أيام امرأة عربية في بلاد البلقان (١)، لفاطمة إبراهيم البربري

ورأيتهن يصففن شعورهن في يوم العزاء!


كانت مصففةَ الشعر الوحيدة في المدينة، على عكس ظروف المكان حيث تنتشر مصففات الشعر في كل شارع كما هو الحال مع محلات الخبز وأفران صنع الحلوى وأماكن التسوق. كانت ماهرة جدًّا. في بداية العقد الخامس من عمرها. تنتمي إلى عرق البوشناق الأصليين الذين سكنوا البوسنة والهرسك والجبل الأسود وتركيا. والبوشناق مسلمون سنة أحناف معتدلون يحبون التصوف القديم، ويعتزون بدينهم، يصومون رمضان ويُحيون ليله ويقدسون ليلة القدر، ويصلون لكن ليس جميعهم، ويذهبون للحج والعمرة، ويؤدون الزكاة، لكن قليلات من نسائهم يرتدين الحجاب، فارتداؤه في هذه المدينة وما حولها يحتاج إلى صلابة في الدين، وعزيمة لا تلين مع كل لحظة. فالعادات في هذا البلد الذي تعيش فيه المصففة “عريفة” منسقة ومبرمجة في أذهان الناس ونفوسهم، لا يحيدون عنها شعرة واحدة. فالنسوة يذهبن إلى “عريفة” لتصفيف شعورهن مرتين في الأسبوع الواحد وربما أكثر، ففرد الشعر وتغير ألوانه ضرورة في حياتهن ككي الملابس عند الخروج وأكثر، لذا تعمل “عريفة” طوال النهار في كل أيام الأسبوع، وبالكاد ترتاح في يوم عطلتها الأسبوعية. العمل بالنسبة لها مربح ومريح للنفس وإن كان متعبًا. فالكوافير الذي تعمل به يقع في حديقة منزلها الواسعة، والبلد أمان جدًّا، فهي تتركه مفتوحًا وتظل في بيتها ولا تعود إليه إلا عندما تناديها إحدى زائراتها الدائمات. محبوبة هي إلى أقصى درجة من الجميع. مكان عملها -على صغر حجمه- يسع كل الأعراق والأديان. عرفتُ هذا حين زرتُها أول مرة، فقد كانت جارتي في بيت سكنته ستة أشهر خلال أربع سنوات قضيتها في مدينة جميلة في الجبل الأسود تسمى “توز” إبّان إقامتي هناك. في أول زيارة لها تعجبت من مهارتها الفائقة في تصفيفها الشعر بكل الألوان والأشكال. وعلى الرغم من أصناف الشعور وألوانها إلا أني كنت أُكْبِرُ من ترتدى الحجاب في مدينة هذه “العريفة”.
كان كل شيء بالنسبة لي مثار دهشة وعجب، غير أن العجب الحقيقي بدأ مع أول حالة وفاة في المدينة. واعذرني أيها القارئ لانتقالي من “العريفة” إلى الخوض فيما هو ثقيل على النفس وهو “الوفاة”، غير أن ما رأيته يستحق الرصد والتسجيل.
من عجيب ما يفعل أهل هذه المدينة مع حالة الوفاة أن يجتمع الرجال والنساء في حديقة منزل المُتوفَّى لإلقاء نظرة وداعية أخيرة على الراحل. بعدها يذهب الرجال إلى المسجد لصلاة الجنازة، في حين تنشغل النسوة مع “العريفة” بتصفيف شعورهن قبل الذهاب للعزاء، وهو أمر عام في البلد ولا حرج فيه ولا خفية، فالتقليد المتبع أن يذهب نسوة البلد إلى العزاء في أناقة كاملة لا نقصان فيها من شعر الرأس إلى حذاء القديم. ولذا تحتفظ النساء في خزاناتهن بملابسهن السوداء الأنيقة المجهزة لتلك المناسبات، ثم يأتي دور “عريفة” التي تعمل على تزيين شعورهن سريعًا بالفرد وتهيئتهن حتى يظهرن في كامل أناقتهن. ولأن عدد النساء كبير ولا بد من ذهاب الجميع لتقديم العزاء فلا بد كذلك من مساعدة الكل لـ”عريفة” وتقديم العون لها في ذلك اليوم الطارئ. وعلى الرغم من أن العزاء يستمر ثلاثة أيام إلا أنه يكون مزدحمًا في يومه الأول.
عرفت مدى واقعية هذه الحقائق العجيبة بالنسبة لهذا اليوم حين سمعت بأذني عم بيرم (زوج عريفة) ذلك الرجل الطيب الذي كان يصلي جميع صلواته في المسجد وكان جارًا لنا وهو يقول لي:
– “عريفة متعبة جدًّا من يوم الخاطر”.
والخاطر عندهم هو يوم العزاء، وهو بالنسبة لها موسم الحصاد الغيبي الذي يأتي بغير حساب فيصيبها بالتعب الشديد حين تقف طوال الوقت تجهز النسوة ليذهبن إلى “الخاطر” لأداء العزاء جماعات، وما إن ينتهين من تقديم الواجب وجبر الخاطر حتى تكون “عريفة” في بيتها قد جهزت مجموعة أخرى تستعد للذهاب للخاطر. ابنتها وابنة عم ابنتها والصغيرات اللاتي لا ينبغي ذهابهن للعزاء كُنَّ يساعدنها، بينما يصطف الشبان بسياراتهم لإيصال النسوة الجاهزات سريعًا، فيبدو المكان أمام بيتي وبيتها كخلية نحل، بينما “بيرم” وأخوه يدعوان لها بالصحة والعافية هي ومن يُساعدنها.
راقبتُ هذا المشهد العجيب التي لفت انتباهي بقوة، وحين ذهبت إلى مكان ذلك “الخاطر” دخلت في دهشة أكبر. فالحزن ممنوع، والبكاء عيب، والصبر واجب، “أليس الله في الجنة”. يا إلهي ما هذا الإيمان بلا حجاب ولا كلام.
– “أليس الصبر نصف الإيمان”.. قلت ذلك لنفسي حين دخلت.
وجدت النسوة يجلسن في بيت مرتب مجهز كعادتهن، فأنا لم أرَ في حياتي بيوتًا مرتبة ليل نهار كبيوت الناس في البلقان، والواقفات فريق من المتطوعات لإعداد القهوة ولتقديمها للمعزيات، وهناك فريق الاستقبال والتوصيل إلى حديقة البيت.
اهتمام بالغ بأدق التفاصيل في رباطة جأش وثبات، وحين تُراقب أهل المتوفى تزداد عجبًا، حيث ترى سكونًا وهدوءًا يُشبه الصمت الذي تراه في المساجد، وحين تتساقط الدموع يسارع فريق المثبتات:
– “الله في الجنات”.
تلك العبارة كنت أسمعها بجميع لغاتهن في أي خاطر ذهبت إليه خلال سنوات طويلة عشتها هناك، هكذا Allah ne Ghenet. وعرفت أنهم يقصدون أن من غادرهم هو في الجنات الآن لا محالة، فَلِمَ الحزن إذن، وأن الجنات لله ومن صنع الله فهو معهم في كل حال.
إيمان صامت، ودرس عملي في الصبر. ورغم هذه العبر والدروس البالغة كنت أسرعهن دموعًا وبكاء كعادتنا نحن النساء في بلاد العرب!

(23-أغسطس 2016).

Related posts

Leave a Comment