الانتظار، لمحمود حسن إسماعيل

“وانتظرت المغيب! وهو غريب”

“أهله أورثوه ثكلا.. ومروا..”

“.. وما زال يترقب!

حتى قال له عائد من طريقها:

.. لقد ضلت سبيلها إليك!!”

انتظرني هنا مع الليل.. إني أنا في صدرك المحطَّم سرُّ

هكذا قالت الشقيةُ والليل على صدرها أنين وشِعْرُ

واهتزاز كأنه قُبَلُ العشاق لم يحمها حجاب وسَتْرُ

ولها نظرةٌ كأن بقايا من وداع على الجفون تَمُرُّ

نَعْسة، وانتعاشة.. وهنا الشيءُ الذي قيل عنه للناس: سِحْر! (707)

وابتهال كأنه غُربة الطير لها في سمائم البيد سَيْرُ

ولها رَعْشةٌ كما انتفضت كأس بكفِّي فكلها لي سُكْرُ

ولها حيرة تعلَّمْتُ منها كيف تَهْويمةُ النّبيّين تَعْرو؟

ولها حين أقبلت ثم غابت نَدَمُ الوحي؛ حين يدنو يفرُّ!

انتظرني هنا.. وذابت كحلم صَدَّهُ عن خطاه للروح فجرُ

وأنا جاثم أقلب كفّيّ.. كما قلّب المقادير دهْرُ!

انتظرني هنا.. ومر زمانٌ وأنا في ترقُّبي مُسْتَمِرُّ..

انتظرتُ الصباح، حتى أتاني وبه كالظلام سُهْد وفكْرُ

وانتظرت الضحى، فأقبل يرتاع على ساعديه عُشْبٌ ونَهْرُ

وانتظرت الأصيل، حتى دنا مني وجنباه للصبابات وَكْرُ

وانتظرت المغيب. وهو غريب أهله أورثوه ثُكْلًا ومروا

خلّفوه.. فلا النهار بمأواه ولا الليل.. آهِ ضاع منه المقرُّ!

كل يوم جنائز النور تسعى وهو من خلفها وجوم وصَبْرُ

لاحدٌ يدفن الحياة بكفّين هما ظلمة ترامتْ، وفَجْرُ

تشهق الريح حوله فهْي في الأُفْق بكاء من عالم الغيب مُرُّ

وهْو روح الرماد، قبْضُ حواشيه سكونٌ، ومسُّ جنبيه جَمْر (708)

طال مثلي انتظاره فكلانا في جحيم الهدوء ألقاه أمْرُ..

وَلْوِلي يا رياحُ! أنت خِضَمٌّ ماله أينما توجهتِ بَرُّ!

أنتِ مثلي تلفُّتٌ وانتظار فوق أوتاره الخفيّة نَبْرُ

جمعتْني بك الليالي كما يجمع سحْرَ الهوى وبلواه صَدْرُ

أنت قَيْثارة، وقلبي عزيف وكلانا رماه في القَيْد أَسْرُ

كبَّلَتْك الآفاق، تجرين فيها لا مزار يأويك؛ لا مُسْتَقَرُّ

تشتكين الإسار والجو ساهٍ ساهمٌ عن أساك، والكَوْنُ وَقْرُ

أعولي يا رياح.. قيدُكِ خُلْد وبلاياك ليس منها مَفَرُّ!

وأنا في القيود مثلك حيرانُ أخَيْرٌ سَلاسلي أم شَرُّ؟!

صَلَبَتْني على مَطافك أرزاء – رماني بها غرام وشعر

ومتاهات شاعر ضَلّ.. ما يدري أزهد حياته أم كُفْر؟!

حيّروه فملء جنبيه لو يدرون شيء عذابه مستمرُّ..

جاء يُفْضي به، ولو كنت تصغين لأدماك منه شوك وصَخْرُ

طوّقَتْ عُمْرَه غيوم هي الفنُّ الذي قيل عنه: خُلْد، وسِحْرُ

لم يجد صاحبًا على الدرب، فانساب وأيامه ضلال وخُسْرُ

وحده في الطريق.. لا نورَ إلا من بقايا ما كان أَهْرَقَ فَجْرُ (709)

وحده والرفيق ناي، ولو ساق خطا راهبِ فأنتِ الدَّيْرُ

ها هنا خَيَّمتْ جراحي ووسْوسْتُ رياحي.. كأنْ حُداءٌ وقَفْرُ

ومددتُ الجناح أرتقبُ النورَ وأشتاقه لعلِّي أفرُّ

ولعلي.. ومرَّ حولي زمانٌ والدجي والرياح نَوْحٌ وقَبْرُ!

وأنا والظلام منتظر مثلي عبدٌ يُسَلِّيه في الغياهب حُرُّ

قِمَّةٌ من وساوسٍ وارتعاشٍ أنا فيها رغم المقادير نَسْرُ

انتظرني هنا.. وطال انتظاري وهْي في أعيني التفات وذُعْرُ

وسؤال لكل شيء حواليَّ وإيماءة لكل طيف يمُرُّ

وانتباه، وغَفْلة، وربيع وخريف، وشيب زهرٍ، وعِطْرُ

وجناح يهفو، وآخر يهتاج ومِنْ بين ما يرِفّان طَيْرُ

وأنا سَبْسَبٌ توهّج منه لخطاها أيك رطيب، وزَهْرُ

وهْي لا أقبلت.. ولا عاد منها لشقائي بعودة الكأس خَمْرُ!!” (1: 707-710).

قد رُسمت إملاء وضبطا على ما نُشرت في كتابه “أين المفر”ØŒ طبعة دار سعاد الصباح، الأولى سنة 1993ØŒ الصفاة بالكويت، والقاهرة بمصر. وهو ضمن المجلد الأول من “الأعمال الكاملة”ØŒ التي جمعتها وطبعتها له الدار، وقد بينت الدار أن طبعته الأولى، كانت بالقاهرة سنة 1947.

Related posts

Leave a Comment