ما لا يفيد في الاكتئاب، لهمام يحيى

لماذا لا يُساعدُ ذكرُ مصائبِ الآخرينَ الأشدّ قسوة، وتذكيرُ المرء أنّه أفضلُ حالاً من كثيرين غيرِه، وأنّ كثيرينَ مرّوا بظروفٍ أصعبَ وتجاوزوها، في التّخفيف من الاكتئاب؟

هذه إحدى اكثر الأخطاء التي يقعُ فيها النّاس عن حسن نيّة خلالَ محاولتِهم التخفيفَ عن المكتئب، وتأتي غالباً بنتيجة عكسيّة .. لماذا؟

هل تعلمون ما هو أوّلُ ما يُريدُ أن يطمئنّ إليه المُصابُ باكتئابٍ شديد حين يذهبُ لطبيبٍ نفسيّ؟ .. يُريدُ ببساطة أن يتأكّدَ من أنّه ما زال إنساناً طبيعيّا .. أنّه ليس في طريقِه للجنون أو فقدانِ عقلِه ..
هذا الشّخص يمرُّ بحالةٍ غريبةٍ جدّا عليه وغير مفهومة .. الاكتئاب لا يُصيبُ جانباً محدودا من إدراك الإنسان وعقله، بل يُصيبُ كلَّ شيء .. تخيّلَ أنّ قواكَ الجسمية متراجعة، ورغبتَك في فعل أيّ شيء منعدمة، وتركيزك يقتربُ من الصّفر، وقدراتك الذهنيّة متراجِعة، وليس هناك ما يمنحكَ السّعادة، ونومك قليل ومتقطِّع .. لنكتفِ بهذا مع أنّ هناك الكثيرَ غيرَه .. كيف ستكونُ حياتُك؟
من مشكلات تصورِنا Ù„”الاكتئاب” أنّ الكلمة ترجمة سيّئة Ù„ Depression .. الترجمة الأدقّ هي “انحطاط” ..

يأتي الشّخص للطبيب النّفسي وهو يُعاني مما سمّاه أحد المحلّلين النّفسيّين “Alienation” .. أي “الاغتراب” .. ويريدُ أن يتأكّدَ أنّ ما يمرُّ به شيءٌ يقعُ ضمنَ نطاقِ تجربة البشر الممكنة، وأنّه لم يتحوّل إلى مجنون ..

ماذا يفعلُ بعضُنا بحسن نيّة؟ يقولُ له: “انظرْ إلى من قُتِلوا وهُجّروا من بيوتِهم في سوريا، وإلى من يموتون حرقا في ميانمار، وإلى المعتقلين الذين يموتون تحتَ التعذيب في سجون السيسي .. على الأقلّ أنت حيّ وعندك بيت وأهل ووظيفة .. هوّن عليك!” ..

ماذا يعني هذا؟
أنت تقول له: “أنتَ مجنون فعلا .. لا أرى أيّ منطقِ في أنّك مكتئب .. لا يقتصرُ الأمرُ على أنّ كونك مكتئباً غيرُ منطقيّ، على اعتبار أنّ من يُشبِهونَك في ظروفِهم ليسوا مكتئبين، بل يتعدّى ذلك إلى أنّ هناك من يعيشون حياةً أسوأ بكثير وهم مع ذلك ليسوا مكتئبين .. أنتَ مختلّ بالفعل، وما تشكو منه يصعبُ عليّ فهمُه!” ..

الاستجابةُ الصحيحة مختلفة .. وما يجعلُها صحيحة ليس أنّها تعودُ بالفائدة -أي صحيحة براغماتيّا- بل هي صحيحة بالفعل، أي حقيقة ..

هذه الاستجابة تعتمدُ بشكلٍ أساسيّ على إعطاء مشروعيّة للألم، أو ما يُسمَّى Validation.. أنتَ تُعاني وهذا كلُّ ما يهمُّني .. إذا كان هذا يؤلمكُ فهو يؤلمُني .. هذه تجربتُك الذّاتيّة، وشعوركَ بها هو ما يمنحُها المشروعيّة .. كثيرونَ كانوا سيشعرونَ بألمٍ أكبرَ لو كانوا مكانك، وربّما ما كانوا ليمتلكوا شجاعةَ أن يُفصحوا عن آلامِهم .. أنتَ تواجهُ قلقَكَ وخوفكَ، لا من ألمك فقط، بل تواجهُ قلقَكَ وخوفكَ من ألا أفهمَك، ومن ألا أشعر بشعورك .. تجربتُكَ التي تجعلُكَ تشعرُ باغترابٍ عنّا جزءٌ من تجربتِنا كبَشَر، ويمرُّ بها كثيرون، أكثرَ ممّا تتصوّر .. أنتَ ما تزالُ إنسانا .. ألمُكَ الآن أكبرُ من احتمالك، لكنَّهُ ليس أكبر من قدرتي على فهمِه ..

يُذكِّرُنا أستاذي الدكتور جان فوسيت أنّ كثيرا من مرضانا يأتونَ إلينا وهم يشعرونَ بالعار .. امرأة تعرّضت للاعتداء الجنسيّ وتغيّرت حياتُها بعدَه، ولم تنجح في زواجِها، ورضيت بمهنةٍ متواضِعة، تأتي لتجلسَ أمامكَ أنتَ الطبيب أنيقُ الثّياب وصاحبُ المهنة المرموقة لتخبرَك عن كلّ شيءٍ سيّءٍ في حياتِها وعن كلِّ ما يُثيرُ الحزنَ والشّفقة بل ربّما النّفور بالنسبة لها .. لماذا ستثقُ بك أنت وتخبركَ أنت وتتوقّعُ أن تفهمَها أنت؟ هذا هو اختباركَ الأصعب ..

هذا هو ما يجعلكُ صديقا عظيما .. أغلى ما على الإنسانِ ألمُه .. إذا استأمنكَ صديقٌ على مال أو أسرار أو نصيحةٍ مخلِصة، وفرّطَتَ في الأمانة، فهذا أهونُ من أن يستأمنكَ على آلامه ومخاوفه وقلقِه فتفشلَ في تقديرِها أو تستهينَ بها ..

Related posts

Leave a Comment