«كورونا الشعر» في يومه العالمي، لحسن بولهويشات

صادف اليوم العالمي للشّعر، 21 مارس/آذار، هذه السنة مأساة عالمية بسبب فيروس كورونا الذي مازال يحصد الأرواح بالتقسيط وبالجملة، ويثير رعبًا حقيقيا تعطلت معه دواليب الاقتصاد العالمي، وفترت أنشطة السكان على نحوٍ غير مسبوق، فيما تمّ إلغاء جميع المهرجانات الثقافية والفنية إلى إشعار آخر. وفي هذا الصدد أعلن بيت الشعر في المغرب أنّه مضطر إلى تأجيل البرنامج الثقافي والشعري، الذي سبق أن أعدّه بهذه المناسبة، مؤكدًا التزامه بتنفيذ البرنامج المذكور في وقت لاحق، وسبق لبيت الشعر أن أعلن في بلاغ نشره على صفحته بالفيسبوك مطلع هذا الشهر عن استعداده للتعاون مع كافة المؤسسات الثقافية والجامعية والتعليمية، مُرحبًا بكافة المبادرات والبرامج التي تنتصر للشعر في يومه العالمي، لكن يبدو أنّ رياح كورونا تجري بما لا تشتهيه نوايا الأفراد والمؤسسات.

https://www.alquds.co.uk/%d9%83%d9%88%d8%b1%d9%88%d9%86%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%b1-%d9%81%d9%8a-%d9%8a%d9%88%d9%85%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a/comment-page-1/?unapproved=1300746&moderation-hash=d990a2fb55c1cd5e805b130d6dd7b29f#comment-1300746


وحري بالشّعر، في ظل هذه الظروف الصعبة، أن يحمل شعارَ « كورونا الشعر» في يومه العالمي لهذه السنة، ليس تطبيعًا مع الموت الذي يشيعه هذا الفيروس في بقاع العالم، ولا غلوّا في التشاؤم، وإنما للتأكيد على موت الشعر الذي كنا شاهدين عليه منذ أواخر سنوات القرن الماضي، التي تخطاها بصعوبة، وأطلَّ علينا من شرفة الألفية الثالثة يتنفس بصعوبة، حدّ أن عينيه تغيبان بين فترة وأخرى. وحسنا تعامل معه مديرو دور النشر والمؤسسات الثقافية، وأيضا النقاد والقراء، عندما لبسوا جميعا القفازات البيضاء ووضعوا الكمامات على أنوفهم وأفواههم. وربما قاوموا ضحكة في دواخلهم، فتراجعوا خطوات إلى الوراء، تاركين إياه يواجه مصيره وحيدًا في غرفة الحجر الصحي بلا أملٍ كبير في الشفاء، قبل أن يسقط وسط لمعان أزرار العولمة والتكنولوجيا، ووسط صعود أشكال تعبيرية جديدة أصبحت تُلقن في مدارس خاصة، وفي ورشات يسيّرها أخصائيون وخبراء في قاعات خاصة هي الأخرى. وعلى النقيض تماما من الشّعر الذي نبت عموميا في الفيافي والقفار، على الأقل بالنسبة للحالة العربية.
لكن هل انقرض الشّعراء بالمرّة؟ أبدًا، فدائما هناك أبناء وأحفاد يظهرون من مكان بعيد حاملين باقات الورد والحزن لوضعها على قبور الآباء والأجداد. دعونا نَحيد عن الجدية ولو لمرّة واحدة، ونقول إنّ الشّعراء أكثر عرضة لفيروس كورونا من غيرهم من المواطنين وذلك بسبب (أو بفضل؟) عفويتهم التي تسبقهم، ومشاعرهم الفيّاضة التي يدلقونها أمام الغريب قبل القريب، بل أكثر عندما يلتقون في مناسبة ثقافية ويتبادلون القبل على الخدود، التفعيليون أربع قبلٍ سريعة مثل إيقاع داخلي بينما يكتفي شعراء قصيدة النثر بقبلتين في تأشير واضح على الحداثة التي تشّع في قصائدهم. ويحدث أن تجد من الشعراء من يعانقك بحرارة فتطلع من أنفاسه رائحة الصحراء ونقع المعارك المتصاعد من سنابك الخيل في قصائد عمودية. وربما ربتَ على كتفك كأيّ أبٍ حقيقي، فتنسى أنت الصحراء والخيل وأباك، وتنخرط في عناقٍ غامض مع شاعرٍ عيبه الوحيد أنّه حميمي بالفطرة.
وبالعودة إلى فيروس كورونا وإلى توصيات منظمة الصحة العالمية، وتعليمات وزارات الداخلية لكل بلد بهذا الخصوص، نثير انتباه هذه الجهات الوصيّة إلى أنّ الشعراء أكثرُ النّاس استعدادًا لخرق تعليماتهم، وأوامر جميع الوزارات بلا استثناء. ببساطة لأنهم متمردون بالفطرة، وغير منقادين إلا لسلطان الخيال، ومشيئة الله. أليسوا هم من خرقوا أوزان الخليل الفراهيدي على مرحلتين قبل أن يخرجوا إلينا هكذا بملامح منثورة (نسبة إلى قصيدة النثر) وبلا وليّ ولا وصيّ ماعدا سلطان الخيال؟ أليسوا هم من خذلوا الأوطان في مراحل تاريخية حاسمة ولاذوا ببيوتهم واضعين كمّامات المخزن على أفواههم، كتلك التي نراها هذه الأيام في نشرات الأخبار، بدعوى الفن للفن؟ أليسوا هم من تورّطوا في إحراق الشّجرة وإتلاف الغابة، حتّى صرنا نقرأ دواوينَ الشعر، كما لو أننا ندلي بشهادة زور أو كما لو أننا نحفر نفقا بأظافرنا الطرية؟

وبخصوص الالتزام بالعادات الصحيّة، وشروط النظافة التي ينادي بها الجميع هذه الأيام، فهذه آخر اهتمامات الشّعراء، إذ لا أحد يعرف متى تنام هذه الكائنات الليلية ومتى يطلع عليها النهار. يتحركون أكثر من دوريات الشرطة لكنهم مثل القافية ينتهون متعبين بسكونٍ. ونادرًا ما رأيت شاعرًا يأكل الطعام بشهية أو يقشر الفاكهة لطفل. دائمًا مستعجلون كالشياطين ومبعثرون كأغراض العزّاب، وأقل اكتراثًا بصحتهم بسبب انشغالهم المستمر بمصير الكون، وانتظار طلوع القمر من ذرى القمم. ولا عجب بعد ذلك أن نتقاسم جميعا مسؤولية هذا القصيدة السريعة والمستنسخة، بل المنهوكة بجميع الأوبئة والفيروسات. من سوء التغذية إلى السّل إلى فقر الدم إلى الكوليرا إلى الإيدز وأخيرا كورونا. ولا عجب مرّة أخرى من موت الحياة العاطفية، وإفلاس بنك الوجدان والمشاعر الصادقة أو الكاذبة على الأصح. أليس أعذبُ الشعر أكذبه؟ ألسنا نحن شعوبَ هذه البلدان الاستثنائية أكثر شعوب العالم تعايشا مع الكذب؟ كَذبَ علينا آباؤنا وقالوا لنا إنّ الوحش ينتظرنا خلف الباب، فصدّقنا الآباء وشتمنا الوحش. وكذّب علينا المعلمون في المدارس وقالوا لنا إنّ الحياة جميلة بعد البكالوريا، فرفعنا وتيرة الجدّ وقاومنا حلاوة نوم الصباح، وجلسنا على كراسي الدرس منتبهين بلا فطور ولا ثياب دافئة. وحتّى عندما كبرنا وجدنا أنفسنا أمام جحافل الوزراء، يتناوبون علينا بالكذب في التلفزيون الرسمي. وهل نتضايق بعد هذا الريبرتوار المهم إذا طلع علينا شاعر كذّاب وأتحفنا مشكورًا بقصيدة مسروقة؟
ويُحسب للشعراء أنهم شجعانٌ. لا يهابون الموت بل يتعرّضون له بصدورهم العامرة بالنيكوتين، مهما كانت الظروف. فمن يستطيع مثلا أن يجد حدودًا فاصلة بين الفخر والاعتداد بالنفس، والمدح في قصائد المتنبي، وهو الذي عاش شجاعًا في شعره، حتى إذا ظهر له الموت شاخصًا في الصحراء سقط على وجهه صريعًا وتركنا خلفه نشقى في شرح وتحليل شجاعةٍ مزيّفة لتلاميذ المدارس؟ ومن يستطيع الآن أن يوقف أدونيس عند حدّه، وهو يتكلم أمام الميكروفون، دائما لدى الرجل هذا الاستعداد الكبير كي يستعيد رذاذ لعابه المتطاير في السماء، ويستطيل في الكلام عن الشعر والفكر إلى حدّ الإقناع وربما التمويه. ولا يهم بعد ذلك أن تكون جائزة نوبل من نصيبه أو من نصيب غيره.
وعلى الرغم من ذلك، لا أحد يشك في إصرار الشعراء على التشبث بالحياة داخل القصيدة وخارجها، وعلى مدار الزمن وتغيّر الظروف والأحوال. شخصيا، لا أملك بمناسبة اليوم العالمي للشعر إلا أن أدعو لشعراء وشاعرات العالم بالعمر الطويل، وبأن يتغلبوا جميعًا على الفيروس الفتّاك كي يطلعوا علينا بقصائد عظيمة يخبرون فيها الأجيال القادمة، كيف ارتعبنا ولزمنا بيوتنا مكتفين بإطلالة خاطفة على القيامة التي تسير ميّاسة في الشوارع. وكيف وضعنا الكمامات على أنوفنا وأفواهنا، وانتسبنا قسرًا إلى سلالة الحمار المحترمة. الحمار الذي طالما استعملناه شتيمة في معاركنا الخاسرة.
شاعر مغربي

Related posts

Leave a Comment