أكتب لكم اليوم عن شاعر لا يتمتع بشهرة واسعة. ويكاد Øتى يكون مجهولا، رغم أنه اليوم ÙÙ‰ الثمانين من عمره، وأنه مع عدم معرÙتنا إياه شاعر Øقيقى. وهى صÙØ© Ø£Ùضلها على غيرها ÙÙ‰ هذه الأيام التى انتشرت Ùيها الصÙات المجانية.
والصÙØ© المجانية هى التى تخلع على موصو٠لا رصيد له ÙÙ‰ الÙÙ† الذى ينتمى له، أو أن رصيده Ùيه Ù…Øدود متواضع، لكن المؤس٠أننا خاصة ÙÙ‰ هذه الأيام لا نعر٠الشاعر أو الكاتب بما يقول، وإنما نعرÙÙ‡ بما يقال عنه. والطريق إذن إلى الشهرة سهل ميسور. ما على طالبها إلا أن يعر٠الذين ÙŠØررون الأخبار ÙÙ‰ الصØ٠اليومية، وأن ينال رضاهم بطريقة أو بأخرى Ù„ÙŠØµØ¨Ø Ø´Ø§Ø¹Ø±Ø§ معروÙا، ليس هذا ÙØسب، بل يتجاوز هذه الدرجة المتواضعة ويسمى شاعرا كبيرا.
ولاشك أن لدينا شعراء كبارا، بمعنى أنهم شعراء Øقيقيون لهم مكانهم ولهم دورهم. لكن هؤلاء لم يصبØوا شعراء Øقيقيين إلا لأنهم ÙŠÙضلون الشعر على الشهرة ويكتÙون به Ùلا يطلبون اعتراÙا من Ø£Øد ولا يشعرون بالØاجة إلى هذا الاعتراÙØŒ لأن استغراق الشاعر الØقيقى ÙÙ‰ Ù„Øظات ابداعه وهى Ù„Øظات متواصلة يملأ كيانه ويصرÙÙ‡ عن طلب أى شيء خارجه. لقد تØقق له ما أراد وخرجت واكتملت. Ùإذا قرأها الناس وتذوقوها وأØالوها مكانها الذى تستØقه Ùبها ونعمت وإلا Ùالقصيدة التى ينظمها الشاعر الØقيقى ويرضى عنها هى خبزة ÙƒÙاÙÙ‡ وهى جائزته الكبرى.
لا أقول إن الشاعر الØقيقى يكره الشهرة أو يرÙضها. ولاشك ÙÙ‰ أنه يسعد بها ويغتبط، لكنه لا يسعى إليها من البداية، ولا يلهث وراءها. وإنما يؤخرها لما بعد كتابة القصيدة ويجعلها جوابا منطقيا على ما قدمه ÙÙ‰ الØوار الذى لابد أن ينشأ ÙÙ‰ البيئات الØية بين الشاعر والقارئ.
إن الشعر وإن كان ابداعا صادرا عن طر٠معين هو الشاعر ليس ملك الشاعر ÙˆØده، لأنه لغة مشتركة نصيب القارئ Ùيها ليس أقل من نصيب الشاعر الذى لا ينظم قصيدته من Ùراغ ولا يعتمد Ùيها على موهبته ÙˆØدها، وإنما يصدر قبل كل شيء عن تراث قومى مملوك للجميع الذين يتعاملون معه كل بطريقته. Ùالشاعر يستلهمه ويعيد انتاجه ويضي٠إليه. والقارئ يتربى عليه ويعود إليه ويستدعيه Øين يقرأ ما ينظمه الشعراء ويعبر عن انطباعه إزاءه وعن رأيه Ùيه بطريق مباشر إذا استطاع، أو عن طريق الناقد الذى يمكن أن نعتبره المتØدث بلسان القراء ÙˆØلقة الوصل بينهم وبينه. وعلى هذا النØÙˆ يدور الØوار إذا كانت البيئة نظيÙØ©ØŒ والثقاÙØ© Øية، والمقاييس واضØØ© مقنعة.
ولست أظن أن هذه الشروط متواÙرة لدينا ÙÙ‰ هذه الأيام. Ùالنخبة التى لا يمكن أن تستغنى عنها جماعة ÙÙ‰ نشاطها القومى لأنها هى التى تبلور المطالب وتضع المقاييس وتدير الØوار بين الأطرا٠المختلÙØ© هذه النخبة الرائدة لم يعد لها وجود مؤثر عندنا ÙÙ‰ هذه الأيام التى انÙرط Ùيها العقد ÙˆØ£ØµØ¨Ø ÙƒÙ„ طر٠يعمل بمÙرده ويتكلم لغته أو رطانته ويÙعل ما بدا له ÙÙ‰ ساØته ويÙرض وجوده على الآخرين بقدر ما ÙŠØªØ§Ø Ù„Ù‡ من قدرات مادية وإمكانات. وهكذا يصØÙˆ الناس Ùيجدون Ùلانا شاعرا كبيرا لأن اسمه يتردد، وأن علانا Ùنان عالمى لأن الطائرة Øطت به ÙÙ‰ عاصمة دولة أجنبية، وأن هؤلاء وهؤلاء أساتذة ودكاترة تسبق الدالات أسماءهم دون أن نعر٠أى شيء عما قدموا ليØصلوا على كل هذه الدالات؟!
وقد آن لنا أن نخرج من هذه الÙوضى الهزلية وأن نعود إلى الØÙ‚ ويØكم على الشاعر أو الكاتب أو المغنى بما يقوله ويقدمه، لا بما يقال عنه أو يقوله عن Ù†Ùسه، وإلا Ùهذه الصÙات التى تخلع على هذا وذاك كذب وإرهاب يقصد به الإجبار على التسليم ومنع النقد وإÙØ³Ø§Ø Ø§Ù„Ø·Ø±ÙŠÙ‚ للتهليل والتكبير والتزمير.
وهل يمكن أن يكون الشاعر صغيرا Øتى يمكن أن يكون كبيرا؟ لا، Ùالشاعر الصغير هو الدعى الرديء المزيÙ. وهذا لا يجب أن ينظر إليه أو ÙŠØسب Øسابه، ولا يجب بالتالى أن يكون المقابل هو الشاعر الكبير، وإنما المقابل هو الشاعر الØقيقى. وأنا Ø£Øدثكم اليوم عن شاعر Øقيقى هو الØسانى Øسن عبد الله. وخير ما أبدأ به ÙÙ‰ Øديثى عنه شعره. ولتكن البداية هذه القصيدة:
كن صديقى يا شعر!
انى تناءيت غريب الأسى. وقلَّ صديقي!
لبÙÙ‘ شوقا إذا ارتوى عاد يصبو
Ùأنا واØدٌ، وأل٠مشوقÙ
لم أزل عاشقا سماءك Øتي
دربت أجنØÙ‰ على التØليق
Ùتساميت لم يبال تسامى Øشودا
تطامنت للنعيق
والتقينا التقاء Øر بØر
كرها العيش ÙÙ‰ ديار الرقيق
يا رÙيقي! إن الصغار استبدوا
Ùأعنى على البلاء المØيق
لبّÙنى، إن ÙÙ‰ ضميرى رياØا
طلبت صهوة الÙضاء الطليق
أنظر الساØØ© العظيمة تخلو
من بينها العظام، لا يا رÙيقي
بدأت رØلتى إلى مطلع النور
Ùصبرا على صعاب الطريق
السنا المستÙيق يعلو رويدا
ليتنا نشهد استواء الشروق!
ÙÙ‰ هذه القصيدة لا يص٠الشاعر Øاله ÙˆØده، وإنما يص٠أØوالنا جميعا. ولعلكم لاØظتم توارد الخواطر Ùيما تقوله القصيدة وما قلته ÙÙ‰ السطور السابقة. ولقد آثر الشاعر الاعتزال لأنه يرى ما لا يراه غيره. Ùهو لهذا غريب الأسى ÙˆØيد لا صديق له. لكنه ليس ÙˆØيدا Ùقط ولكنه واØد، أى متÙرد. واØد بشخصه لكنه كثير بأشواقه. ولهذا يلجأ للشعر يطلب صداقته ويسمو إليه ويØلق ÙÙ‰ سمائه وينظر من عليائه Ùيجد أن الصغار استبدوا، وأن الساØØ© خلت من أبنائها العظام الذين عرÙهم وصØبهم وتتلمذ على أيديهم Ùيشعر بالألم ولا يجد العون إلا ÙÙ‰ الشعر، ولا يرى إلا أنه قد بدأ رØلته إلى مطلع النور وأنه سو٠يواصلها مهما تكن الصعاب.
وهذه القصيدة هى Ø¥Øدى قصائد ديوانه الأول «عÙت سكون النار» الذى كان Ùيه متأثرا كما يبدو بالرومانتيكيين الذين تغنوا بآلامهم وبØثوا عن السلوى ÙÙ‰ الشعر ووجدوا ÙÙ‰ بØر الخÙي٠بالذات رØابة واستجابة شجعتهم على أن يودعوا Ùيه أسرارهم كما نرى ÙÙ‰ عدد من قصائد على Ù…Øمود طه «مولد شاعر» و»غرÙØ© الشاعر» ÙˆÙÙ‰ قصيدة الشابى «صلوات ÙÙ‰ هيكل الØب»، ÙˆÙÙ‰ قصيدة الهمشرى «إلى جتا الÙاتنة».
لكننا Ù†Øتاج هنا لأن نعر٠شيئا عن Øياة الØسانى Øسن عبد الله، لأن شعره لم يكن بعيدا عن Øياته، ولأننا سنقترب من شعره أكثر إذا عرÙنا ما يمكن أن نعرÙÙ‡ عن شخصه.
>>>
الØسانى Øسن عبد الله ولد عام 1938 ÙÙ‰ قرية «الكرنك» بمØاÙظة الأقصر. والتØÙ‚ بعد Øصوله على التوجيهية بكلية دار العلوم، وتخرج Ùيها عام 1959 ثم Øصل على دبلوم معهد الدراسات العربية، وعلى الماجستير وكانت عن «ÙلسÙØ© الجمال عند العقاد» الذى تعر٠عليه الشاعر ÙˆØ£ØµØ¨Ø Ù…Ù† أخلص تلاميذه له كما تعر٠بعد ذلك على المØقق المعرو٠مØمود Ù…Øمد شاكر. ÙˆÙÙ‰ تلك المرØلة بدأ ينشر مقالاته وقصائده. ثم عين سكرتيرا لتØرير مجلة «المجلة» التى كان يرأس تØريرها ÙŠØيى Øقى.
ÙˆÙÙ‰ عام 1972 أصدر ديوانه الأول، وقام بتØقيق عدد من كتب التراث منها «الكاÙÙ‰ ÙÙ‰ العروض والقواÙى» للخطيب التبريزى، و»شÙاء العليل» لابن قيم الجوزية. أما آخر انتاجه Ùهو ديوانه الثانى «من ÙˆØÙ‰ الواÙر» الصادر ÙÙ‰ العام الماضى. لنقرأ معا من هذا الديوان قصيدته التى سماها «مناجاة للمتنبى» التى يواصل Ùيها ما بدأه ÙÙ‰ قصيدته السابقة، لكن على Ù†ØÙˆ مختل٠يتجاوب Ùيه مع المتنبى وشعره:
أيها الØالم العظيم
تذكرتك لما لم أل٠Øولى خلا
هبط الليل، أين منى بواد
جزتها كالشهاب يا نجم ليلا
ما الذى كنت تبتغي؟ ما خبي
أبت النائبات أن يتجلي
هبط الليل Ùا دكرتك أمسا
قيل: ولى، وقلت: لم يتول
وأنا مهمل كزق رياØ
ليس عندى إلا عسى ولعل
ولو أن الأØجار تعقل Ùجت
Ùجوة ÙÙ‰ الجدار كى أتدلي
لتلاقى خيلى ورجلى، وقد عاد إلينا التتار
خيلا ورجلا
Ø£Ùهاذ أنا؟! تقول قواÙيك
لمن آثروا السلامة: كلا
ضل باغى النجاة بالجبن ضلا
كلنا ÙÙ‰ نهاية الشوط قتلي!
هبط الليل Ùا دكرت بلادي
ولسانى وخنجرا مستلا
يستعين الدجى ليبقر عمدا
أمة بالكواكب الزهر Øبلى
خدعتها Ø±ÙŠØ Ø§Ù„Ø´Ù…Ø§Ù„ Ùباتت
ÙÙ‰ الهواء العليل تنشق سلا
قطعة قطعة تخور قواها
أيما Øينة ÙˆØينا ثكلي
شغلتها عن المصير أهازيج
وسوق تضج زمرا وطبلا
ورجال صلت وصامت وقالت
ÙÙ‰ طمأنينة وجدنا الØلا
قلت هاكم كتابنا Ùاقرأوه
إنما البر أن تكونوا أعلي
هبط الليل، بيد أن صباØا
ÙÙ‰ قواÙيك لايزال مطلا
ÙˆØ³ÙŠÙ†Ø¯Ø§Ø Ø£Ù†Ø¨Ø£ØªÙ†Ù‰ ضلوعي
أن Ø³ÙŠÙ†Ø¯Ø§Ø ÙÙ‰ ضØÙ‰ لا يبلي!
>>>
سنلاØظ أولا أنه يبدأ القصيدة بالØديث عن شعوره الأليم بالوØدة والانقطاع وطلب الصديق كما Ùعل ÙÙ‰ قصيدته السابقة. ونلاØظ بعد ذلك أنه نظمها ÙÙ‰ بØر الخÙي٠الذى نظم Ùيه القصيدة السابقة، وبينهما سنوات عديدة، أى أن شعوره بالوØدة والوØشة شعور مقيم. ÙالوØدة التى ÙŠÙضلها على جلساء السوء تريØÙ‡ من ناØية وتؤلمه من ناØية أخرى. لكنه يسرى عن Ù†Ùسه بتذكر المتنبى ويرى Ù†Ùسه شبيها به أو قريبا منه. لأن ضلوعه أو شعوره أو وعيه الباطن ينبئه بأن الظلام سينداØ. وهو يتنبأ كما Ùعل المتنبى الذى ادعى النبوة ÙÙ‰ بادية الشام وتبعه كثيرون من بدو المنطقة. والمتنبى لم ير Ù†Ùسه نبيا ÙØسب، بل رأى Ù†Ùسه أميرا كذلك أو ملكا:
ÙˆÙؤادى من الملوك،
وإن كان لسانى يرى من الشعراء!
والØسانى وهو يتØدث عن الليل الذى هبط يتذكر ليالى المتنبى الطوال ورØيله الدائم يخترق البادية ويجتاز الØدود كالشهاب، ويتØدث مثله عن خيله ورجله، ويكاد يقول عن Ù†Ùسه ما قاله المتنبى عن Ù†Ùسه:
أى تØÙ„ أرتقى؟
أى عظم أتقى؟
وكل ما خلق الله
وما لم يخلق
Ù…Øتقر ÙÙ‰ همتي
كشعرة ÙÙ‰ Ù…Ùرقي!
Ùإذا نظرنا ÙÙ‰ لغة القصيدة Ùسو٠نرى أنها لغة مختارة بعناية كما ÙŠÙعل الØسانى ÙÙ‰ كل شعره. المÙردات، والجمل، والصور، والتنقل باقتصاد بين العبارات المستخدمة ÙÙ‰ الÙصØÙ‰ الØديثة والعبارات المأثورة، مع شيء من الزهو يغريه Ø£Øيانا باستخدام النادر الذى يبتعد به عن الشائع المتداول دون أن يسر٠ÙÙ‰ استخدام المهجور. Ùهو Ù…Ùتون بالتراث يصدر عنه دون أن يقع ÙÙ‰ التقليد المباشر متمثلا ÙÙ‰ هذا بقول المتنبى وهو ÙŠÙ…Ø¯Ø Ø³ÙŠÙ Ø§Ù„Ø¯ÙˆÙ„Ø© بما يصدق عليه هو أكثر ربما مما يصدق على ممدوØÙ‡:
يمشى الكرام على آثار غيرهمو
وأنت تخلق ما تأتى وتبتدع!
باختصار، الØسانى Øسن عبد الله شاعر Øقيقى مثق٠يستØÙ‚ أن نقرأه ونعرÙÙ‡ ونØبه، دون أن يمنعنا هذا من أن نختل٠معه، خاصة ÙÙ‰ بياناته التى أعلن Ùيها الØرب على الشعر الØر. وربما عدنا لمناقشة ما قدمه ÙÙ‰ هذه البيانات.