عرفان وتقدير، لرجائي عطية

من أكثر من نصف قرن، وأنا ضيف دائم على كثير من كتب التراث العربى، أنهل منها ما أشاء، وأجمع من المواد العلمية ما يلزمنى، وأراجع فى صفحاتها آثار هذه الحضارة الرائعة التى صنعها الأجداد. وعلى كل كتاب من كتب هذا التراث العريض، تطالعنى أسماء المحققين الذين بذلوا الجهد والعناء فى البحث والتفتيش، وقراءة المخطوطات، وتحقيق النصوص، وشرح الكلمات والعبارات، وتهيئة هذه الأسفار الضخمة القيمة لتكون ميسورة محققة ومشروحة فى متناول القارئ.

https://almalnews.com/%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1-1/

تطالعنى من البدايات أسماء الشقيقين مع فارق السن الواضح بينهما أحمد ومحمود محمد شاكر، أجد أسميهما وتحقيقهما وشروحهما على تفسير ابن جرير الطبرى للقرآن المجيد، وعلى كثير غيرهما.. والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ عبد السلام محمد هارون، وغيرهم من العلماء الكرام الذين اختاروا الطريق الصعب، القليل العائد، مضحين بنور عيونهم، وبوقتهم، ليسهروا الليالى وينقبوا ويفتشوا ويحققوا ليتيحوا لغيرهم أن يطل فى يسر مضمون العائد على ما يختارونه من أمهات كتب التراث، المخطوطة أو التى سبق نشرها بلا تحقيق أو بلا تحقيق مجزئ، فيتيحون لهذه الأسفار التى طواها النسيان وإهمال السنين، أن ترى النور وتصافحها عيون طلاب المعرفة، محققةً مشروحةً وفى ثوب قشيب.

لولا هؤلاء وأترابهم وتلاميذهم، ما أتيح إحياء هذا التراث العريض بما يستحقه من ضبط وإبراز، ولا أتيح لنا أن نطالع هذه الأعمال الخالدة التى بث هؤلاء الزهَّاد العاكفون الروح فيها.

لازلت أذكر وأنا أحضر لكتابة السيرة النبوية فى رحاب التنزيل، كيف جبت معظم المدن المصرية ومكتبات دار المعارف فيها، لأفتش عن مجلدات تفسير الطبرى للقرآن المجيد، المحققة والمشروحة بمعرفة الأخوين العلامة أحمد محمد شكر والعلامة محمود محمد شاكر، والتى توقفت للأسف عند المجلد السادس عشر، ولم يحاول أحد- أو لعله خشى المقارنة- أن يستكمل من بعد هذا العمل الجليل الذى توقف إخراجه برحيل أول الشقيقين فى سنة 1958 ثم رحيل الثانى المشهور بأبى فهر سنة 1997م. وقد دفعنى إلى هذا التفتيش الصبور عن النسخ حتى جمعتها، الفارق هائل للقراءة فيها عن القراءة فى النسخة القديمة المطبوعة من قرن، والتى يُحمد لمكتبة البابية الحلبية قيامها بإخراج أولى طبعاتها سنة 1321 هـ – 1900م، وتلتها مطبعة بولاق الأميرية بإصدار طبعة ثانية سنة 1323 هـ -1902 م، وظل الكتاب بعيدًا بعد نفاد نسخة عن متناول طلاب البحث والمعرفة، حتى طبعته مكتبة البابية الحلبية طبعة ثالثة سنة 1388 هـ – 1968 م، والتى لحقت ربما بآخر نسخها سنة 1980 فى زيارتى لمكتبات الأزهر الشريف.

نسخة تفسير الطبرى المحققة بمعرفة الأخوين شاكر، والتى توقفت للأسف عند المجلد السادس عشر، نجد الدقة واضحة فى العناية بتحديد دور كلًّ منهما فى إخراج هذا العمل الجليل- محمود محمد شاكر – الأخ الأصغر- «حققه وعلق حواشيه»، وأحمد محمد شاكر – الأخ الأكبر- «راجعه وخرج أحاديثه»، فتضافر علم الشقيقين فى إخراج هذه الطبعة المحققة المدققة العامرة بالحواشى الشارحة والمفسرة والموضحة، حتى لتكاد تكون عملاً موازيًا لا يستغنى عنه الباحث فى هذا العمل الجليل.

ملأ الشقيقان أحمد ومحمود- محمد شاكر، الدنيا إنتاجًا غزيزًا متميزًا، ولقيا من وقت لآخر بعض ما يستحقانه من تكريم، ولكن للأسف لا يعرف كثيرون- سيما غير المعنيين بدراسة كتب التراث- قدر علمهما ومكانتهما، أو مقدار ما بذلاه مجتمعين أو منفردين فى خدمة التراث والإسلام والفكر والأدب العربى.

يتفق الشقيقان شاكر، فى مولدهما لأبيهما الشيخ محمد شاكر العالم الأزهرى الذى عمل بالتدريس بالمعاهد الأزهرية، ثم تولى منصب قاضى القضاة فى السودان، قبل أن يعود لمصر ليلى مشيخة المعهد الدينى بالإسكندرية، ثم وكالة مشيخة الأزهر الشريف.

اجتمع الشقيقان اللذين يفصل بينهما فى الميلاد سبعة عشر عامًا، فى تلقى العلم من مناهله فى البيئة العلمية التى وفرها للبيت أبوهما العالم الأزهرى، وإن كان الشيخ أحمد شاكر قد استمر فى الدراسة الأزهرية حتى حصل على شهادة العالمية سنة 1917، وتبحَّر فى علم الحديث، ولقب بشمس الأئمة «أبو الأشبال»، بينما اتجه محمود شاكر الملقب بأبى فهر اتجه إلى الدراسة المدنية حتى التحق بكلية آداب القاهرة سنة 1926، ثم قطع دراسته فى الكلية فى قصة خلاف طويلة مع أستاذه الدكتور طه حسين، وليسلك طريقه بعيدًا عن الجامعة، وإن حَصَّل فيه فيوضًا من العلوم والمعارف، واهتم بالدراسة الأدبية إلى جوار تحقيق التراث، واجتمع الشقيقان فى أعمال أخرجاها معًا كتفسير الطبرى، بينما انفرد كلٍّ منهما بأعمال أخرى، أو بالاشتراك مع آخرين، مثلما اشترك أحمد شاكر فى «المفضليات» ثم «الأصمعيات» مع الأستاذ عبد السلام هارون، وبعد ذلك يطول الحديث فى سيرة كلًّ منهما.

كان ميلاد الشيخ أحمد محمد شاكر الذى عرف بشمس الأئمة أبى الأشبال، ولد فى جرجا بصعيد مصر سنة 1390هـ /1892م، قبل سبعة عشر عاما من مولد شقيقه محمود سنة 1327هـ / 1909م والشيخ أبوالأشبال فقيه ومحقق وأديب وناقد، ولكنه برز فى علم الحديث حتى صار إمامًا فيه فى عصره. صاحب والده فى عمله بالسودان، والتحق هناك بكلية غوردون، ولكن بعودته مع أبيه لمصر التحق بمعهد الإسكندرية الدينى الذى كان والده شيخا له، واستكمل دراساته بالأزهر حتى حصل على شهادة العالمية سنة 1917م.

وجدير بالذكر أنه مع دراسته بالأزهر على المذهب الحنفى، وبه كان يقضى حينما عمل بالقضاء الشرعى ثم بمحكمته العليا، إلاَّ أنه كان بعيدًا عن التعصب لمذهبه، حريصًا على أن يرجع إلى آراء أهل العلم جميعا، متحاشيا ما صرح بأنه فرق أهل العلم إلى أحزاب وشيع علمية مبنية على العصبية، منبها إلى أن هذا التفرق كان السبب فى زوال دولتهم!

وأنت تدهش حينما تراجع قائمة مؤلفات ومنجزات أحمد شاكر، سواء فى علم الحديث، أو فى علوم الفقه، أو فى تحقيق كتب التراث.. الدينية، والأدبية.. سوف يمر بك حين تطالع قائمة إنجازاته، تعدد مؤلفاته فى علم الحديث، فكتب شرح «ألفية السيوطى فى علم الحديث»، وشرح ألفية العراقى فى مصطلح الحديث، وحقق وشرح مؤلف الحافظ بن كثير فى اختصار علم الحديث، وشرح أحاديث سنن الترمذى، والمسند لابن حنبل الذى حالت وفاته دون تكملته بعد أن شرح حوالى ثلثه.

وألف أحمد شاكر كتاب «نظام الطلاق فى الإسلام» الذى صار مرجعًا فى بابه للقضاء والإفتاء، واشترك مع شقيقه الأصغر على محمد شاكر فى تحقيق «تفسير الجلالين» للسيوطى، إضافة إلى مشاركة أخيه محمود شاكر فى تحقيق أحاديث تفسير الإمام الطبرى للقرآن، ومع مشاركته لشقيقه فى إخراج بعض كتب الفقه والتفسير، شارك آخرين من العلماء فى تحقيق العديد من كتب التراث، فشارك تلميذه الأستاذ عبد السلام هارون فى تحقيق وإخراج كتاب «المفضليات» الذى إحتوى على نحو مائة وثلاثين قصيدة شعرية اختارها المفضل الضبى من بين أبلغ الأشعار العربية، ثم فى تحقيق وإخراج كتاب «الأصمعيات» الذى انتقى فيه الأصمعى عددًا من القصائد الشعرية من أجود الشعر العربى استكمالا للمفضليات، كما شارك عبد السلام هارون فى تحقيق وإخراج كتاب «اصطلاح المنطق» لابن السكيت.

ولم يبعده علم الحديث، ولا الشعر والأدب، عن أصول الفقه، فحقق وشرح كتاب الإحكام فى أصول الفقه لابن حزم، والعمدة فى الأحكام للحافظ عبد الغنى المقدسى، وكتاب جماع العلم للإمام الشافعى، ثم كان له إجتهادات شفت عن استنارته وبعد نظره، ومما يروى أنه كان وأبوه الشيخ محمد شاكر، ينتصران للرأى القائل بأن إثبات مطالع الشهود العربية لا يكون إلاَّ بالرؤية الشخصية، ويخالفان فى ذلك فتوى الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهر الذى كان قد أفتى بجواز الاعتماد على الحساب الفلكى. وبعد عدة مقالات كتبها أحمد شاكر فى الانتصار لرأيه، بدا له أن يعيد تحقيق المسألة، وأن يتناولها فى تأمل، وأن يعيد فيها الفكر بروّية، فهداه بحثه إلى ما يخالف رأيه ورأى أبيه، فلم يتوان فى إخراج رسالة وفى حياة أبيه عن تحديد أوائل الشهور العربية، خالف فيها ما كان عليه هو وأبوه، ورجع إلى رأى الشيخ المراغى، وأعلن فى صراحة وشجاعة صواب رأيه، وزاد عليه أنه يجب إثبات أوائل الشهور العربية بالحساب الفلكى فى كل وقت.

كان الشيخ أحمد محمد شاكر أمةً وحده، ضرب فى ميادين العلم والمعرفة فى كل باب، ونذر حياته للعلم فى تواضع وصمت العلماء، وزامل تلاميذه فى بعض تحقيقاته لكتب التراث، حتى لفتنى ما كتبه الأستاذ عبد السلام هارون فى الطبعة التى صدرت بعد وفاة الشيخ أحمد شاكر لكل من المفضليات والأصمعيات فطفق يقول هو الآخر بتواضع العلماء، إن الشيخ أحمد شاكر أستاذه الذى كان له نعم القدوة ونعم العون ونعم المرشد.

لست أملك وأنا أجتزئ هذه السطور القليلة عن العلاَّمة، شمس الأئمة، أبى الأشبال أحمد محمد شاكر إلاَّ أن أنحنى احترامًا وإجلالاً وشكرا لهذه القامة الجليلة، التى أعطتنا الكثير، ولازلنا نغترف العلم من على الموائد التى بسطها لنا هذا والرعيل، فى صمت وقور ومعطاء، فى غير مَنًّ ولا تفضّل ولا استعراض. طيب الله ثراه، وتغمده برحمته ومغفرته ورضوانه.

كان أبوفهر، الأستاذ محمود محمد شاكر، عريض العلم، عظيم الاعتداد بنفسه، ترى تفرد شخصيته، واستقلالية رأيه، وشجاعته فيه، منذ سنوات صغره وصباه. فمع أنه ابن الشيخ الأزهرى كبير علماء الإسكندرية، وكيل الأزهر الشريف، الشيخ محمد شاكر، وشقيق الشيخ أحمد محمد شاكر الذى حصل على شهادة العالمية من الأزهر سنة 1917م، وسن محمود شاكرآنذاك ثمانى سنوات، فقد ولد سنة 1909م، إلاَّ أنه تفرَّد فى اختيار طريقه فى التعليم، فلم يحذ حذو أبيه أو شقيقيه الأكبر أحمد وعلى، وإنما انفرد باختيار طريق التعليم المدنى، وتلقى أولى مراحل تعليمه فى مدرسة الوالدة أم عباس فى القاهرة سنة 1916، ثم انتقل وهو فى العاشرة بعد ثورة 1919 إلى مدرسة بدرب الجماميز، وفيها تأثر كثيرًا بدروس اللغة الإنجليزية الجديدة عليه والتى كانت محل اهتمام المدرسة، ولم يقطعه التعليم المدنى عن التردد على الجامع الأزهر الذى سمع فيه كثيرًا من الشعر والأدب، فتوازنت من البداية مصادره التعليمية بين العربية التى صار قطبًا من أقطابها، وبين الإلمام بالإنجليزية التى أتاحت له الإطلال على ما لم يكن متاحًا بالعربية.

وبعد حصول محمود شاكر على شهادة إتمام الدراسة الثانوية من المدرسة الخديوية، ومع أنه كان بالقسم العلمى، إلاَّ أنه اتجه إلى كلية آداب القاهرة، حيث التحق بقسم اللغة العربية، والطريف أن الدكتور طه حسين الذى عاداه فيما بعد هو الذى توسط لدى أحمد لطفى السيد رئيس الجامعة لقبوله بكلية الآداب برغم أنه كان بالقسم العلمى للتوجيهية.

وهنا نقلة أخرى أورت بتفرد شخصيته واستقلالية رأيه إلى حد العنف فى الانتصار له. كان إكبار محمود شاكر للدكتور طه حسين عظيمًا، لأستاذيته له، ولمكانته، ولفضله فى إزاحة عقبة التحاقه بكلية الآداب. وفى سنة 1926 كان الدكتور طه حسين يلقى محاضراته عن الشعر الجاهلى، لطلبة كلية الآداب، وأيضًا لطلبة السنة الأولى بحقوق القاهرة التى كان نظامها يفرض آنذاك تمضية سنة تحضيرية بكلية الآداب. وكان من طلبة كلية الحقوق الدارسين بكلية الآداب فى تلك السنة: أبى الروحى وأستاذى محمد عبد الله محمد العلامة والمحامى الأشهر، والناقد الكبير والمحامى أيضًا محمد مندور، وكان فى هذه الدفعة ضمن طلبة كلية الآداب محمود محمد شاكر الذى استمع ضمن من استمعوا إلى نظرية الدكتور طه حسين فى الشعر الجاهلى، وإلى رأيه أن معظمه منتحل لفَّقَهُ الرواة ونسبوه إلى امرئ القيس وزهير وغيرهما من شعراء الجاهلية، وروى محمود شاكر فيما بعد أنه ضاعف من صدمته فى رأى طه حسين، أنه كان قد اطلع على هذا الرأى بحذافيره للمستشرق الإنجليزى اليهودى مرجوليوث، فى مقال كان منشورًا له فى مجلة استشراقية.

تردد محمود شاكر كثيرًا فيما يروى فى مراجعة طه حسين، تهيبًا واحترامًا لأستاذه، ولكن شخصيته المتوثبة لإبداء ما يعتقده، حدته للخروج عن صبره، فطفق يناقش أستاذه ويحاوره ويرد عليه فى صراحة أفسدت ما كان بينه وبين أستاذه، وإن أحجم وقتها عن مواجهته بأن ما يطرحه فى محاضراته هو أفكار المستشرق مرجوليوث!

لم يطق محمود شاكر صبرًا على استكمال دراسته بكلية الآداب التى خاب أمله فيما صادفه فيها، فترك الجامعة وهو بالسنة الثانية، وسافر سنة 1928 إلى جدة بالسعودية، حيث أنشأ هناك مدرسة ابتدائية بتكليف من الملك عبد العزيز آل سعود، ولكن والده استدعاه إلى مصر، فعاد فى العام التالى (1929) إلى القاهرة، حيث انصرف إلى الأدب والكتابة، وقراءة دواوين الشعر، وعشق المتنبى وشعره، ومع الوقت صارت له ملكة متميزة فى تذوق الشعر، فبدأ ينشر قطعه الشعرية فى مجلتى «الفتح» و«الزهراء» لمحب الدين الخطيب، وبدأت مع الوقت تنمو اتصالاته بأعلام هذا العصر من الأدباء والمفكرين، فاتصل بأحمد تيمور وأحمد زكى باشا والخضر حسين ومصطفى صادق الرافعى، وبعباس العقاد الذى توثقت صلته به.

بتعمق محمود شاكل وتأمله فيما وقع عليه من أشعار العرب، نمت ملكة تذوقه، وصار له منهج يطبقه فى قراءة الشعر وفهمه وتحليله، وساعده اطلاعه على التفاسير القرآنية وكتب الحديث، وما وصله من مناهج السابقين فى دراسة الشعر والشعراء كطبقات الشعراء لابن سلام الجمحى، وكتب الجرح والتعديل وغيرها من كتب أصول الفقه والملل والنحل للشهرستانى والبغدادى، وكتب البلاغة والأدب والنحو والتاريخ، فانفتحت له آفاق زادت علمه وملكاته ؛ وبهذا الزاد المتنامى، أقبل محمود شاكر على المتنبى، شاعره الأثير المحبب، وما إن كلفه فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف بكتابة دراسة موجزة عنه، حتى دفعته محبته للشاعر للتوسع، حتى تحولت الدراسة إلى ما يشبه الكتاب، فنشره فؤاد صروف فى عدد خاص للمقتطف بأول يناير 1936، صدَّره بأنه لأول مرة يصدر عدد المجلة فى موضوع واحد لكاتب واحد، وقد كان لهذه النقلة ما بعدها فى حياة الأستاذ محمود شاكر.

الحديث عن أبى فهر الأستاذ محمود محمد شاكر، فى هذا الحيز، وفى الإطار المحدد فيه عن جانب تحقيق وإحياء التراث، حديث صعب، مرجع صعوبته تشعب وتعدد فيوض ومساهمات وعطاء هذا العلامة الجليل الذى كان يصفه الأستاذ يحيى حقى وهو من هو بأنه «أستاذه». والواقع أن الأستاذ محمود شاكر يستحق هذا التوصيف، وقد أمضيت الليل بطوله أوازن كيف أنحصر فى جانب واحد لرجل متعدد الجوانب غزير الإنتاج فياض العطاء، فتركت القلم يجرى ببعض الخواطر تطوف حوله قبل أن أعود للجانب الذى اخترته لك هنا عن تحقيق وإحياء التراث.

فى مكتبتى غير الكتب التى حققها الأستاذ العلامة محمود شاكر، عملين كبيرين من تأليفه: المتنبى، وأباطيل وأسمار، فضلاً عن برنامج ابن سلام الجمحى فى كتابه طبقات فحول الشعراء. شاء أن يقدم لكتابه عن المتنبى برسالة فى الطريق إلى ثقافتنا، أودع فيها الخطوط العريضة لخلاصة رؤيته وتوجهاته. تحدث فيها كذلك عن بداية قصته مع دراسة الشعر الجاهلى وكيف انتهت به اتخاذ منهجه الخاص فى «التذوق».. تذوق الكلام عامةً، والشعر خاصةً. وقضيته فى الجامعة حول هذا الشعر التى أدت به سنة 1926، وهو بالسنة الأولى بكلية الآداب، إلى معارضة منهج أستاذه الدكتور طه حسين، وما دار حول هذه القضية التى تشعبت وطالت مناهج البحث والمنهج الديكارتى والاستشراق والمستشرقين، وطالت فيما طالت الأغراض الحقيقية التى يراها الأستاذ محمود شاكر للحملة الفرنسية.

على أن خلاف الأستاذ محمود شاكر مع أستاذه الدكتور طه حسين، لم يقتصر على ما احتدم بينهما بشأن رأى الدكتور طه فى الشعر الجاهلى، ولا على ما أفصح عنه الأستاذ شاكر لاحقًا أنه مستمد من رأى المستشرق مرجوليوث، وإنما تصعد الخلاف حول المتنبى. وفى مقدمته لكتابه عن «المتنبى»، حرص الأستاذ محمود شاكر على الإشارة إلى أن أول كتابه عنه كانت سنة 1936 حين نشرت المقتطف الكتاب فى عدد خاص، وأنه من ثم أسبق بسنتين من كتاب «مع المتنبى» لأستاذه الدكتور طه حسين الذى نقد فصوله الأولى بمقالات نشرت فى جريدة «البلاغ» سنة 1937، بعنوان «بينى وبين طه»، والحقيقة أنك قد لا تتعاطف مع الأسلوب الذى تناول به الدكتور طه حسين، فهو تارة يصفه بأنه أستاذه، ويقر له بفضل إلحاقه بكلية الآداب بتوسطه لدى الأستاذ أحمد لطفى السيد لقبوله رغم أنه يحمل «بكالوريا» القسم العلمى، وبأن له عليه بذلك يدًا لا ينساها، إلاَّ أنه يعود فيبدو وكأنه يستكثر عليه أبوة يستحقها، فيصفه بأنه بمنزلة أخيه الأكبر، ويشتد عليه أحيانًا بما لا يليق، ولا أعرف جفوة كهذه الجفوة إلاَّ التى كانت بينه وبين الدكتور لويس عوض، وهى موضوع كتابه الضخم أباطيل وأسمار، من اللافت أن الدكتور لويس عوض أقر له بالعلم، وأفصح عن أنه كان خليقًا بأن يستفيد منه، لولا الحدّة الذى تشكى منها الدكتور عوض.

وعلى نقيض الجفوة مع الدكتور طه حسين، والجفوة الأشد مع الدكتور لويس عوض، كانت علاقة الأستاذ محمود شاكر بكل من مصطفى صادق الرافعى، وبعباس العقاد على وجه خاص علاقة متميزة.. فيذكر للرافعى كيف انتشله ثناؤه على كتابه عن المتنبى، من وهدة حمى النقد العنيفة التى شنها عليه البعض، وكيف جاءت كلمات الرافعى ترياقًا أحب من وقت لآخر أن يعود إلى قراءتها. أما العقاد، فيروى أنه كان يلقاه مرارًا فى مترو مصر الجديدة، وكيف كان محبًّا له من طول قراءته لما يكتب، بيد أنه كان يلمس ظلالاً من الجفوة فى أسارير وجهه حين يرد على السلام على عادته من الأدب المحتشم، وربما كان ذلك راجعًا فيما يستنتج إلى علاقته بالرافعى الذى كان بينه وبين العقاد خصومة مستعرة، بيد أنه فوجئ بعد أيام من إهدائه له بمنزله كتابه عن المتنبى، فوجئ به يدعوه بالمترو إلى مجلس أمامه، وعلى وجهه بشاشة مكان الجفوة، وتطلّق مكان الانقباض، ومع أن العقاد لم يفاتحه يومها بشأن الكتاب، إلاَّ أنه كان واضحًا له أنه قرأه وأن رأيه فيه كان مرجع هذه البشاشة التى قابله بها والتى يعلق محمود شاكر بأن نشوته بها وبتغير العقاد إزاءه، فاقت نشوته بما كتبه الرافعى عنه، واعتبرها يدًا للعقاد عنده، إذ زادت ثقته بنفسه، ثم توثقت الصداقة من بعد بينه وبين العقاد، وظل يحمل له إكبارًا لا ينى عن الإفصاح عنه.

ربما عدت فى ظرف أوسع لأحدثك باستفاضة عن محمود شاكر الذى ملأ الدنيا بمؤلفاته ومقالاته ومعاركه، أما محمود شاكر المحقق لكتب التراث، فهو موضوعى الآن.

تلمس وفاء العلامة محمود شاكر للتراث، حين ترى أنه مع دراسته العريضة غير المسبوقة لكتابه عن المتنبى، حرص على أن يلحق بها ترجمات عن الشاعر من كتب التراث، وبعضها كان لا يزال مخطوطة لم تطبع بعد، كترجمة الرَّبعى لأبى الطيب، فلم يمنعه ذلك من أن يبذل العناء ليحقق ويجمع هذه المخطوطة ليضعها أمام القارئ بالكتاب، ويروى لنا محمود شاكر أنه وقع عليها فى آخر شرح الواحدى لديوان المتنبى. فنقلها كاتبها بخطه وألحقها بآخر الشرح، وأن هذه النسخة مخطوطة نفيسة محفوظة بمكتبة فيض الله بالآستانة تحت رقم: 1649، وذكر خبرها فى مقدمة الكتاب.

إلى جانب ترجمة الرَّبْعى لأبى طيب، أورد الأستاذ محمود شاكر ثلاث تراجم أخرى من التراث عن شاعر العربية العظيم، فأورد ترجمة المتنبى لأبى العديم عن كتابه «بغية الطلب»، وترجمة ابن عساكر للمتنبى، وأيضًا عن «مخطوطة» لكتاب الإبانة للعميدى، وترجمة المقريزى للمتنبى من كتاب «المقفى».. وأنت لا بد تلمس من حرصه على إلحاق هذه التراجم الأربعة بكتابه عن المتنبى مدى تقديره للتراث وحرصه على إحيائه وتقديمه، فاختار هذه التراجم الأربعة التى لم تُنْشر، لينشرها هو فى كتابه الضافى عن شاعر العربية العظيم.

لذلك لم يكن غريبا على هذا العاشق للتراث، أنه يعطيه جل وقته برغم تعدد جوانبه وإسهاماته، ويكفى أن تقرأ المجلدات الستة عشر التى ظهرت من سنوات بعيدة، لتفسير الإمام الطبرى للقرآن، التى حققها محمود شاكر ومعه شقيقه الأكبر أحمد شاكر، لنرى هذا الإخلاص النادر، والأستاذية اللافتة فى تحقيق النص، والعلم الغزير الفياض الذى تشف عنه الحواشى الطوال التى زين بها النص.

رغم جهوده العريضة فى الفكر والأدب وأبرزها كتابه عن المتنبى، ودراسته الضافية «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا»، ودفاعه عن أصالة الثقافة العربية ضد التغريب، ومعاركه الأدبية التى استطالت وتضمنها المجلد الضخم «أباطيل وأسمار»، فإن ذلك كله لم يصرفه عن العناية بأمهات كتب التراث، تحقيقا ونشرًا وإحياء.. حتى صار على رأس قائمة محققى التراث العربى، ووصفه العقاد بأنه «المحقق الفنان».

من منجزاته فى تحقيق التراث، فضلاً عن تفسير الطبرى، تحقيقه فى مجلدين كتاب «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام الجمحى، و«تهذيب الآثار وتفضيل الثابت عن رسول الله» للطبرى فى ست مجلدات، و«الإمتاع والمؤانسة» للمقريزى، و«فضل العطاء على العسر» لأبى هلال العسكرى، و«المكافأة وحسن العقبى» لأحمد بن يوسف، و«جمهرة أنساب قريش وأخبارها» للزبير بن بكار، و«دلائل الإعجاز» لعبد القاهرة الجرجانى.. وغيرها..

كان لا يحب أن يطلق عليه لقب «المحقق».. ربما لأنه تجاوز هذا الدور بمعناه الحرفى، فكان يتوسع ويضمّن تحقيقاته شروحه ورؤيته، ولهذا كان يؤثر أن يوصف بأنه قارئ للتراث وشارح له، وكان يضع على أغلفة الكتب المحققة عبارة: «قرأه وعلق عليه».. وقد مر بنا وصف العقاد له بأنه «المحقق الفنان».. وقال تلميذه الدكتور عبدالعظيم الديب: «كان شيخى الجليل الأستاذ محمود شاكر من أكثر أساتذتى تأثيرًا، فقد رأيت هذا العملاق يطيل التدقيق فى كل ما يكتب».. ووصفه الدكتور محمود الطناحى، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة حلوان، بأنه قد رزق عقل الشافعى، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية، وأنه بهذه الصفات مجتمعة حصل من المعارف والعلوم العربية ما لم يحصله من أبناء جيله، وبها حارب الدعوة إلى العامية، والدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وحارب الدعوة إلى هلهلة اللغة العربية والعبث بها بحجة التطور اللغوى، وحارب من قبل ومن بعد الخرافات والبدع والشعوذة.

وقال عنه الدكتور عبدالقدوس أبو صالح، إنه شيخ العربية بلا منازع، وتصوره الأستاذ وديع فلسطين وكأنه يقيم فى قلعة حصينة يحمى من داخل أسوارها لغة الضاد، وعن قصيدته «القوس والعذراء» علق الدكتور إحسان عباس قائلا: «لا ريب عندى فى أن الشعر الحديث قد ضل كثيرًا حين لم يهتد إلى «القوس والعذراء». وقال عنها الدكتور زكى نجيب محمود إنها «درة ساطعة وآية من هذا الفن محكمة».

الحديث عن العلامة الأستاذ محمود شاكر لا يفرغ، فقد كان قمة فى كل شىء، ظنى أن لغة الضاد قد حزنت وأنَّتْ أنينًا موجعًا يوم رحل عن دنيانا فى 7 أغسطس عام 1997. رحمه الله تعالى وطيب مثواه.

Related posts

Leave a Comment