“غربة الراعي” لإحسان عباس: إشكالية المثقف الأكاديمي في عزلته، للدكتورة ضياء عبدالله خميس الكعبي (1/2)


قبل وفاته بسنواتٍ قلائل أعطى المرحوم العلاّمة والمحقِّق والناقد الأستاذ إحسان عبّاس (1920- 2003م) مخطوطةً تُمثّلُ الجزء الثاني من سيرته «غربة الراعي» إلى مدير دار الشروق الأردنيّة فتحي البس، ولكنَّ الناشر اعتذر له بلباقةٍ عن نشرها لكونها تشتملُ على وقائعَ صريحة بأسماء شخصيات اعتبارية ذات ثقل ثقافيّ ممّا يسببُ إشكالياتٍ كبرى للمؤلف والناشر معًا. وهكذا ظلَّ الجزء الثاني من سيرة إحسان عبّاس «غربة الراعي» حتى الآن غائبًا لم يُنشر؛ فقد نُشِرَ الجزء الأول فقط.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/13434/article/420.html


كنتُ مع خمسة من زملائي وزميلاتي نمثلُ الدفعة الأخيرة التي درّسها العلاّمة إحسان عبّاس في مرحلة السنة التحضيرية للدكتوراه بالجامعة الأردنية. الجدير بالذكر أن برنامج الدكتوراه هو على الطريقة الأمريكية مكوّن من دراسة مقررات تخصصية ثم امتحان شامل ثم إعداد الأطروحة. كان تدريسه لنا في مكتب كبير يتسع لستة مقاعد، وأقولها بصدق: كنا محظوظين فعلاً بتلقي العلم من هذه القامة الشامخة التي أعطت الكثير في صمت وإخلاص، وبقي نتاجها العلميّ الرصين في التأليف والتحقيق شاهدًا على هذا العطاء الفذّ. وحلقات الدرس عند أستاذنا كانت تجمعُ بين الصرامة الشديدة وتكليفنا بكتابة مقاربة لنص من النصوص العبّاسية بعد أن يكون قرأ معنا النص وأرشدنا إلى فهم مفاتيحه النقدية وطريقة تفكيكه، ولديّ في مكتبتي الخاصة تعليقاته المكتوبة بخط يده الصغير والدقيق المنمنم على مقارباتي وهي تعليقات أعتز بها. كما كان الأستاذ في أحيان أخرى يمنحنا استراحاتٍ جميلة يحدثنا فيها حديث الذكريات عن محطاته الأكاديمية في الجامعة الأمريكية ببيروت وجامعة الخرطوم وغيرهما. وفي مرة من المرات حدّثنا عن قصة عشق صديقه العلاّمة المحقِّق محمود شاكر لعاتكة الخزرجيّ الشاعرة العراقية طالبة دكتوراه الأدب العربيّ بجامعة السوربون الفرنسية وتلميذة المستشرق الفرنسيّ ريجيس بلاشير. وقد قدمت عاتكة إلى القاهرة كي تحقّق ديوان الشاعر العبّاسي العبّاس بن الأحنف وأرشدوها إلى محمود شاكر ومكتبته الكبيرة. والحكاية لها تفاصيل كثيرة ولكنها انتهت إلى نهاية حزينة جدًا: سفر عاتكة المفاجئ إلى فرنسا وانكسار قلب محمود شاكر بعد رحيلها. ولعلّها نوع من شقاوة الطلبة وربَّما هو الفضول الذي جعلنا ننبش ونسأل وندقق ونحقّق ونقارن بين روايات مختلفة ومتضاربة وكلّها عن عاتكة الخزرجيّ وقصتها مع محمود شاكر! والروايات عند أساتذتنا متعددة فهناك من يدافع وهناك من ينفي، والغريب أن بعضهم كان شاهد عيان على تلك القصة العجيبة! ونحن نستمتعُ بهذا الاختلاف وذلك التضارب، وكأننا نشارك في نسج أحداث رواية مثيرة! ولا أزالُ أذكر تلك الدموع الصادقة التي كانت تنسكب من عيني أستاذنا وهو يقرأ لنا بعض قصائد أبي العلاء المعريّ في الرثاء.. لقد كان يفتقد أخاه بكر عبّاس الذي سبقه إلى الموت، وكأنَّه كذلك كان يرثي نفسه ويشعر بزمن الموت القريب منه.. فبعد سنة من انتهاء الفصل الدراسي وانتهاء تدريسه لنا مقرر «دراسات معمّقة في الأدب العبّاسيّ» تدهورت حالته الصحية وبعدها فارق الحياة.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكن روحه الطيبة جنان الفردوس. كان أستاذنا المرحوم صادقًا صريحًا لا يجاملُ ولا يداهنُ وخاصة في العلم مهما كانت صراحته ستجر عليه ويلات ومصائب.. كان بسيطًا غير متكلف، وسأقولها بصراحة لكلّ من أصابه داء العظمة بسبب اللقب العلميّ «دكتور» فانتفخ وظنَّ أنه من صفوة البشر.. أستاذي إحسان عبّاس وهو البروفيسور اللامع المعروف في الجامعات العربية والغربية وأستاذ الشرف بالجامعة الأردنيّة لم يكن يحمل حقيبة جلدية فاخرة يضع فيها كتبه.. كان يحمل كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا يضع فيه أوراقه ويسير بكل تواضع متأملاً في أروقة كلية الآداب بالجامعة الأردنيّة.. كانت لديه شقتان صغيرتان: شقة لسكنه هو وأسرته والشقة الأخرى كانت مجلسه الثقافي ومكتبته العامرة.. ولقد انتقلت هذه المكتبة بعد وفاته إلى مكتبة جامعة فيلادلفيا بجرش. لم يخلف ثروة مالية.. خلّف ثروة علمية وهبها لأجيال العربية وهذا هو الإرث الخالد.
نشر إحسان عبّاس سيرته الذاتية سنة 1996Ø› أي في أُخريات حياته بعد عقود طويلة قضاها في التدريس الأكاديميّ والبحثيّ الرصين، وبعد أن أنجز كتابًا صغيرًا تحدَّث فيه عن مفهوم السيرة الذاتية وتمثّل فيه بعمق أدبيات هذا النوع السرديّ الصعب والإشكاليّ. إذن السيرة الذاتية لإحسان عبّاس اختزلت المراحل المفصلية من حياته العلمية الزاخرة. وتدرجت هذه السيرة الذاتية المهمة بدءًا من الطفولة وانتهاءً إلى مرحلة الشيخوخة. وفي طفولة السارد هناك نوعان من الرموز «رموز الخوف» و«رموز الطمأنينة» بين خوفه من الموت والأرق الذي أصابه بسبب دقات ساعة مجهولة وبين الفرحة الكبيرة الغامرة التي انتابته عندما حضر مجلس الراوي الذي كان يروي التغريبة الهلالية. أمَّا المدرسة فقد مثَّلت للطفل إحسان مصدرًا كبيرًا للفرح والطمأنينة «أدخلت المدرسة إلى نفسي ابتهاجًا لم يكن لها به عهد، بما وفّرته من تنوع، فإلى جانب حل ألغاز الدروس، وازدياد منسوب الثقافة، عوّضتني عن الألعاب الريفية الخشنة ألعابًا لم أكن أعرفها». وتمثل «الشجرة» رمزًا أساسيًا في غربة الراعي من تأويلاتها الخاصة بالخصب في الطفولة إلى تحوّلها إلى رمز مجسّد للقسوة والجدب والخيانة في شيخوخته. لقد طلب أحد معلمي المدرسة الابتدائية من إحسان وزملائه أن يقوم كل واحد منهم بزراعة شجرة يمنحها اسمه. يقول إحسان عبّاس «وقد كانت هذه العلاقة من أقوى العوامل التي حبّبت إلينا المدرسة. وعندما كنت أعود إلى القرية من بعد كان أول شيء أقوم به هو الذهاب إلى المدرسة للاطمئنان على الشجرة التي غرستها. صحيح أنها أصبحت لشخص آخر، ولكن حنيني إليها لم يكن يقل عن حنيني إلى البيت والأسرة وأصدقاء القرية». وللحديث صلة قادمة…

أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث بكلية الآداب جامعة البحرين
dheyaalkaabi@gmail.com

Related posts

Leave a Comment