آية الحقيقة، لخالد الكندي

وفارقت روحها الدنيا التي حذّرتنا من زخرفتها..

كان اسمها أول اسم يتصدر قائمة المسجلين في هاتفي..

لم يكن اسمها هو الوحيد الذي يفرض حضوره في حياتها؛ بل شخصيتها أيضًا..
كانت هادئة جدًّا..
عندما تجلس وسط العائلة لا نكاد نسمع لها صوتها..
كنا نسمع عنها أكثر مما نسمع منها..

قال لي أستاذ معني ببرنامج اللغة الإنجليزية لطلبة الهندسة بالجامعة: إنني درّستُ فصولًا عدة لكني لم أصادف طالبًا حصل على المعدل النهائي A+ سواها! وقد كانت اختبارات هذا البرنامج الإنجليزي صعبة حتى إن بعضها يتطلب قراءة فقرة بألفاظ صعبة في دقائق معدودة، ثم تُسْحب الفقرة ليُطْلب من الطلاب إعادة كتابة الفقرة مع شرط تغيير الصياغة.

في الثانوية العامّة –حيث تتنافس الطالبات على الدرجات العليا- كانت آية تشغل نفسها بشرح الدروس المعقدة لصديقاتها.. وهكذا شأنها في الجامعة..

في سنتها الأولى في الجامعة تجاوزت اختبار المستوى في الإنجليزية فلم تحتج إلى البرنامج التأسيسي، ووجب عليها أن تدرس مقررات تخصصها والمقررات الجامعية، ولم تستطع تسجيل المقرر الجامعي (اللغة العربية) لعدم كفاية الشعب المفتوحة لأعداد الطلبة الملزمين بدراسته، وأخبرتني أسرتها بالأمر..

وبحكم تخصصي في اللغة العربية بحثت لها عن طريقة لإمكان تسجيلها، فلم أجد لها شاغرًا سوى شعبة يدرّسها أستاذ جادّ يزعم الطلاب أنه لا يمكن أن يحصل معه جُلّ الطلاب إلا على معدل C، وهو معدل يتراوح بين 70% و79%، فقلتُ لها إنني سأختار لك أستاذًا ممتازًا لكنه يطلب جهدًا متميزًا لمن أراد الحصول عنده على معدل مرتفع؛ فلم تُبالِ بالأمر؛ بل طلبت أن أسجّلها فورًا!

قالت لي أمها إنها كانت تقرأ القرآن كل يوم، وفي ليلة الأحد 12 فبراير 2017 كتبت عشر آيات وعبارات في أوراق ملحوظات قصيرة.. وقبل يوم الأحد رَسَمَتْ وجه أبيها، واحتفظت به في قائمة رسومها الفاتنة..

كانت تلك العبارات العشر كلها تذكّر بالموت والحساب، وتحذّر من الانخداع بزينة الدنيا.. {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد…}.. {…وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..

في اليوم التالي –الإثنين- كانت آية على موعد مع اختبار، فظلّت في يوم الأحد ساهرة إلى الساعة الحادية عشرة تتلقى رسائل استفسارية من زميلاتها عن مسائل شائكة كانت محتاجة إلى عقلية خاصة.. ثم استيقظت قبل صلاة الفجر، فذكرت الله وصلّت، وبدأت تستظهر ما حفظته البارحة..

كانت قد تعوّدت في كل صباح أن تجلس منفردة في إحدى الغرف.. لكنها هذا اليوم اختارت الجلوس في رَدْهة البيت بين أختها وأمها وأبيها..

طلبت منها أمها أن تفطر قبل مجيء حافلة الجامعة؛ فاعتذرت، ثم خرجت لتنتظر الحافلة على الدرج..

– ألا تريدين كريمات لوجهك؟
سألتها أختها الأكبر منها.
– كلا.
كان وجهها ناصع البياض، ولم تكن للكريمات قيمة مضافة بالنسبة إليها.
تعوّدت أمها أن تجلس إليها في الدرج الخارجي للبيت إلى أن تأتي الحافلة، ثم ترسل إليها رسالة قبيل الثامنة صباحًا لتطمئن على وصولها آمنة إلى الجامعة؛ لكن أمها هذا اليوم اشتغلت عنها بأمور، فلم تجلس إليها على الدرج، ولم تتمكن من إرسال إليها الرسالة المعتادة.

في الصباح الباكر تلقّى أبوها -وهو في العمل- اتصالًا من الجامعة قيل له فيه إن أحد أهلك في طوارئ الجامعة، فذهب بالُه إلى أمّه بسبب وضعها الصحي، وبعد أن ركب السيارة ومضى في الطريق إلى الجامعة أخذ يتلقى اتصالات بين الفَيْنة والأخرى تحثّه على الإسراع وتُبَيّن له أن ابنته آية مصابة قليلًا وتريد لقاءه. وبعد أن دخل الطوارئ وعرف الحقيقة أُغْشِيَ عليه، فنُقِل إلى غرفة إنعاش.

ثم وصلت الأم، وشاهدت حال ابنتها وحال زوجها فأُغْمِي عليها أيضًا. وتكرر الأمر نفسه مع ابنة خالة لآية، فقد كانت طبيبة في المستشفى الجامعي، وراعها مظهر آية.

قبيل التاسعة كنتُ في إذاعة القرآن الكريم بمبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وبعد مغادرتي وسيري في الشارع في وقت يناهز التاسعة والنصف صباحًا اتصل بي أحد العُمداء، وقال لي إن الموظفين في طوارئ مستشفى الجامعة يريدونك لأن أحدًا من أهلك وقع له حادث فيما يبدو..

لم أستطع أن أفهم تفصيل الموضوع من العميد، ثم اتصل بي طبيب من طوارئ مستشفى الجامعة، وأخبرني الأمر نفسه، فبقيت أضرب كفًّا بكفّ وأنا أقلّب عقلي محاولًا فهم ما يجري..

وصلت الطوارئ، وسألت حارسًا عن الطبيب الذي اتصل بي، فأشار مباشرة إلى أحد الأقسام، فاتجهت إليه بخطا واسعة.
دخلتُ القسم فراعني الأمر..
كبار المسؤولين في إدارة الجامعة اصطفوا في طابور في الرواق الموصل إلى قسم العلاج..
– هل أنت الدكتور خالد؟
سألني أحدهم.
– نعم.
– البقية في حياتك!

صدمتني العبارة، فلم أُطِل النظر إليهم؛ بل التفت إلى يساري فرأيت صهري وقد اغرورق عيناه بالدموع.

أردتُ أن أسأله عن تفسير ما أراه فسمعت صوت أختي تصرخ.
هرولت إليها في قسم العلاج فإذا بالممرضات يَسُقْنها على كرسي متحرك.

كانت تصرخ وهي تبكي آية..
أرادت الممرضات إدخالها في غرفة منفردة لتهدئتها فرفضت..
تقدمت إليها وأقنعتها بالدخول..
ثم علمتُ بالفاجعة فبكيت معها..
لم أسأل عن تفصيلات الحكاية؛ فقد كان هذا يكفيني لأبكي على آية..

أخذت أمها وأباها بسيارتي إلى بيتهم..
ومضت سيارة الإسعاف خلفنا..

إلى آخر لحظة ونحن نخرج من المستشفى كانت بعض الممرضات والمسؤولات الإداريات في الجامعة يحاولن تهدئة الأم بأية وسيلة حتى قُلْنَ لها إن آية بخير وستعود إليك.

خرجت أختي معي من المستشفى وهي تُتَمْتِم:
– آية بخير.. آية بخير..

أما حكاية النهاية المؤلمة فوقعت تحت إطارات حافلة تَزِنُ أطنانًا.

كانت الزهرة الصغيرة قد خرجت من الحافلة عندما وقفت داخل الحرم الجامعي في الصباح الباكر بعد السابعة صباحًا..

لم تكن تتوقع أن تَعْلَق عباءتها بباب الحافلة..

ولم تجد فرصة لتنبيه السائق بالأمر فقد انغلق الباب كهربائيًّا..

لماذا لم ينتظر السائق حتى يتأكد من ابتعاد كل الطالبات من الحافلة؟

لماذا لم يتأكد السائق من خلال المرائي الجانبية أنه لا توجد أية طالبة حول الحافلة؟

لماذا لم يستطع أحد أن يصرخ للسائق ويوقفه وهو يسحب آية بحافلته؟

ألم تكن في الحافلة أنظمة للسلامة تجنّب الطلاب هذه الحوادث؟

أسئلة لم تعد إجابتها تهمنا؛ لأنها لن تعيد إلينا ابنتنا الغالية.

انطلقت وسائل التواصل الاجتماعي تحكي روايات مختلفة عن سبب موت الشهيدة الصغيرة، بعضها يُكَذِّب بحادثة الدَّعْس، وبعضها يصدقها، ولكن حقيقة الأمر سجّلتها كامِرات الجامعة.

إن الشِّقّ الأيمن الذي دَعَسَتْهُ الحافلة لم يمنع نفاد رائحة المسك منها؛ تلك الرائحة التي شمّتها المغسلة وقالت للنساء:
– إن جسد البنت لا يحتاج إلى طِيب؛ لأنها تروح مِسْكًا.

بعد أن أقمنا العزاء بدأت صور الحكاية تتركب تفصيلاتها بروايات مَن عرف آية أو حضر مشهد رحيلها الأخير.

قالت أستاذة بريطانية مسلمة إنها رأت آية تحت الحافلة، فحملتها بمساعدة بعض من عاين الحادث، وفي الطريق إلى طوارئ الجامعة كانت آية في غيبوبة؛ لكن الله أكرمها أن تستعيد وعيها وهي تسمع نداء الأستاذة البريطانية طالبة منها نطق الشهادتين..

نطقت الغالية الشهادتين..
وفارقت روحها الدنيا التي حذّرتنا من زخرفتها..

رحمك الله أيتها الزهرة الطيبة..
وجعلك في الشهداء الأبرار.

أبو القاسم الكندي
الخميس 16-2-2017

Related posts

Leave a Comment