دليل قتل القصيدة للمبتدئين، لمصطفى رجوان

ظهرت بعد ستينيات القرن الماضي مجموعةٌ من التخصصات تنتمي إلى اللسانيات، مثل التداولية والحجاج اللغوي ولسانيات النصّ. وقام باحثون عرب بنقل هذه المعرفة الجديدة كون العرب صاروا متبضّعين أوفياء من سوق الغرب. هذا النّقل مهم جدّا للباحث العربي شرحا وترجمة، لكن ما يُمكن أن يعيب بعض هذه النقول هو الاختزال الذي تتعرّض له المعرفة، أو تشويه نقلها، أو سوء تطبيقها على النصوص.

https://www.alquds.co.uk/%D8%AF%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8F-%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%90-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8E%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%AA%D8%AF%D8%A6%D9%8A%D9%86/

لقد سقطنا في مناسبات كثيرة في فخ «موضة المعرفة»، ولن نتحدّث كثيرا عن أزمة المصطلح فهي فوضى عارمة تبلبلت فيها الألسنة. في مجال لسانيات النصّ، مثلا، نجدُ مصطلحات كثيرة مثل الاتساق والانسجام والسبك والحبك والالتحام والتلاؤم والتماسك والتنضيد والتنسيق، وهي في النهاية مصطلحان اثنان cohésion وcohérence. ما أدّى إلى اضطراب المفهوم. وقد تجدُ كلّ هذه المصطلحات تستعمل في دراسة واحدة. وسبب هذه الفوضى، أنّ كلّ باحث أراد أن يصنع مصطلحات تُنسب إليه فيُشار إليه بالبنان.
رأينا كيفَ يضطربُ المصطلح والمفهوم. أما بالنسبة للتطبيق، فهو حفلات قتل للنصوص والخطابات، خاصّة الإبداعية منها ولنأخذ القصيدة نموذجا. من بين هذه التخصّصات الجديدة، اتجاه الحجاج في اللغة. وأملا من بعض الباحثين في وضع رجل السبق في تطبيق هذه العدّة دفع الشّعر الثمن غاليا. إنّ عدّة الحجاج في اللغة، لم تكن يوما مهيّئة في مهدها عند أوزفالد ديكرو، لتحليل النصوص والخطابات، فما بالك بالنصوص الأدبية، والشعرُ أرفعها وأكثرها حساسية، فقد اشتغل أقطاب هذا الاتجاه في فرنسا على خطابات من اليومي لا تكادُ تتعدى في الغالب ثلاث جمل، عاريةٍ من أيّ مظهر أدبي. وهذا الاتجاه في نظرية الحجاج يشتغل على الأمثلة البسيطة ليبين أنّ الحجاج مسجّل في بنية اللغة، وأنّ في اللغة طاقات حجاجية بمجرّد تنظيمها. فيقومُ هؤلاء الباحثون باستخراج الروابط الحجاجية والعوامل لكنّها موجودة في جميع النصوص ولفت الانتباه إلى وجودها تحصيلُ حاصل، وإجراء مجّاني يمكنُ أن يقومُ به تلاميذُ المدارس. أما السّلم الحجاجي فقد تهافت على صعوده عديد كثير حتى انكسرَ. إنّ الحديث عن الرّوابط لا يجدرُ إلا في حالة خلوّها من نصّ واختلال اتساقه. وتجدُ الواحد من هؤلاء يتفاخر بأنّه أوّل من طبّق المنهج كذا على الجنس الأدبي كذا. ومن العجائب أنْ غفل الغربيون عن تطبيق هذه الأدوات على الأدب بينما تفطّن العربيّ الذي يعيش على التبضّع منهم إلى ذلك، لذلك فهذا الاتجاه غير مؤهل لدراسة النصوص الأدبية، فما بالك بخطاب طويل مثل الرواية.
وحدها البلاغةُ قادرةٌ على تحليل النصوص والخطابات حجاجيا، خاصة الأدبية منها. لكنّ عدّة الحجاج البلاغيّ مرشّحة كذلك للتعسف على النصوص الإبداعية، في حالة عدم تطبيقها بالشكل الصحيح. وعلى الباحث أن يضع نصب عينيه سؤال: كيفَ تساعدني هذه العدّة على إبراز المظاهر الجمالية للنص الأدبيّ وفهمه؟
إنّنا نقتل النصوص عندما لا نحسن استعمال هذه المناهج الجديدة والأدوات الحادة، وتتحوّل تماريننا النقدية إلى لعب صبيانيّ في خصوصية هذه النصوص وتشويهٍ لها.

تأخذ هذه الدراسات القصيدة وتستخرج وسائل الاتساق وتحصيها مثل الإحالة والوصل والتكرير وغيرها من الوسائل. يُشبه الأمر إعراب قصيدة أو تقطيعها عروضيا. إنّه تحصيل حاصل وغيرُ ذي جدوى، وينبغي أن يكونَ فقط تمرينا شخصيا للمبتدئين. فالاتساق موجود في كلّ النصوص، مثله مثل النحو في الجملة، إذ هو نحوٌ للنصّ. فما فائدة أن تُحصي لي الإحالة في قصيدة؟

تكرّرت الإحالةُ عشرين مرة؟ جيّد!

يُمكنُ أن نستعملَ نحو النصّ في تحليل ما عند ملاحظة غياب الاتساق، لكنّ الاتساق أمرٌ عاديّ وهو المعيار الذي يجب أن يتوفّر في أيّ نص. هناكَ مشكلةٌ أو مشاكل بطبيعةِ الحال، وهناكَ بدائلُ وجهودٌ في العالم العربيّ تناضلُ من أجل تحقيق الممارسة النقدية الواعية، خاصّة في التخصصات الجديدة مثل البلاغة الجديدة والحجاج والتداولية ولسانيات النص وغيرها.
انطلاقا من رصد مشكلةٍ حقيقية تشوبُ الدراسات والأبحاث الجامعية والمستقلّة، نشرتُ نهاية سنة 2019، كتاب «الشّعرية وانسجام الخطاب: لسانيات النصّ وشعرية جان كوهن»، عن دار كنوز المعرفة الأردنية. وفكرتُه، ببساطة، تقديم إطار نظريّ لتطبيق مفهومي الاتساق والانسجام على الخطاب الشعريّ. قدّم البحث في شقّه الأوّل توضيحا لمفهومي الاتساق والانسجام على الأسس اللسانيات. فيما اختص الشّق الثاني بتقديم رؤية جان كوهن لتطبيقهما على النصّ الشّعري، من خلال كتابه واسع الشّهرة «بنية اللغة الشّعرية»، وهو كشفٌ غيرُ مسبوق عن احتواء هذا الكتاب، لأسس لسانيات النص وتنزيلها على الخطاب الشّعري قبل ترجمة مقال هاريس إلى الفرنسية، وظهور أبحاث لسانيات النص في أوروبّا وأولها كتاب مايكل هاليداي ورقية حسن «الاتساق في الإنكليزية».
تتلخّص فكرة الاتساق عند جان كوهن في رصد مظاهر مخالفة الشعر للاتساق والاستعمال غير العاديّ لوسائله وابتكار أدوات اتساق جديدة. وذلك راجع إلى طبيعة الخطاب الشعري وقيامه على مفهوم الانزياح الملخّص لمشروعه البلاغي. فإذا كانت الخطابات العادية القائمة على المعيار تُحافظُ على تمام مظاهر الاتساق، فإنّ القصيدة تستمدُّ شعريتها من خلوّها من كثير من مظاهره ومعاكسة طرقه التقليدية. لنأخذ مثلا الرابط (لكن) الذي يربطُ بين جملتين متنافرتين في الخطابات المعيارية، مثل: زيد ذكيّ لكنّهُ متخاذل. بينما يستعملُ الشّعر، لكن للوصل بين جملتين متماثلتين دلاليا، مثل: إنّها جميلةٌ لكنّها قمر. ولنأخذ مثالا آخر هو الإحالة المقامية، التي مهمتها، عادة، التحديد فتحيلُ على متكلّم ومخاطب مشاركين في الخطاب وعلى زمان ومكانٍ معيّنين، لكنّها في الشعر لا تحيلُ على شيء ليظلّ الشعر سابحا في المطلق غير مقترنٍ بشيءٍ محدّد.
وطرح الكتابُ كذلك سؤالا مهمّا هو: إذا كانت القصيدة نصّا خاصا فما وسائل الاتساق الخاصة بها؟ فرصد الكتاب بعض وسائل الاتساق الملتصقة بالقصيدة مثل التوازي والتقابل الظاهر.
أمّا مفهوم الانسجام فهو حاضرٌ بقوّة في عمل جان كوهن. لقدْ ربطَ كوهن بين الشّعرية وحضور الدلالة، فالخطاب الشّعري غيرُ المفهوم عنده ليسَ شعرا. يقول: «لا يمكنُ الحديث عن الخطاب إذا لم يكن هناكَ تواصل. ولكي يكونَ الشّعر شعرا ينبغي أن يكونَ مفهوما من طرف ذلك الذي يوجّه إليه»، وبالتالي فالمتلقي هو الذي يحدد انسجام الخطاب من عدمه. وهو الذي يخلع الشّعرية على القصيدة أو ينزعها. ويقول: «إنّ الشّعرنة عمليّة ذات وجهين متعايشين متزامنين: الانزياح ونفيه. تكسير البنية وإعادة التبنين. ولكي تحقق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة أولا، ثم يتم العثور عليها، وذلك كله في وعي القارئ». إن القراءة الفعلية للقصيدة لا تبدأ إلا بعد الانتهاء منها. وشعور القارئ أن الدلالة هاربة منه ثم القبض عليها بجهدٍ جهيد يجعله يشعر بلذة النص الشعري. ولحظة إضفاء المتلقي الانسجام على القصيدة ما هي إلا لحظة انتصار لكل من القارئ والقصيدة. فتكتسب القصيدة شعريتها، لا من المعاني الظاهرة والجاهزة بدونَ عناء، ولكن من تأويل القارئ مجموعة العناصر هنا وهناك والربط بينها بواسطة كفاياته وخبرته.
لقد تجاوزنا تلك المرحلة التي كنّا فيها نفتقدُ إلى المعرفة النقدية الجديدة حتى صار هذا الوقتُ متخما بالمعرفة، وصرنا أحوجَ إلى غربلتها وتنظيمها واستيعابها واستعمالها بوعي، فالأدواتُ النقدية الجديدةُ والمفاهيمُ ليست غاية في ذاتها لكنّها وسائلُ خادمةٌ للقراءة والتحليل، فلا قيمة لها في ذاتها. فمن المفترض أن تخدم القراءة والنصوص لا أن تكونَ أدواتِ قتلٍ غير واعٍ. وقد آنَ الأوانُ لمراجعة أنفسنا وتعاملنا مع الأدب، وحانَ وقت المساءلة والاعتراف بأخطاء الماضي، فالعودةُ إلى الصواب ـ وإن كانت ثقيلة على النّفس ـ خيرٌ من التعنّت والمضيّ في الوهم.

٭ كاتب مغربي

Related posts

Leave a Comment