حفلة الحروف تحت سدرة سمائلية، لأحمد الراشدي تلميذي العماني النجيب

السبت , 12 ديسمبر 2020 7:40 م

أحمد الراشدي – باحث متخصص في أدب الأطفال والناشئة

الحكواتي أحمد الراشدي يكتب: حفلة الحروف تحت سدرة سمائلية

أقلّب ألبوم طفولتي في منتصف الثمانينات من القرن العشرين، أفتش عن فرحي الأول بأيام الأسبوع، تستوقفني تلك الأربعاءات المشرقة بشموس الحروف العربية التي كنا نعشقها أنا ورفاقي ونحتفل معها بغناء لا يشبهه أي غناء في ذاكرتي.

كنّا نغني للحروف.. للحروف العربية، كنّا نقيم لها حفلة، وكان موعدها يوم الأربعاء؛ حيث كان المعلم (يوسف بن سرحان) رحمه الله يُوقف تدريس القرآن في هذا اليوم، ويخصصه لِلهَجوِ أي لتهجية الحروف على طريقة كتاب القاعدة البغدادية لأبي نوران حامد بن عبد الحميد.

كنّا نملأ تلك الأربعاءات بشدوٍ غاية في الجمال والبهاء والقداسة، مرة تحت ظل جدار المسجد، ومرة تحت ظلال سدرة، نصطف على شكل حلقة يبدأ أولنا بغناء الكلمات التي تجمع حروف العربية: ” أبجد، هوز، حطّي، كَلمنٌ، سعفص، ثخذ، ضغضغ” فيقول: “أبجد.. ألف باء جيم دال…” وهكذا حتى ينتهي من جملة الحروف الأبجدية..

أذكر أنّي كنت أرتب مكاني حتى يقع الدور عليّ أن أردد (ألِفْ ليس له) حيث أقوم بتوصيف الحروف المنقوطة وغير المنقوطة، هكذا باللهجة:
“ألف ليس له.. (أي ليس له نقطة)
باء تحتُه نقطه
والتاء فُوقُه نقطين
والثاء فوقه ثلاث نْقط
والجيم تحته نقطه…
والحاء ليس له” . وكنت أنتشي عندما أنطق عبارة “ليس له” ولم أكن أدرك حينها وأنا أرددها أنّ معناها كما ذكرت، وإنما فتنني جرسها الموسيقي باللهجة السمائلية (ليْسَله) وكانت تخطر على بالي عدة كلمات تتشابك معها في عذوبة نطق حروفها (ليلى والليسو..)

تلك الصباحات التي غنينا فيها الحروف العربية واحتفلنا بها زرعت فينا عشق شكل الحروف العربية وجعلت لها قداسة خاصة، وقبل (فك الخط) كنّا نرى الحروف متشابكة كجبال سمائل على صفحات المصحف الشريف إلا أنها يوم الأربعاء كانت تراقصنا ونراقصها كالفراشات تراقص أشجار الليمون والسفرجل.

ذلك العشق وتلك القداسة أثّرا في نظرتي للحروف اللاتينية وصرت أنظر لها بغرابة وبغرابة أكثر لشكل الحروف اليابانية التي كنت أشاهدها في المسلسلات الكارتونية المدبلجة.
وفي مرحلة لاحقة شدّتني إهداءات الأصدقاء أو العشاق لبعضهم؛ حيث كانوا يرجعون من صلالة بميداليات صغيرة أو قلائد أو أقلام منقوش ومحفور عليها الحرف الأول للمُهدى له مثلا ( (Aهذا حرف اسمي الأول.. لكني كنت لا أجد تلك البهجة التي يجدها بعض أترابي حيث كنت أنتظر أن ينقشوا لي حرف (أ) العربي السامق كنخلة الفَرْض.

أستاذنا الدكتور محمد جمال صقر في سنتنا الجامعية الأولى قبل عشرين سنة من هذه اللحظة وفي مقرر مهارات اللغة العربية أعاد في خاطري حفلة الحروف الأربعائية الطفولية حين سألنا سؤالا مباغتا لذاكرة قلبي ولم أتوقعه، ما أحب الحروف لقلوبكم؟! فقد صرح لنا حينها أنه مفتون بحرف الراء العربي حتى إنه انتقى أسماء لأطفاله مزنرة بحرف الراء (ريم ، براء، رهام، سرى، وفيما بعد كان فرات) وأخذ يعدد لنا الدواوين الشعرية والكتب التي سمّاها مؤلفوها بحروف مثل معجم العين للعبقري العُماني الخليل بن أحمد الفراهيدي وديوان “آية جيم” للشاعر حسن طلب.
حاولت أن أجيب عن سؤال دكتورنا -حفظه الله- لكن قلبي كان يتقلب في افتتانه بين حرفين، حرف الفاء بطريقة نطق مخارجه التي تشرح النفس وشكله العطوف بتلك الانحناءة التي تشبه ضمة يد أمي والنقطة فوقها كأنها غيمة صغيرة دانية من القلب، وتارة أطير عشقا في حرف الألف الذي يشبه شجرة زيتون فلسطينية شامخة، وقد انتقيت أسماء لبعض أطفالي فيها شموخ الألف وأنَفَتها (سبأ، أزد) كيف لا وقد تعطّر قلبي بحبهم وأظل أكرر لهم شطر بيت الشاعر العُماني سالم بن محمد الدرمكي :
إنّي أحبكم منذ كنتُ قائما كالألف ..
ذلك الاحتفال بالحرف العربي الذي سكن طفولتنا وعرّش حولها ياسمينا من الفرح وريحانا من العشق الخاص هو تقليد عُماني متوارث في الكتاتيب العُمانية ومدارس تحفيظ القرآن، وأسجل هنا إعجابي ببعض المدارس الخاصة التي رجعت تفعّل هذا التقليد الغنائي المرتبط بحروف المصحف الشريف.

وأتابع بحرص تقدّم وتطور مستوى طلابها في القراءة والكتابة بسبب اعتمادهم كتاب القاعدة النوارنية للشيخ نور محمد حقّاني – رحمه الله- في منهج أسس تعليم القراءة العربية للمبتدئين في المرحلة التمهيدية؛ حيث يساعد ويهيء الطفل تدريجيا في نطق الحروف ومن ثم الكلمات والجمل والآيات ومن ثم إتقان القراءة إتقانا جيدا.
وقد أبهجني تصريح وتأكيد الأستاذ صديق بن يوسف خوجه مدير قطاع المراكز القرآنية المسائية والمشرف على حلقات القاعدة النورانية في المملكة العربية السعودية في لقاء صحفي معه نشرته جريدة الرياض أنّ تعلّم القاعدة النورانية “ينقل الطالب ثلاث سنوات تقريبا إلى الأمام مقارنة بالطفل الذي لم يدرسها بحيث يصبح مستوى الطالب الذي عمره خمس سنوات في القراءة مثل الذي عمره ثماني سنوات في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي أو أفضل منه..ويعتمد ذلك على ما إذا تمّ تعليمها بطريقة صحيحة”.

Related posts

Leave a Comment