الفول النابت للسيد شعبان جادو

قال لنفسه: يكفي هذا الكم من الحزن الذي يعتصرني طيلة هذه الأيام، أعلم أنها لن تعود إلى عهدها السابق معي حيث التبسط في الحياة متعة لا تقاوم،

لي حالات من وجد ظللت أخفيها أعواما تحت ركام من النسيان، لا أدري ما الذى دفع بها مجددا لأن تعاود الظهور على سطح الحياة، كنت منكفئا على جراحي، الآن ما عدت أستطيع، دب في العجز بل العالم من حولي أصابته حلكة شديدة، الوجوه السوداء بدأت تدب في شوارع المدينة، يا لوحشة منظرها! إنها تبدو كثعابين الليل التي نهشت جلدي ذات ليلة غاب فيها القمر، رأيتها تتراقص مخمورة كلما أنشبت نابها وبثت سمها، ساعتها أصابني دوار شديد، الهذيان صار يطاردني، لبست القطط ثياب الفئران،حتى الرجل ذو الرجل المسلوخة وكنت أتحاشاه حين يظهر البهاق مثل خريطة الوطن مفتتة، النساء في تلك الليلة تقاصفت شعورهن، أثداؤهن تخرج سائلا حمضيا له رائحة كريهة، حتى النخلات التي شارفت القمر يوما بدا أنهن عاجزات عن الحركة، القطارات تصدر عويلا في مناحة تتوالى:
الأطفال نسوا أقلامهم، الوحش التهم علب الحليب في شراهة، ثمة طفل منغولي كان يسعدنا بطلعة وجهه الصافية، قيل : لقد وجدوه قطع غيار موزعة عند مدخل المشفى الذي أوت إليه أمي حين وضعت أختي الصغرى!
كنت أتحاشى المرور من الشارع الضيق حيث تسكنه الجنية العجوز، دارت حولها حكايات شاب منها شعر رأسي، هذه الليلة جاءت هي الأخرى؛ لكنها بائسة فقد قام الرجل ذو الرجل المسلوخة بكل مهامها، تبطلت هي الأخرى ربما نحن في خريف لا ينتهي، الريح تصدر صوتا مفزعا، شعرت بأن حجرة ثقيلة مما تبقى من بناء بيتنا الذي يعلو تلة جادو تضغط على رئتي، اختل توازني- في الحلم- البئر ذات الفوهة التي تموج بحمم بركانية توشك أن تذيب لحم وجهي، قديما كانت لها طلعة تجلب الرزق، لقبني خالي بالفتى ” المصبح” بالفعل كنت محظوظا، استطعت أن أتعرف على سر الحرف، ومن يومها أنا مصاب بتلك اللوثة التي لا علاج لها، وضعت أمي حول رقبتي تميمة، أعاذتني من العين التي لا تصلي على النبي، يوم الجمعة اليتيمة- ولا أدري كيف تفقد الأيام آباءها- تطعم الصغار والعابرين “زقاق الجنية العجوز” الفول النابت.
كنت مزهوا بتلك التميمة فقد كانت من صدف يلمع، ربما استطاعت جدتي أن تأخذ شعرة من القدم المسلوخة، تعاونت معها الجنية العجوز، عصا جدي المجلوبة من شجرة التوت العملاقة التي تسكن ضفة النهر، كانت بها خطوط وأشكال غريبة، مفتاح كبير يتدلى من شرفة بيتنا، لكنهم في أيلول الأسود باعوه لأحد الأعراب ممن تطاول بهم البنيان، مرقد السيدة زينب أم المساكين تنشط حوله ذئاب الليل، الغول يسكن الغورية، لقد هدم مجرى العيون، هاهي بوابة المتولي تصدر أنينها في لوعة، كل ما فعلته؛ وزعت الفول النابت عند درب الأتراك حقا كانوا يعطون لنا خبزا محشوا باللحم، أكلت واحدا منه يوم كنت مجاورا أسكن درب الجماميز، أمسكت بي قبل أن أغرق في فم الخليج.
شعرها المنسدل خلفها مثل شلال هادر يدفعني ناحيتها، أذان الفجر يناغم به الشيخ ” نصر الدين”.
هذه الحكاية سمعتها منه كلما دبت قدمي في تلك الناحية، يحلو له أن يعيدها علي، ثمة حب جارف لديه لأن يسرد ما وعته ذاكرته، صرت متخما بكل هذا.

Related posts

Leave a Comment