إنشاد الشعر ليحيى حقي

قدِّر أنك في صحبة أصدقاء يحبون الشعر مثلك ويتدارسونه، وكان معك ديوان شاعر فحل، وأنك فتحته على القصيدة الأثيرة عندك، فدفعت بها إليهم وطلبت منهم إنشادها أمامك فرادى كأنما تستعيد معهم من قبيل اللعب ذكرى حصة المحفوظات- ستجد حتى ولو كانوا يحفظونها من قبل عن ظهر قلب، أن كل واحد منهم سيسمعها لك على نحو يختلف عن الآخر:

فهذا يميل إلى الجهر والفخامة وتأكيد المطابقة في القافية، يتلو البيت كله وهو مفنجل العينين في خيط واحد، تلك قراءة الخطيب المفوه، يشد أعصابك وانتباهك -وإن غفل عنه قلبك قليلا- تقول له في سرك: هون عليك وعلينا، خذنا بالراحة لا بالرج العنيف، لم تقم القيامة بعد، فرق بين التهادي الجليل والقعقعة!

والثاني يكرها عليك كرا والنظرة ساهمة، كأن النغمة صيد يشق الأدغال ويتأبى عليه، فاستبدل بها نغمة وقع خطاه في جريه وراءه، كل كلمة واضحة، ونطقه بها حسن والمعنى بين؛ فلو قد اشتريت منه بالكم تلاوته لاستحق عندك الثمن عدلا، ولكنه صدق عزيمة يبعث على الملل؛ فهو قد وقف بنا عند شفتيه دون أن يتركنا ننفذ إلى روحه هو، وكان المطلب أن نكشفها هي أيضا، لا القصيدة وحدها.

من الفلتات واللحظات السعيدة الفريدة أن تظفر بعدهما بثالث لا تأسره مطابقة القافية لئلا تكون كالحفرة التي يقع فيها لزاما عند نهاية كل شوط، بل يحاول أن يستخرج له ولنا من كل بيت نغمته الفردانية، ومن القصيدة كلها نغمتها الشاملة؛ فهو يمازج بين الجهر والهمس، ويتخير بلا إلزام مواضع يتريث عندها، يؤكد تارة ويمر مر الكرام تارة أخرى، ولكنه إذ استعطف لا يذل وإذا تبهنس (تبختر) لا يتوقح، قصيدة الشاعر أصبحت قصيدته هو أيضا، من أجل ذلك ورغم إعجابك به وشكرك له تحس في قلبك ببعض الحنق عليه، لأنه غالى بكبرياء في التضخم، وأنزل القصيدة من عالم مجلل بالأسرار إلى دنيا الواقع المكشوف. إن تلبّسه غرورا بالشاعر هو حقن الخلود بسمّ الفناء، تضيق به لأنه يزعم أن القصيدة هكذا نزلت وللقصيدة كمالها الذي يحبس شيئا منه عن كل تجسس وإن علا مكره، والأداء الأكمل لها هو المقترن بالاعتراف بالعجز عن تمثلها كل التمثل. ما هو في نهاية الأمر إلا تفسير ذاتي لا يلزم الغير، ويفتح الباب لضرورة أخرى من التفسير، كل منها جيد صادق.

Related posts

Leave a Comment