حضرت انقلاب مصطفى كمال (أتاتورك)، للدكتور حسين حسني (سكرتير الملك فاروق الخاص)

“لا يوجد ما يستحق التنويه عنه طول مدة إقامتي بأزمير، سوى أنني حضرت فيها مرحلة الانقلاب الكبير الذي أحدثه مصطفى كمال، بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ثم تحريم لبس الطربوش، وتحريم استخدام الحروف العربية في الكتابة واستبدال الحروف اللاتينية بها، وتأميم جميع المصارف والمصانع والهيئات الأجنبية -وكان قد سبق ذلك إلغاء الامتيازات في معاهدة لوزان- وإلزام المؤسسات الأجنبية جميعا باستخدام موظفين من الأتراك ليحلوا محل الأجانب في ظرف ستة شهور يسمح خلالها بأن تكون المراسلات مع الحكومة أو الأفراد وكذلك السجلات بلغة أجنبية على أن تكون مصحوبة بالترجمة التركية وتكون هي وحدها المعتمدة رسميا، وبعد تلك المهلة تكون اللغة التركية هي وحدها المسموح بها، وكذلك تقرر أن يتولى الأتراك إدارة وشغل وظائف كل الهيئات فيما عدا وظائف فنية أو إدارية محددة.
وقد حدث عقب ذلك أن قامت عاصفة كبيرة في أزمير سقطت خلالها صاعقة على مأذنة –هكذا- المسجد المجاور لدار الحكومة في أزمير، فساد الذعر بين الأهالي لاعتبارهم ذلك آية من الله تنذر بسخطه -سبحانه، وتعالى!- على دخول المساجد بالقُبَّعات؛ ومن ثم كان ذلك دليلا على عدم الرضا عن الخروج على التقاليد القديمة! وكان أهم وأنكى من ذلك تحريم الحجاب، وفرض الاختلاط بين الجنسين في المعاهد الدراسية وفي المجتمعات، وتلا ذلك الاندفاع في اتباع واقتباس الأساليب الغربية ونبذ التقاليد الشرقية والتجرد من كل ما يوحي بالاتصال بها، إلى حد سريان الدعوة بتخليص اللغة التركية من الألفاظ والمشتقات العربية والفارسية وهي تشغل الجانب الأكبر من اللغة التركية!
ومن ناحية أخرى شرعت الحكومة في وضع تشريعات جديدة على أساس القانون السويسري بما يشتمل عليه مثلا من مبادئ التوريث بالمساواة بين المرأة والرجل مخالفا لأصول الشريعة الإسلامية، وكذلك حرية المرأة في الزواج من غير أهل دينها! وفضلا عن ذلك أغلقت تكايا الطرق الصوفية، وصودرت دورها والأملاك الموقوفة عليها؛ فأحدث هذا كله آثارا عميقة في نفوس الشعب التركي وكيانه الاقتصادي والاجتماعي.
وكانت الحجة التي اتخذت ذريعة لإلغاء الخلافة والجنوح إلى الابتعاد عن الصبغة الإسلامية، هو أن هذه الخلافة كانت السبب في عداء أوروبا لتركيا وما جره ذلك عليها من الحروب والويلات، في حين أن الوحدة الإسلامية والتشيع لها والدعاء للخليفة فوق منابر المساجد في كل أرجاء العالم الإسلامي، كان ذلك المظهر هو أكبر ما تهابه الدول الأوروبية، فوقف طويلا يحول بينها وبين الإقدام على توزيع تركة “الرج المريض” كما كانوا يسمون تركيا منذ زمن طويل، نسي ذلك قادة ودعاة حركة التحرير من كل ما هو شرقي بل إسلامي، وطغت موجة جارفة من الاندفاع نحو كل ما هو غربي -وإن كان ينطوي على مساوئ عصفت بما كان معروفا عن الأتراك من فرط التمسك بالدين والأخلاق القويمة- وظهرت كثير من المآسي الخلقية بين عديد من الأسرات في كل مكان.
ولذلك فإن المبادئ الدينية الأصيلة والمتغلغلة في النفوس لم تحتمل السكوت على هذه الحال؛ فلم تلبث أن انتفضت، واشتعلت الثورة عليها في أماكن متفرقة باشتراك عدد من ضباط الجيش أنفسهم. ولكن الحكومة سارعت بتوجيه ضربات قاسية نحوها، وأقامت “محاكم ثورية” بمعاقبة الثائرين، وقد عقدت إحداها في أزمير، وكان على رأس المقدمين للمحاكمة قائد كبير كان زميلا لمصطفى كمال في حرب التحرير، بل لعب دورا عظيما في إحراز النصر وهو القائد كاظم قره بكير، وكانت له مكانة كبرى في نفوس الجيش والشعب؛ ولذلك عومل بكل اعتبار احترام، حتى لقد أشيع في أزمير في حينها أنه في خلال المحاكمة كان الضباط الذين يرافقونه لحراسته يطلبون منه أن يتكلم بما يشاء في حرية تامة لأنهم من ورائه لا يترددون في افتدائه بأرواحهم. ولقد برأت المحكمة ساحته ولكنها حكمت بالإعدام على ثمانية من الضباط قدموا إليها، وكان من بينهم اثنان برتبة اللواء، وفي اليوم التالي لصدور الحكم كانت جثثهم معلقة في أسواق المدينة كما جرت العادة، وعلى صدر كل منهم لوحة كبيرة من الورق كتبت عليها التهم التي حوكم من أجلها والحكم الذي صدر عليه!
ولقد لازمتني زمنا طويلا صورة ذلك المنظر البشع المجافي لكل مبادئ الإنسانية، وكان أجدر بالدعاة قبل تغيير ما يوضع فوق الرءوس -هكذا- أن يبدءوا -هكذا- بتغيير ما بداخلها بمزيد من العلم والثقافة والإيمان.
وعلى الرغم من القسوة البالغة التي تم بها إخماد حركات الثورة والاحتجاج، فإنه عندما سنحت الفرصة فيما بعد –أي بعد عهد مصطفى كما- تغلبت الروح الدينية الكامنة في نفوس الشعب التركي القوي الإيمان، وأصبح مباحا تعليم الدين وإقامة شعائره بكل حرية وإنارة المساجد والاحتفال بالأعياد الدينية والسفر لأداء فريضة الحج، على أن هذه النزعة الدينية قوبلت بالسخط من جانب المتطرفين من أنصار التحرر من القديم يعاونهم الملاحدة من أنصار الشيوعية التي وجدت المجال فسيحا لنشر مبادئها الهدامة، وأغلب الظن أن روح العداء بين أنصار القديم وأنصار الحديث تكمن إلى حد كبير وراء أحداث العنف التي ما زالت تركيا تعاني منها إلى اليوم، إلى جانب آثار الأزمة الاقتصادية الخانقة التي حلت بالبلاد منذ عهد طويل”.

سنوات مع الملك فاروق: 64-66.

Related posts

Leave a Comment