المجنون، للدكتور السيد شعبان جادو

البعد يورث في القلب جفاء وفي العقل مسارب للنسيان، اتسع الجرح وابتعد الأهل، إنه الزمن يفعل ما يحلو له، تاهت الحكايات في زحمة الحياة المغلفة بالأنين والوجع، جاءت النهاية مبكرا، لقد صارت الأشياء معكوسة، انفلت عقال النساء، شاخت ظهور الرجال، كأن القيامة على بعد خطوة، حاولت مرارا أن أكتب عن الأحلام ترتدي ثوبها الجديد فعجزت!

امتلأت خزانة أوراقي بأسماء وأشكال عجزت عن حصرها، حين تجد الطيبين يرحلون وتقف وحدك تواجه الريح، شيء لا يمكن وصفه، حتى صار التذكر علاجا لداء الفناء.
نحن نعيش في ثقب كبير، ثمة فجوات تبتلعنا تغتال وجودنا رغم أننا نعبش على الهامش، لا أحد يتذكر ما حدث في تلك الليلة السوداء، طرقات متوالية أفزعتنا، لقد جاء الغجر ، هذه مفردة كفيلة بأن تثير الغثيان، لنسائهن فتنة لا تقاوم، شعورهن الصفراء، ثيابهن بألوانها الوردية.
عندنا هلع منهن، إنهن ساحرات، يضربن الودع، يلاعبن الطوب والحجر، ولأنني مصاب بالعنة فقد تركوني أمشى خلفهن، ألبسوني جلبابا دون صدار، طاقية لعبت فيها الفئران!
طفت البر كله، الأولياء يسكنون القباب الخضراء، إن لهم مكانة عالية.
مهاجر في بلاد الله، ترميني بلد في العراء، وتضمني أخرى، أجوب الكفور والنجوع، الناس تخاف من الغريب؛ إنه يسرق الكحل من العين، والغريب أن النسوان في البراري مصابة بالعمش ولا رموش لهن، لكنها اصطادتني، غمازة عينيها كانت فاتنة، تضرب وشما أزرق في ذقنها، في لحظة يكون القرد غزالا، إنه يهيم في وادي التيه، تعبت من التخفي وراء الكنى والألقاب، حتى الغجر يرفضون أن أكون واحدا منهم.
أسير في المحروسة لا أعلم لي وجهة؛ هذه عادة تملكتني حين يضرب الجوع بطني، ثيابي مهلهلة، حذائي ملعب هواء، شعر رأسي ملبد باكداس من زفت الأرصفة، الناس تتحاشى القرب مني، تخوف الأمهات صغارها بي؛ المجنون!
من شرفة القلعة خرج الأتابك وجهه منيرا إنه بدر التمام وريحانة الزمان، له طلعة بهية، سال لعاب الواقفين مثل شخوص مصابة بالتبلد، إنه سيعطي كل واحد رغيفا وشربة ماء!
كل صباح يأتون إلى هنا؛ يتمسحون بأحجارها، يوفون بالنذر، يغمسون أصابعهم في الماء الآسن ومن ثم يعودون وقد تلبستهم حالة من الزهو؛ لقد نالوا المقام المحمود.
تتلوى مثل الأفاعي سياط الحرس، يفرون على وجوههم، يسبحون بحمد القابع في البناية العتيقة.
أما أنا فقد سخرت منهم، هؤلاء لا عقل لهم، وحدي الذي يعرف الحكمة؛ أن تصمت في سوق الغوغاء!
تصوم يوم كربلاء، لهم وجوه متماثلة، تعلوها الذلة والكآبة، هموا بي، وليت مدبرا ولم أعقب، لا يتحمل ظهري مزيدا من السياط.
تبعتني ابنته، حلوة، أعطتني رغيفا، تلوح من شفتيها بسمة يغرد البلبل مثل صوتها.
تبعتها مثل ذلك الجرو الذي يتشمم الأرض بين قدمي سيدته، علت ضحكاتها، جاءوا بحبل، جوار باب القلعة أقعى!
كل صباح أردد دعاء الحمد والشكر لمولانا الأتابك، تمر بي كل صباح، تمسك برغيف حشوه الفريك، ومن ثم تعود بجرو مثلي، هذه كانت هلاوس نومي الليلة، أصابتني الحمى، عيناي ما غادرتها، لقد سلبت عقلي، أكاد أمزق ثوبها، أن أعتصر رمانتيها، لا يهمني أنها جاءت بلا سروال، يكفي أنهم يتقاطرون، أيهم يواقعها؟
يصيح صغار، يقذفون بحجر كاللهب، تولول أمي، لا يهم، تظهر سوأتي، يتبارى ابن العلقمي في كشف براءة وجهها، لا يشغلني إلا خصرها النحيل، يتسرب دمهم سيلا يغرقني يخربون بيوتهم، لا جدوى منها، إنهم يشتهونها.
تبلغ بي الحمى منتهاها، أجري يتبعونني، أمسك بباب الأتابك، ينهالون علي ضربا، تأتي ابنته تحمل مشرطا، يفترعون خاصرتي، تمسك بخصيتي فتخرجهما، ترمي بهما لكلبها الواقف خلفي، تتثنى حية رقطاء، تسلبني هويتي، تكشف عن وجه يماثل وجه إيفانكا، ينادون على حمار فيحملني مجرسا، يضربون خلفي الطبل، يرقصون في مشهد صاخب.
جوار سوار القلعة تغوص أقدام جواد الفارس الأخير، أبحث في التراب عن كسرة خبز، أكاد أموت من العطش، تجلدني أمي، ليتني ما عصيتها، لا شك هذا دعاؤها، تركت صغاري، تبعت ذات الخصر، أين الآن بيتي؟
أعلم أنها بلا ثديين، يقال إنها أصيبت بداء السل، جرباء وإن كانت تتعطر بقنينة دم الحملان، شعرها مستعار، إنها بلا قلب، لقد صنعوا لها واحدا من بلاستيك، أشبه بالدمية باربي، ثمة زر يحركها، لقد خدعنا الأتابك، لكنني متيم بها، أخبرت شيخ المسجد بحالتي، أمرهم أن يحملوني إلى النبع المبارك، غسلوني ومن ثم ألبسوني ثيابا طاهرة، علمني أية الكرسي، أخذ مني العهد ألا أهيم بها، حين جئت إليه، وجدته يبيع الأتابك وعبيده في سوق المغربلين يعطيهم حريتهم!

Related posts

Leave a Comment