سيرة العلامات والنجوم الحوار

نشأ محاطا بالعديد من الخبرات العميقة والأصوات الحكيمة والجميلة، ولم يكن ذلك كله مجرد ضوضاء أو ضجة عابرة لا معنى لها، بل أشعلت له كل خبرة حوله قنديلا من قناديل المعرفة والعلم ليستنير به، وقدم له كل صوت كثيرا من الحكمة والجمال والسعادة، ضَلَّ كُلُّ من ليس لديه حكيم أو خبير يرشده أو يساعده على حسن الاختيار. يشعرك حديثه بأن الشباب مطالب بتطوير قدراته من النواحي العلمية والأخلاقية وغيرها من خلال المبادرة إلى خمسة أشياء مهمة في حياة كل إنسان. وبين شذرات من علامات الماضي ونجوم الحاضر نقلب في إضبارة كبيرة أمامنا مليئة بالأسماء والأوراق، صفحاتها مراحل حياة على دروب السنين يمهد فيها القبل للبعد.

رباط سحري
جلس الدكتور محمد جمال صقر الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الاجتماعية أمام عدسة المسار واثقا مبتسما، وأمسك بالقلم فأخبرنا ببوح الحبر أو بوح الروح: نحن خمسة إخوة لأبوين ذوي خصوصية واضحة، فالأب عالم مهيب من علماء الأزهر شاعر خطيب منشد حسن الصوت رسام خطاط مزخرف، رحمه الله! أما الأم فربة بيت قوية الشخصية مثقفة على رغم اكتفائها بالتعليم الابتدائي، يربطنا بها رباط سحري، ومن عجائب المفاجآت أنني وجدت في رجال أسرتها المتقدمين خمسة من خريجي كليتي في أوليتها البعيدة، وخبراء غيرهم متخصصين بمجالات مختلفة خدموا مصر وأشرفوا على بعض مشروعاتها الوطنية. كان أبي وكذلك أخوه وأبناء جيله عصاميا مجتهدا موظفا ومتعلما ورب أسرة في وقت واحد، تقاسمنا نحن أبناءهما مواهبهما، وربما أكون أقلهم منها نصيبا، وساعدتنا ممارساتهما على ترسيخ ميول خاصة؛ فالوالد بحمله للقرآن وعلمه ونداوة صوته كان يتلو علينا في مجالسنا من الآيات والأشعار، وكذلك كانت الوالدة تؤازره بممارسات قريبة؛ فعشنا بهما في جو أدبي منغَّم. ورحم الله جدتي خالة والدتي، التي كانت كذلك تحفظ السير الشعبية القديمة الرائعة، فلما عرفنا ذلك عرضا من إحدى قريباتنا تمسكنا بها وصرنا نلح عليها كلما رأيناها أن تحكي لنا من هذه السير، لنعيش في جو من سحرها الأدبي الأخّاذ.

نقلة إجبارية
ينسكب الحبر على الورق كشلال صغير ويصاحبه صوت رياح القدر فنستمع إليه بتمعن: حدثت لي مفاجأة عندما أخذني الوالد معه إلى شمال السعودية وكنت أدرس بالقسم العلمي من المرحلة الثانوية؛ إذ نُقلت قهرا إلى القسم الأدبي بحجة زيادة درجاتي في المواد الأدبية! لقد كنت وما زلت مولعا بالحيوانات المستأنسة الأليفة أستلطفها وأجمعها، فخططت لنفسي أن أعمل في المستقبل مهندسا زراعيًّا أو طبيبًا بيطريًّا، حتى لما طلب منا قبل التخصص بهذه المرحلة الثانوية كتابة موضوع تعبير في تخطيطنا للمستقبل كتبت أنني أحب الأدب وسأحرص عليه هواية وأتخصص للزراعة أو البيطرة، لولا هذه النقلة الإجبارية التي عكست الواقع والتخطيط، فصار إلى الهامش ما كان مخططًا أن يكون في المتن، والعكس بالعكس.

دار العلوم
هذه المرة يخبرنا الحبر بأنه وسط صخب الآراء هناك رأي ما ينير دروبنا علينا أن نستمع جيدا إليه: كتبت الشعر في المرحلة الثانوية علامة على ميل أدبي واضح، فلما حصلت على الثانوية بمرتبة الامتياز الثانية على مستوى المملكة، وانفتحت لي أبواب الكليات كلها، كثرت الاقتراحات من حولي وإن استحسن منها الوالد أن أنضم إلى أختي التي كانت تدرس الاقتصاد والعلوم السياسة. ولقد كدت ألتحق بهذه الكلية على قلقٍ، لولا صديقة أختي من أهل الشيخ عبد الباسط عبدالصمد -رحمه الله!- التي كانت طالبة بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة؛ فقد أشارت بأن كليتها أفضل ما يناسبني؛ فكأنما تكلمت عن قرارة نفسي المستترة تحت صخب الاقتراحات. ثم كانت لي في السنة الثالثة من الكلية نقلة أخرى حين زهدت في المنافسة على الأَوائليَّة وهبط تقديري عن ارتفاعه فكان هبوطه من أعظم التوفيق لأنه خفف عني من ضراوة المنافسة وأطلقني من قيود العيون وأتاح لي الهدوء المناسب لتجميع النفس إلى انطلاقة قوية أدت في النهاية إلى عملي معيدًا بالكلية نفسها.

دروب التلمذة
يواصل الحبر طريقة على دروب التلمذة فنقرأ: بجوار طريق الدراسات العليا المعهود الذي لا يخفى على أحد من تمهيدية الماجستير إلى الماجستير فالدكتوراه فالأستاذية المساعدة (المشاركة) فالأستاذية انفتح لي طريق آخر أقوى وأعظم وأكثر إدهاشا هو طريق التلمذة لتسع سنوات على محمود محمد شاكر -رحمه الله!- الكاتب الأديب الفذ؛ فقد كان لمجالسته وحدها عمل من أعمال الثبات والثقة والطموح والاجتهاد والإنجاز، عالم فنان جليل من طراز عباس محمود العقاد وأقرانه من الرواد الذين اجتهدوا فذللوا المصاعب وارتادوا المجاهل ومهدوا المناهج. كنت وما زلت أتمثل مثال أستاذنا فأتجاوز عقبات كثيرة اعترضت وتعترض طريقي من غير يأس ولا ضعف ولا إعراض. ولهذا الحبر الجليل في عُمان تقدير عظيم، حتى لأحسب أن مقدارًا كبيرًا من تقدير العمانيين كان ببركة هذه التلمذة.

خبرات وتجارب
يأخذنا الحبر إلى محطة أخرى فيها ترحال إلى مكان آخر: بعد وفاة أستاذنا محمود محمد شاكر سنة 1997م حضرت إلى السلطنة وكأن لم يعد لي بمصر مقام بعده، وحظيت بست سنوات من العمل الدؤوب، أثرت في تكويني وترتيب أولوياتي واستحداث أنشطتي واكتساب خبراتي وتجاربي، وزادت من فهمي للحياة والناس، ووثقت علاقتي بالعمانيين داخل الجامعة وخارجها، حتى زرت عمان مرتين أخريين، ليستقر بي المقام فيها مرة أخرى السنة الماضية. ولي اشتغال بالأدب العماني ومشاركات ومتابعات، يكفي فيها أنني أنشر هذه الأيام بمشية الله كتابين من أعمالي العمانية، دلالة على جدوى سياق العمل في الجامعة وراحة الإقامة في عمان. ولي عمل أخير كبير بدأ واكتمل هنا السنة الماضية هو وضع نظرية جديدة في علم لغة الشعر سميتها نظرية النصية العروضية، حاضرت فيها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية وكان لها أثر طيب، ونشرت فيها سلسلة من المقالات جمعتها في كتاب وتقدمت به عن طريق عميد الكلية إلى دائرة شؤون الابتكار في الجامعة لتسجيل براءة اختراع، فدار الطلب دورته ثم رجع وعليه تنبيه صريح بأن مثل هذه الاختراعات الأدبية يكفي فيها تأليف الكتب ونشرها!

خمسة في خمسة
رحلة الحبر تخبرنا عن أكبادنا التي تمشي على الأرض ونسمع وقع خطواتها الناجحة: أهم أعمالنا أولادنا، ولله عندي خمسة أولاد: ابنان بَراء وفُرات، وثلاث بنات رِيم ورِهام وسُرى، والأخيرتان من أولاد عمان في مدة عملي الأولى، واسم “سلطنة عمان” مشرق في شهادتي ميلادهما، وحنينهما إليها لا يزول ولا يهدأ. وأولادي كلهم طلاب علم مجتهدون ولله الحمد والشكر، بإنجازاتهم المطلقة التي أفرح بها ولا أحددها لهم.
لا يجف الحبر ولن يجف ما دامت في حياتنا خمسة أشياء: دائمًا نتواصل بدعوات محددة في المقامات الشريفة، نظمتُها ليسهل حفظها وتذكرها في ثلاثة الأبيات الآتية:
إِذا شئت أن تدعو لي الله فابتدرْ إلى خمسة مقصودة بالمراتبِ
يقينٌ فإخلاصٌ فإتقانُ صنعةٍ ثَباتٌ رِضًا أَكْمِلْ بها من مَناقبِ
تطير مَراسيل النعيم بحقها إلى حيث تُستوفَى كِرامُ المطالبِ

Related posts

Leave a Comment