تثوير التكامل الطبيعي

إذا تأملنا معا “لاعب النرد، قصيدة متحركة”ØŒ مشروع بعض طلاب الجامعة الألمانية بالقاهرة لسنة 2013 (http://mogasaqr.com/?p=5768) -وهو عمل متقن معجب باهر مدهش، لا تمل النفس تأمله انتفاعا واستمتاعا- وقفنا منه على سر الابتكار المُنَمِّي للغة العربية، الواجب كشفه ونشره على الناس وتثقيفهم به- أنه “تثوير التكامل الطبيعي”.

نعم؛ فهو نص شعري قصصي مسرحي تشكيلي موسيقي مترجم متلفز! جمعت بين عناصره رؤية إخراجية واحدة، كفلت تفجير طاقات اللغة العربية، بمزجها بما يمازجها عادة في مسيرة حياة أهلها. ولا يخفى على باحث لغوي أو غير لغوي، أن ابتكار الفنون والعلوم والمهارات موكول إلى النظر في أطراف ما بينها جميعا، لتأليف الجديد من مفرداتها المختلفة.
ومن ثم أنبه هنا على خمس درجات من “التكامل الطبيعي”ØŒ ينبغي أن يتدرج عليها مسار تثويره شيئا فشيئا، حتى يبلغ الغاية بعد الغاية من غايات التنمية المطلوبة، التي ينبغي ألا تنتهي.
أما الدرجة الأولى فتكامل الفنون اللغوية (الشعر والقصة والمسرحية…)ØŒ إبداعا، وتمثيلا.
إنه إذا كان في الفنون اللغوية الغنائية (الشعر وما أشبهه)، ما يثير الحنين، وفي الفنون اللغوية السردية (القصة وما أشبهها)، ما يثير الحركة، وفي الفنون اللغوية الحوارية (المسرحية وما أشبهها)، ما يثير المشاركة- فإن في الجمع بينها ما يكفل اجتماع الحنين والحركة والمشاركة التي تكتمل بها دائرة المشاعر الفَعَّالة، وسواء أكان هذا الجمع في الإبداع أم كان في التمثيل.
أما في الإبداع فإن الفنان المتحقق بحقيقة الفن، إذا آمَنَ باحتشاد المشاعر الإنسانية المختلفة في كل موقف، ورأى امتزاجها فيه امتزاج عناصر الماء، وصَدَقَ نفسَه- تآلفَتْ في كل عمل من أعماله الفنونُ المتخالفة، وتَضافرَتْ على الوفاء بطبيعة المشاعر الإنسانية.
وأما التمثيل فإن المؤدِّي الحريص على انتباه المتلقين جميعا وإمتاعهم أو إقناعهم، ينبغي أن يأتيَهم من كل سبيل ويحتجَّ عليهم بكل دليل؛ فلا يقتصرَ على أمثلة بعض الفنون اللغوية دون بعض؛ فيُمِلَّ بعضا ويُنفِّر بعضا؛ فلا خير في فِقْدان مَنْ ربما حَمَلَ هو دون غيره فيما بعدُ، عبءَ الإصلاح والتنمية!
وأما الدرجة الثانية فتكامل العلوم اللغوية (الفنية [العروض، والبديع، والبيان، والمعاني، والنقد…]ØŒ والعرفية [الأصوات، والصرف، والدلالة، والنحو…])ØŒ بحثا، وتدريسا.
إنه إذا كان في العلوم اللغوية الفنية (العروض والبديع والبيان والمعاني والنقد)، ما يصف اللغة في حال حركتها، وفي العلوم اللغوية العرفية (الأصوات والصرف والدِّلالة والنحو)، ما يصف اللغة في حال ثباتها- فإن في الجمع بينها ما يكفل اتِّزان الحركة بالثبات وانطلاق الثبات بالحركة، وسواء أكان هذا الجمع في البحث أم كان في التدريس.
أما في البحث فإن الباحث المتحقق بحقيقة العلم، إذا آمن بضرورة التأصيل والتحديث والتنمية، لم يستغن عن إضافة الظواهر اللغوية الفنية المتحركة في مادة بحثه إلى الظواهر اللغوية العرفية الثابتة، ولا عن إضافة نظريات بحثهما العلمية بعضها إلى بعض في تحرير رأيه، حتى يستوعب الماضي ويتمكن من الحاضر ويتقدم إلى المستقبل.
وأما في التدريس فلا غنى بالمدرس عن عرض الظواهر اللغوية العرفية الثابتة، حتى يتعلم الطالبُ منه التحليلَ والتركيبَ والتقويمَ- ولا عن عرض الظواهر اللغوية الفنية المتحركة، حتى يتعلم الطالبُ منه التتبُّعَ والتثبُّتَ والتقبُّلَ.
وأما الدرجة الثالثة فتكامل المهارات اللغوية (الاستماع، والتحدث، والقراءة، والكتابة)، انفرادا، واجتماعا.
إنه إذا كان في المهارتين اللغويتين الشِّفاهيتين (الاستماع والتحدث)، ما يُؤلِّف بين الحاضرين ثقافةً وراحةً ومتعةً وقوةً وقدرةً وفضلًا، وفي المهارتين اللغويتين الكِتابيتين (القراءة والكتابة)، ما يُؤلِّف بين الغائبين- فإن في الجمع بينها ما يؤلف بين الناس كلهم أجمعين، المنقسمين أبدا على حاضرين وغائبين، وسواء أكان هذا الجمع بينها جميعا معا، أم كان بين بعضها دون بعض.
أما الجمع بينها جميعا ففيما يحدث كثيرا من ممارستها كلها ممارساتٍ متوازيةً؛ فربما تفاوتت درجتا ممارسة كلِّ مهارتين، فعوَّضت زيادة درجة ممارسة المهارتين الكتابيتين نقص درجة ممارسة المهارتين الشفاهيتين، والعكسُ بالعكس.
وأما الجمع بين بعضها دون بعض ففيما يحدث قليلا من موازاة ممارسة مهارة الاستماع بممارسة مهارة الكتابة، وموازاة ممارسة مهارة القراءة بممارسة مهارة التحدث؛ فليس لوجود مثل هذه الأحوال الخاصة من تفسير سوى تكامل المهارات.
وأما الدرجة الرابعة فتكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية (كل ما سبق)، انقساما، واتحادا.
إنه إذا كان في الفنون اللغوية (الغنائية والسردية والحوارية)، انطلاقٌ وارتيادٌ واقتحامٌ، وفي العلوم اللغوية (الفنية والعرفية)، متابعةٌ وتفسيرٌ وتأصيلٌ، وفي المهارات اللغوية (الشفاهية والكتابية)، توصيلٌ وتمكينٌ وتخليدٌ- فإن في الجمع بينها ما يكفل تنمية اللغة العربية، وسواء أكان هذا الجمع في وعي شخص واحد أم كان في وعي شُخوص مؤتلفين.
أما الجمع بينها في وعي شخص واحد فهو عين اليقين وأمنية المتمنِّين وينبوع التنمية؛ إذ في مَصْهَر الوعي الحقيقي العميق الواحد، تتجمع مَوادُّ التَّحْصِيل كلُّها؛ فتتضح آفاق الرؤية، وتتصل مفاصلُ الرسالة، وتستقيم مرامي الأهداف.
وأما الجمع بينها في وعي شخوص مؤتلفين فهو عين الحكمة ورجاء المضطرين ومظنة التنمية؛ إذ في ائتلاف الوُعاة المُتعدِّدين، ما يكفل بينهم تضافرَ آفاقِ الرؤية -فتتضحُ مِنْ خفاء- ومفاصلِ الرسالة -فتتصلُ مِنِ انقطاع- ومراميِ الأهداف؛ فتستقيمُ مِنِ اعوجاج.
وأما الدرجة الخامسة الأخيرة فتكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية (كل ما سبق، وكل ما سواه مما يجري مجراه)، تعاقبا وتزامنا،.
يتخيل الإنسان كل شيء ماديٍّ يريده، ثم يعمله، ولا اعتبار لما لا يريده؛ فليس مِن همِّه تخيُّلُه ولا عملُه. أما في أثناء تخيله ما يريده فاللغة من أمامه، ترتاد له المجاهل، وتؤنسه بها. وأما في أثناء عمله ما تخيله فاللغة من خلفه تقوم عليه، وتعتني به، وترعاه. فإذا وفَّاها حقها في أثناء التخيل، انتفع بها في أثناء العمل، وإلا فاجأه ما أشكل عليه فخبط في علاجه خبط عشواء؛ فأخطأ أو أصاب؛ وأحسن أو أساء.
أما تقدُّمُ اللغة في أثناء التخيل ورِيادتُها، فمن حيث يتوجَّه فيها التفكيرُ بالتعبير؛ فكُلَّما خَطَرَ تعبيرٌ أو تكوَّن خَطَرَتْ فكرةٌ أو تكوَّنت، ولا تقوم للخواطر غيرِ اللغوية قيمةٌ كبيرة مؤثرة، حتى تتحول إلى خواطر لغوية، وكأن العقل مَكْتَبِيٌّ يُفهرِس الكتبَ بكلمات وعبارات مِفتاحيَّةٍ، ثم يستغني بها عنها!
وأما عنايةُ اللغة في أثناء العمل ورِعايتُها، فمن حيث يجتمع فيها التفكير والتعبير؛ فتصير مُركَّباتهما كنموذج الصنعة الذي يضعه الصانع أمامه ليقلده، ولا يفتأ يُراجِعُه ويُقايِسُه ويُطابِقُه.
وعلى سبيل المشاركة في تثوير التكامل الطبيعي الذي في امتزاج اللغة العربية وغيرها من أَمْزاج الحياة الإنسانية، أنشأتُ موقعي الإلكتروني (mogasaqr.com)، الذي قدمتُ فيه أعمالا كثيرة جدا -وما زلت أقدم- من هذه النمط التثويري، لي ولغيري، في صَفَّين مستويين من الأبواب المختلفة المؤتلفة، التي أسأل الحق -سبحانه، وتعالى!- أن يُخلِصها لنفسه، ويتقبلها في الصالحات، آمين!

Related posts

Leave a Comment