وعظ الجنون، لمحمود رفعت تلميذي المصري النجيب

بسم الله الذي خلق الناس وخلقك ليروا في اختلاف الخلق دليل وجوده سبحانه، والحمد لله الذي أعطاك مكانةً بمنع العقل عنك ليعلمنا أنّ العطاء عطاؤه والمنع منعه، والصلاة والسلام على من رأت عقولُ الناس هديَه الصراطَ المستقيم فلزمتْه ما وسعها، ورأيتَه أنتَ ضياعَك القديم فحذرته وحدت عنه.
وبعد فلقد خلق الله كل إنسان بأحوال تتنازعه في كل وقت، وخلقك بحال واحدة لا تتغير وإن جهدت أحيانا في إخفائها، فدلتنا أحوال الإنسان المختلفة باختلاف أوقاته على أثر العقل العامل فيه بعمله فيوجهه إلى الخير تارة، ويُرديه في الشر أخرى، فيُقبل في حين ويُدبر في آخر، ويضحك في حين ويبكي في آخر، وأصلُ الضحك فيه أصلُ البكاء لو فهمتَ، غير أنك لم تجرّب عقلا من قبل.
ثم خُلقتَ أنت على حال واحدة لا تتغير مهما تغيرت أعمالك، وحسبتها “كرامة”ØŒ ولا كرامة فيها إلا أن يكون الجنون كرامة، ودع عنك اختلاف أعمالك، فكذلك يعمل المجنون أعمالا كثيرة مختلفة، وحاله واحدة لا تتغير؛ فإذا كان المجنون هو المقيم على معصية الله فإن المعاصي أعمال كثيرة، وإقامته عليها إقامة واحدة، واختياره إياها دون سواها في كل مرة دليل غياب عقله وفساد رأيه وسبب لليأس من حالته، وكذلك كانت حالك الواحدة التي أقمتَ عليها دليل غياب عقلك وفساد رأيك، ثم كان إصرارك عليها سببا لليأس من حالتك.
ولو أنك خلقت في زمن غير زمنك هذا ما كان سلام أي طفل عليك إلا بحجر يأكل من رأس انتفخ على قدر ما انتفخ ثم لم يتسع إلا لفكرة واحدة هي فكرة اختصاصك بتلك “الكرامة”ØŒ وأي كرامة في فكرة واحدة ترجرج في رأس كبير فتؤذي بصاحبها أهل عصر منكود؟ ولو كان صاحبها في غير زمنه، ورآه صغار أزمان مضت لما كان له في طبهم علاج غير أن يملأوا فراغات ذلك الرأس الفاسد بحجارتهم، فربما ضيّقوا على فكرته مجالها فهدأت وهدأ المبتلى المسكين، لكنك يا مسكين لم تخلق إلا لزمن غريب؛ حجب فيه الصغارَ والكبارَ قوانينُ وألفاظٌ مطاطة تأسرهم وتطلق أمثالك، فسرت في الناس غريبا، واختلط على بعضهم فأفسح لك هازئا بك أو جادّا فكان فيما بلغته مع ما فيك دليل على أن العطاء عطاء الله وأن المنع منعه، وأنه سبحانه إذا آتى جعل الأعمى ساعاتي.
فالحمد لله حمدا كثيرا على نعمة العقل المشغول بأفكاره المستجيب لأحواله الملتزم بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ما وسعه؛ فإن اختلاف الأفكار وتعدد الأحوال مهلكة لمن لا يهتدي ولا عاقل له، ولهذا أرسل الله رسوله هاديا ومبشرا ونذيرا؛ يهدي الناس إذا اختلطت عليهم أفكارهم وتنازعتهم أحوالهم، فيبشر من اهتدى وينذر من أبى لعله يعود، وجعل بعض الناس عاقلا لبعض، كما جعل أطفال الأزمان السابقة مؤدِّبين لمجانينها، ثم أنبتك زمانٌ غريب في ظل قوانين وألفاظ سخيفة تحجب عنك حجارة أطفال شبّوا، فما تركت منذ استوى عودك الفاسد قذف أولئك الشبان بحقدك وحسدك ومظاهر نقصك، وما منعوك عن اختيار منهم، ولكن القدر الذي جعل الشمس تجري لمستقر لها، اختار لبذرتك بقعتها الظليلة، ولو اختار لها أفضل البقاع ما خرجت إلا فاسدة، فازرع الثوم حيث زرعته فلن يكون إلا ثوما، غير أن للثوم فائدة في نفسه، وفائدتك في أن يتعظ بك غيرك.

Related posts

Leave a Comment