الشاطر حسن، لسمير رضوان

قرآن الفجر وصوت الأذان، يتآلفان مع صياح الديكة، تلك كانت الأصوات التي تنبه حسن كل يوم ØŒ وتلك كانت عادته التي ورثها عن أبيه …

يصلي الفجر، ثم يعود إلى داره، زوجته أم عبدالله تنتهي من حلب البقرة، يشعل الموقد، ثم يدس إبريق الشاي في النار، يوقظ أولاده..يصلون الصبح قبل شروق الشمس، يشربون الحليب مع كسرات الخبز، يتجهزون لمدارسهم، ثم ييممون وجوههم وعقولهم صوبها
يسحب حسن بقرته ويسير بها على ذلك المسرب الضيق ، يصل إلى حقله .. يربط بقرته.. يلقي إليها حزمة من البرسيم.. يحمل فأسه، ويشرع في العمل، وهو يتذكر وصية والده:(يا بني ،الفلاحة هي العبادة التي نبتهل بها إلى الله، والأرض هي محراب تلك العبادة، ونبش الأرض بأناملنا تسبيح لرب العالمين).
لكن مزاج حسن هذا اليوم ليس كباقي الأيام، إنه مهموم، يفكر بحزن في كلام جيرانه له: “يا حسن ريح بالك من الفلاحة.. دي مش جايبة همها، وبور الأرض عشان تتحول مباني”. يضرب بفأسه الأرض فتبسم ثغرها كأجمل فتاة، وينظر إلى الطين ثم يقول له: أيها الطين، أنت ميراثي الذي ورثته عن أجدادي منذ آلاف السنين، كيف أفرط فيك وأبورك من أجل حفنة من الجنيهات؟؟!! وماذا أعمل وأنا لا أجيد شيئا سوى الفلاحة؟!!
يرفع رأسه ويمسح العرق الذي يتصبب من جبينه ، يتراءى على البعد طيف زوجته، حاملة سبت الخبز وصحنا من القشدة قد دست فيه قطعة من جبن القريش، كانت قد قطعتها للتو من حصير الجبن، تتهللت أسارير وجهه، وكأنما الشمس من عليائها قد أشرقت ببهائها على روحه.
جلست تحت شجرة التوت المزروعة على رأس أرضه.
ترك الفأس وخرج إليها، وكانت قد جمعت بعضا من الحطب، وأشعلت النار، وجهزت عدة الشاي، جلسا يأكلان الطعام، ثم تنهد حسن قائلا لزوجته: فاكرة يا سعدية زمان لما كانت الأرض من دبركي إلى زاوية الناعورة حقول تعج بالمحاصيل والفواكه، ولا ترين بيتا واحدا مبنيا.
فقالت له زوجته:فاكر شجرة السنط العتيقة على المشروع، كانوا يقولون إن تحتها جنية جميلة وشعرها طويل عائم على سطح الماء ، كانت تنادي على الرجال، فمن يسمعها ويذهب إليها تخنقه.
قاطعها حسن مازحا:تقصدين النداهة؟!! لقد اخبرتني أمي بحقيقتها، قالت لي إن هذه أسطورة اختلقتها سيدات القرية حتى لا يلتفت أزواجهن لغيرهن من النساء.
ثم يتغير وجه حسن ويخيم عليه الوجوم قائلا: قد ملأت البيوت الخرسانية الأرض ونبتت منها كأنها رؤوس الشياطين، وكدنا لا نميز بين بيوت دبركي وبيوت زاوية الناعورة!!!
وبينما هما كذلك إذ أقبل عليهما ابنهما الأوسط حاملا حقيبته المدرسية على كتفه، جلس وتناول طعام القشدة الذي يعشقه، سأله والده: ماذا درست اليوم يا بطل؟
قال الفتى: كنا ندرس عن عشق المصري القديم لأرضه، وأنه أول فلاح في الدنيا، وأنه كان يقدس ماء النيل .. تخيل يا أبي أن المصري القديم قبل أن يموت يسجل اعترافاته التي سيقولها أمام الملائكة ومنها (أني لم ألوث ماء النهر.. ولم أبور الأرض، ولم أدنس الطين الطاهر)
لكن العجيب يا أبي أن أجدادنا المصريين منذ آلاف السنين لم يبنوا معابدهم ولا قبورهم في الطين؛ بل كانوا يشيدونها في حافة الوادي أو على الهضاب قبالة أرض الزراعية، انظر الأهرامات، وإلى وادي الملوك، وإلى تل العمارنة كلها في الرمال قبالة الوادي.
قال حسن: الآن عرفت وصية أبي لي:(يا بني ،الفلاحة هي العبادة التي نبتهل بها إلى الله، والأرض هي محراب العبادة، ونبش الأرض بأناملنا تسبيح لرب العالمين) تلك وصية أجدادنا الموحدين منذ آلاف السنين.
___________
سمير حسن رضوان
أبو ظبي _ 17/12/2019
مجموعة قصصية بعنوان (النهر الجاف)

Related posts

Leave a Comment