا أن أشاركه طعامه وإن كان قليلا لا يكفي إلا الواحد فما كان أشهاه من طعام والله. وفي تلك السنة بينما نحن جلوس في الاستراحة إذ أقبل علينا طالب لا نعرفه ولا يعرفنا يستفسر عن شيء ما فسألنا وقبل أن نجيبه انسحب معتذرا قائلا: آسف فأنتم من باحثي الدراسات العليا فابتسمنا وضحكنا، وقد تفاءل أخي محمد بكلام الطالب أي تفاؤل وعدها بشرى، وكان ديدنه رحمه الله التفاؤل العظيم، لا يتسرب اليأس ولا التشاؤم إلى روحه أبدا. وكثيرا ما كان يذكِّرني بهذا الموقف بعد أن جرى تعييننا بالكلية. ومن تفاؤله رحمه الله أنني كلما شكوت إليه أمرا حزبني أو تضييقا نالني بشَّرني وذكرني بهذه الآية الكريمة: “ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها” ونصحني بالدعاء، وقال اطلب من الوالد والوالدة الدعاء لك بالتيسير فالدعاء مجرب نافع. دعاني غير مرة إلى بيته حيث التقيت والده الكريم فضيلة الأستاذ الدكتور علي عبد العال رحمه الله الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، ومكثنا أوقاتا في مكتبة والده العامرة، وتعرفت إلى أخيه الأستاذ الفاضل أحمد والحق أن أهل بيته أهل علم وفضل وخلق وتواضع عظيم. ولقد لمست محبة الناس لهم حين كنت أصلي بتلك الزاوية الصغيرة القريبة من المسكن، وهي زاوية على صغرها عامرة بالطيبين الذين كان يؤمهم في الصلاة، وفي تشييع جنازته كان هؤلاء الطيبون هم أكثر المشيعين له وقد أثنوا في أحاديثهم عليه ثناء عظيما صادقا.كنا نستذكر دروسنا في الهاتف لساعات، وأحيانا نحمل كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لابن رشد، ونذهب إلى بيت أخينا الظريف الأستاذ أحمد عبد الله لنقرأه معا، وكنا نناديه مداعبة بأحمد العلماني. وكان أخي محمد من أحرص الناس على مداعبته والسؤال عنه، وقد نال أخونا أحمد بفضل الله رسالة الماجستير بنجاح في موضوع مهم دقيق في أحكام ذوي الحاجات الخاصة دراسة تطبيقية على العبادات. وكنت إذا أردت معرفة الحكم الشرعي في أي مسألة من المسائل لا ألجأ إلا إلى أخي محمد فلم أكن أثق إلا به لعلمه وتقواه وورعه وتيسيره بلا إفراط أو تفريط. كان رحمه الله رجلا طيبا متواضعا يكثر من الصدقات، ولا يتأخر عن تقديم العون والمشورة، ومن تواضعه أنه كلما هاتفته أو هاتفني يذكرني ممتنا بصداقاتنا وإخوتنا كأننا حديثو عهد بصحبة وكأنني أنا من تفضل عليه بهذه الصحبة، ويدعو لنا بأن يجمعنا الله في جنته متحابين. ويعلم الله أنني كنت أعد صحبته الطيبة هدية من السماء وهبها الله لي من غير سعي مني ولا حول ولا قوة. أما عن لقائه الناس فما عرفته ولا عرفه أحد من الناس إلا بشوشا مبتسما مرحا يشيع البهجة في أحاديثه، ولا يلقى زميلا له إلا داعبه وضاحكه فلا يتركه إلا مبتسما. وكان رحمه الله لا يخوض فيما يخوض فيه بعض الناس من أحاديث الغيبة والنميمة وأشباهها فقد عاش ومات سليم الصدر عف اللسان. وأما عن طلابه وحدبه عليهم وشفقته بهم وحرصه عليهم فحدث ولا حرج. كان آخر لقاء لي به قبل شهر رمضان الكريم في مراقبة الامتحانات بدار العلوم، جلست عنده في مكتبه وقاسمني طعامه وداعبني أنا وأخي الدكتور أحمد صلاح كدأبه. وبعد الأسبوع الأول من شهر رمضان بلغني مرضه بالكورونا فهرعت للاتصال به وعلى صعوبة كلامه كان يقتصر على حمد الله وطلب الدعاء. وقبل موته بيومين اتصل بي بنفسه وقد بدا عليه بعض التحسن والقدرة على الكلام وذلك ليطمئن عليَّ، ويسألني عن أخيه وزميله أسامة شفيع رحمه الله، وسألته عن موعد خروجه من المستشفى فقال ربما بعد أيام قليلة ولم أعلم أنها كانت محادثة وداع حيث فاضت روحه الطيبة الشفيفة في ليلة من ليالي رمضان المباركة، فكان بيننا ضيفا خفيفا وعابر سبيل. فاللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر واجمعنا به في الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين!.

Related posts

Leave a Comment