التناسب شرط الإيقاع: في فضل موسيقى الشعر ووقعها على النفس، لعبد اللطيف الوراري

تداول النقاد والبلاغيّون القدماء مفهوم التناسب ضمن رؤيتهم إلى مجموع عناصر العمل الشعري، إمّا بلفظه الصريح (التناسب، المناسبة، النسبة)، أو بمصطلحات من جنسه تدلّ على معناه وتكمّله (التلاؤم، المشاكلة، الاعتدال، الموازنة) من أجل تفسير ما وجدوه في الشعر من حسن النظم واعتدال أجزائه وترادفها وتشاكلها صوتيًّا ودلاليًّا.
http://www.alquds.co.uk/?p=980016

وفي هذا السياق، تُوحي لنا محاولة نظرهم إلى القصيدة كبنية كلية متكاملة تتآزر فيها الألفاظ والمعاني، بشعورٍ قويٍّ لديهم بأنّه من مجموع عناصر نسيجها واعتدال أجزائه يتحقق الإيقاع. فالإيقاع ليس صورة للتجانس البديعي ولا للمحسنات اللفظية والمعنوية وحسب، بل هو نتاج بناء النص الذي لا يكون ذا قوّة وحركة إلا بحيويّة الانسجام المتأتّي من قانونٍ عامّ يقوم على تناسب عناصر النظام الإيقاعي وهو يعمل في اللغة وعبرها، ويستقي مادّة انبنائه من التوافقات الحادثة بين متوالياتها، في سياق يخضع لتردُّد الوحدات الصوتية على مسافات زمنية متساوية أو متقابلة.
هكذا، فقد اتّجه كثير من هؤلاء العلماء إلى البحث عن مفهوم التناسب في مستويات صوتية ودلالية ومقامية، وقد ترعرع هذا النوع هذا البحث وتزامن مع الدراسات الإعجازية التي انشغلت ببيان أضرب التناسب في القرآن ووجوهه البلاغية، بدءًا من أواسط القرن الرابع للهجرة. بموازاةٍ مع ذلك، كان علماء علماء الموسيقى والفلاسفة يرفدون مرجعيّات أخرى للتناسب من انفتاحهم على تُراثات شعوبٍ أخرى، بما في ذلك التراث الإغريقي.

التناسب العددي

على أساس مبدأ أن صناعة العروض من صناعة اللُّحون، كما أوضحنا في مقالة سابقة، ذهب العلماء إلى أنّ الموسيقى والشعر كلاهما يقوم على مبدأ النسبة والتناسب، فاهتمُّوا بالصناعتين وحرصوا على أن يُنبِّهوا إلى أنّ الأنغام يجب أن تكون مناسبةً لامتزاجات النفس الإنسانيّة؛ بل منهم من وظّف ذلك في التربية الدينيّة والتدرُّج بمراتب النقاء والمعالجة النفسية. إنّ ما يقوم بدور إيجاد الملاءمة بين الأصوات هو مدى تناسبها من عدمه؛ فعن مبدأ التناسب والتنافر صدرت كثيرٌ من آرائهم في الشعر والموسيقى والسماع، وهو حصيلة تأثُّرهم بقراءة فيثاغورس وأتباعه الذين أشاعوا نظرية النسبة والتناسب العددي والنغمي بخواصّها وأعراضها وعناصرها الهندسية والمنطقية المتنوّعة من استقامةٍ وإبدالٍ وقلْبٍ وعكْسٍ وسواها.
وابتداءً مع الكندي، تبدّت ملامح هذه النظرية أكثر في «رسالة في صناعة خبر التأليف»، وممّا ناقشه فيها تركيزه على «موضع التأليف في قولٍ عدديٍّ متناسب، نقيٍّ من الأعراض المفسدة للقول العددي، وبأزمانٍ متساوية الأركان متشابهة النِّسَب، التي من عادة النّاس أن يسموها إيقاعًا». والقول العددي عند الكندي هو الشعر، وهو يجعلُ تحقيق صناعة التأليف الصوتي من صناعته، انطلاقًا من القاعدة التي لا يتمُّ التلحين إلَّا بها، وهي أن يكون الانتقال من أيّ عنصرٍ من العناصر اللحنية انتقالًا مقبولًا في السمع يتأتّى ممَّا بين متوالياتها من نسبةٍ عدديّةٍ بسيطة. وقد أوضح الكندي أنّ التأليف إمّا أن يكون من النوع «البسطي»، أو «القبضي»، أو من «المعتدل». يعني بالأوّل النوع المحزن، وبالثاني المُحرّك المطرب، وبالثالث المُحرّك الجلالة والكرم والمدح الجميل المستجاد. ويرى في الشّعر ـ أي القول العددي ـ الملبس اللّحْن أن يكون مُشاكِلًا في المعنى لطبع اللحن في هذه الأنحاء الثلاثة وأنواعها، وفي نسبةٍ زمانيّةٍ؛ أي يكون «إيقاعًا مُشاكِلًا لمعنى اللحن»، مُتّسق العروض وخاليًا من عيوب النظم.
ولذلك شدّد على أن تتلاءم الآثار النفسية للشعر المُغنّى مع إيقاعاتٍ مٌناسبةٍ لها: الإيقاعات الثقيلة للمحزن من الغناء، والإيقاعات الخفيفة للمطرب منه، والإيقاعات المعتدلة للمعتدل منه. ويذهب إخوان الصفا مذهب الكندي في قول النغم وائتلافه، مُثْبتين أن النغم المتناسبة إنّما هي تلك الألحان التي تستلذُّها النفس، بقولهم: «واعلم بأنّ الأصوات الحادّة والغليظة متضادّتان. ولكن إذا كانت على نِسْبةٍ تأليفيّةٍ واتّحدت وصارت لَحْنًا موزونًا، واستلذّتْها المسامع وفرحت بها الأرواح وسرّتْ بها النفوس». في مقابل ذلك، إذا كانت تلك الأصوات «على غير النِّسْبة، تنافرت وتباينت ولم تأتلف، ولم تستلذّها المسامع، بل تنفر عنها وتشمئزُّ منها النفوس، وتكرهها الأرواح».

لذاذة المسموع

يذكر الحسن بن أحمد الكاتب في «أدب الغناء» فضل الألحان وفعل الموسيقى في النّفس، ويرى أنّ «من نظر في الأمور الكلِّية والجُزْئية علم أنّ العالم كلَّه قد رُكِّب على تأليف كتاب الموسيقى». وهو يستنبط معرفة معاني الألحان التي تتمّ بالتأليف وصحة القسمة وحسن الوضع، يقترح الكاتب «المشاكلة بين الأشعار والألحان»، فيجعل من الألحان التي لا معنى لها «بمنزلة البيت من الشعر، فإنّه قد يكون حسن النظم جزل اللفظ صحيح الوزن، وليس فيه معنى وبغير فائدة أخرى، فإن كان فيه معنى كان أكثر فائدةً وأقوى فعلًا وأفاد شيئًا آخر». ولهذا، فمعنى اللحن هو الغرض الذي يقصده المُلحّن فيه، إذ يُفهم بالأصوات ما يُفهم بالقول الذي يُقابله ضرْبٌ منها خاصّ به عند الطرب والخوف أو الأمن. ومثل ذلك ما يقصده الشاعر من غرضٍ أو معنى من المعاني، التي بِمُجرّد إحكامها «تُحدث في النفس التخيُّلات والانفعالات»، وإلّا فهي لن تتعدَّى «لذاذة المسموع».
انطلاقًا من عمل التناسب وقيمتِه في اللّحن كما في الشعر وأوزانه، يعتقد الكاتب أن الائتلاف من الفضائل التي للنغم، ويفهمه بأَنّه «اشتراك الأصوات المتناسبة المتوالفة والاختلاف بضِدّ ذلك»، وبمقدار ذلك تُحيل الألحان النفس إلى شهواتٍ وانبساط إذا كانت متناسبة، وإن كانت متنافرةً أحالَتْها إلى عدم شهوةٍ وانقباض. وقياسًا على ذلك، يربط بين الإيقاع والمعنى في الشعر، فكُلّما خفي المعنى المُلحَّن كان ألذّ من أن يكون سهل الفهم، ومتى وُزّعت الحروف من البيت الشعري على النغم، حسب قدر نسبة بعضها إلى بعض، كان أثره أكثر وقعًا في النفس، «لأنّ تفهُّم الشعر يوقع في النفس ما لا يُوقعه النغم فقط». وفي سياق ذلك، يرى أنّ الألحان تجمع بينها وبين موسيقى الشّعر علاقة نسبٍ قويّة، سواءٌ تَمَّ في أبيات الشعر المتشاكلة التي تكون «متساوية الأجزاء» إمّا من ثمانية أجزاء كما في بحر المتقارب الذي يجري على تفعيلة (فعولن) نفسها، وإمّا من جزءين كما في بعض البحور البسيطة المنهوكة، أو سواءٌ تَمّ في الأبيات المختلفة التي تكون «متفاضلة الأجزاء» وتمزج بين أجزاء متساوية وغير متساوية، كما في بحر الطويل الذي يتركّب من تفعيلتي (فعولن مفاعيلن) اللّتين تتكرّران، بالتساوي، لأربع مرّات، وقِسْ على ذلك بحر البسيط أو بحر المديد.
لا ينشأ الإيقاع في الأبيات بطبيعة الأجزاء وحسب، بل – ترتيبًا على ذلك- ممّا يصيب الأجزاء نفسها أثناء التلحين بها من شدّةٍ ولين، أو من التوسُّط بينهما. يقول: «وقد يستعمل في بعض الأجزاء شدّة وفي بعضها لين، وقد يخلطان في البيت وقد يغلب أحدهما، حسب ما يحتاجُ في اللحن إلى الشدّة مرّةً أو إلى اللين أخرى، أو إلى التوسُّط كما تقدّم، لما تدعو إليه الأسباب». ثُمّ يستنتج الكاتب أنّ أعاريض الشعر المختلفة هي الأبهى والأكثر وَقْعًا في الألحان: بقوله: «فأمّا موافقة الإيقاعات لأوزان الأشعار، ومخالفتها، وأيّها تكون أحسن مع الآخر وأوفى، فإنّ المختلفة أبدًا تكون أحسن ويكون اللحن فيها أمكن، وأمّا المتّفقة فإنَّها تكون قليلة البهاء، ويكون التلحين فيها غير طائل ولا لذيذ». فلا يتمُّ تلحين الشعر وتوقيعه بوجْهٍ حسن إلّا إذا جرت مقاطع اللحن ونهايات الأنفاس والوقفات التي يُستراح عندها، وغايات النغم الممتدّة والحروف الخمسة، على مقاطع متوازية متقابلة من أجزاء الشعر التي يتجزّأُ بها البيت ويتركّب منها. وعن «وضع الألحان فيما يُشاكلها من الأشعار»، يرى الكاتب أن على المُغنِّي أن يعتني بها، وإلّا «لم يُعتدّ به بكثير فضْلٍ في صناعته»، ويعلم أنّ «الغناء أجناس» حسب الأحوال النفسية التي عليه تعرُّفها، فضلًا عن أنّه «يحتاج إلى تعرُّف أخلاق جليسه وما يذهب بنفسه إليه في سائر الأوقات وفي وقته الحاضر».
إنّ الألحان لا تستوي بِعدالة قدْرٍ إلّا وفق مبدأ الانتقال في اللحن، أو ما يُسمّيه بـ«التمزيج»، بحيث يحدث الانتقال على أنغامٍ متلائمةٍ يتخلّلها من المتنافرة ما لا يشعر به أنَّه مُتنافر، مثلما يمكن الانتقال إلى كلِّ واحد ويسهل مأخذ النغم من كلا الطبقتين الحادّة والثقيلة. فالانتقال من نغمة إلى نغمة ليست من جنسها في اللحن يكون باعتبار الأثر النفسي ممّا أوّلوا فيه من القول على أفعال الإيقاعات في النفس. يرى ابن زيلة أنّ الانتقال إلى النغمة الحادّة وإلى النغمة الثقيلة إنّما يكون انتقالًا يُحاكي ما في النفس من خصال وشمائل، بحيث أنّ «الانتقال إلى النغمة الحادّة يُحاكي شمائل الغضب، والانتقال إلى الثقيلة يُحاكي شمائل الحِلْم والدراية، والانتقال إلى هُبوطٍ يُتدارك بصعودٍ راجعٍ يُعطي النفس همّة شريفةً مُقوية مع شَجى مُخيّل، وضدّها يُعطي هيئةً لذيذةً مائلةً إلى الحقّ مع شَجىً أثيث». ويربط ابن زيلة هذه الآثار بطبقة الصوت وانتقالاته في تركيب النغم المُحْدثة لها من سخاء وشجاعة وحمية وألفة، فيجعل أفضلها «الانتقال المُحْدث للسرور، وهو الّذي يكون فيه من ثقل النغمات إلى حدّتها، فيتبعه انتقال الصوت من خفْضٍ إلى رَفْع، وأمّا ما أشبهه فهو الذي يكون الانتقال فيه من حدّة النغمات إلى ثقلها، انتقال الصوت من رَفْعٍ إلى خفْض».
من خلال «ميزان الطّبع السليم» يدرك صفي الدين الأرموي تساوي الأزمنة والأدوار، ويرى أنّ بين الشعر والإيقاع تَناسُبًا مّا من وجه، وهو أنّ أدوار عَروض الشِّعر كما تكون في الأوضاع متقاربةً وفي الأوزان مختلفةً. والشّخْصُ الذي أُعْطيَ الطبع السليم لا يفتقرُ في إدراك تساوي كلِّ دوْرٍ منها إلى ميزان العَرُوض. كذلك الإيقاع، فإنّ من أُعطي الطّبع المستقيم لا يفتقرُ في إدراك تساوي كلِّ دوْرٍ من أدوار الإيقاع إلى ميزانٍ يُدْرِك به ذلك، بل الغريزة التي قد جُبِل هو عليها تكون كافيةً في ذلك الإيقاع. وتلك الغريزةُ لا توجد في كلّ شخْصٍ». لهذه الأدوار من الأصوات تأثيرٌ في النفس، إلا أنّها مع كثرتها واختلاف تأثيراتها يحصرها في ثلاثة أنواع: فإنّ منها ما يُورِث قُوّةً وشجاعةً وبَسْطًا في الغاية، ومنها ما يُورِثُه لكن لا في الغايةِ، بل انْبِساطًا مُعْتدلًا، ومنها ما يُورِثُ نَوْعَ حُزْنٍ وفُتور».

من العددي إلى الكوني

وهو يفصل بين «أجناس العلوم»، يثبت لسان الدين بن الخطيب أنَّ العَروض من «أجزاء صناعة اللُّحون، مُقيَّدًا ببعض الألسنة والأغراض»، كما إلى «المناسبة بين الألحان الموسيقيّة والنُّفوس من ذات ارتياض السمع، فيؤثِّر فيها عِشْقًا ونُفْرةً بحيث تَحار الأذهان في علّته»، إلَّا أنَّه العلماء ـ في نظره ـ علّلوا ذلك بـ«مُناسباتٍ عدديّةٍ» عندما أخرجوا نسبة الصّوت في الحدّة والثّقَل وفق الكيفيّات المعبّر عنها عندهم باللُّحون، قائلًا: «فجميع ما وقع من النِّسَب اللحنية في نسبة الجزء، أو نسبة ذي الأضعاف، كان مُلائِمًا عذبًا، يقبله السمع، وتحنُّ له القوّة الناطقة، وتألفه الطباع، وتتفاضل في العذب والأعذب، ما وقع في هاتين النِّسبتين». وبسببٍ من ذلك، أبرز أنّ التعشُّق يحصل بالمناسبة في الملذوذ الذي بين العددين، وأنّ النُّفرة سببها ضدّ ذلك من عدم التناسب. فقد جعل ابن الخطيب من التناسب، في كتابه «روضة التعريف بالحب الشريف»، بمثابة المبدأ الجوهري لكل ما في هذا الكون، ومنه الإنسان والألحان والأشعار والأجرام والنجوم، وسوى ذلك. حتى أنَّ ابن حزم الظاهري عرَّف النفس بأنَّها: «تأليفات عدديّة أو لحنيّة، ولهذا تناسب النفس مُناسبات الألحان والتذّتْ بسماعها وطاشت وتواجدت بسماعها وجاشت».
لقد فطن هؤلاء العلماء إلى الامتزاج الحاصل بين الشعر والموسيقى من جهة، وبينهما وبين النفس من جهة أخرى، ولذلك أحسّوا بما يولده الصّوْت من حركةٍ تولّدها المخيلة، ويخفق بها القلب، وتنطبع في النفس أول الأمر، فتتجسّد بالضرب على آلةٍ موسيقيّةٍ، أو الجسم عند الرقص، أو الصوت عند الإنشاد. فأساس الإيقاع هو الحركة، ولكن ليس كلّ حركةٍ إيقاعًا. حركة الإيقاع تخضع لمبادئ لا تفريط فيها، هي: النسبية في الكميات، والتناسب في الكيفيّات، والنظام، والمعاودة الدورية. ربما قد يكون للحركة أكبر أثَرٍ على النّفْس عجيب لا يوقف منه على علّةٍ، وهو ما جعل الغزالي يفسر العلاقة بين النغم وتقبُّل النفس له بوصفها سِرًّا من أسرار الله، أي «سرّ في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى أنها لتُؤثِّر فيها تأثيرًا عجيبًا»، ورأى في الذي لا يتأثّر بأزهار الربيع وأوتار العود بأنَّه «فاسد المزاج»، ومن لا يُحرّكه السماع بأنَّه «ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته».

Related posts

Leave a Comment