غزة وحرب الكذب الرقمية الأولى، للدكتور سمير محمود

نشر في: السبت 28 أكتوبر 2023 – 7:45 Ù… | آخر تحديث: السبت 28 أكتوبر 2023 – 7:45 Ù…

د. سمير محمود يكتب: غزة وحرب الكذب الرقمية الأولى – بوابة الشروق (shorouknews.com)

انهار سقف الفيسبوك على رؤوس مستخدميه بينما كانت أسلحة العدو الإسرائيلي الفتاكة تدك أسقف المستشفيات والمباني السكنية فوق رؤوس قاطنيها الفلسطينيين في أوسع حرب انتقامية تشهدها غزة، بعد أثقل هزيمة يعرفها الكيان الصهيوني المحتل منذ هزيمة حرب 1973.

لم يتحمل سقف الحرية على الفيسبوك كم الكلمات والصور ومقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية التي تفضح السردية العنصرية الإسرائيلية، التي تروج على غير الحقيقة، مغالطات إسرائيل وما وصفتها بحقها في الدفاع عن النفس ضد من وصفتهم بإرهابيي المقاومة الفلسطينية ودواعش حركة المقاومة الإسلامية حماس، فقد ضاق الفضاء الأزرق بكل محتوى مؤيد للحق الفلسطيني في الأرض والعيش والحرية.

تصدعت أعمدة الفيسبوك وتهاوت تباعًا، فعمود حرية التعبير انهار مع بروز أصوات أخرى تعبر عن الحقوق التاريخية للفلسطينيين، أما عمود البث الفوري الآني فقد تصدع من أهوال مشاهد الدمار والتصفية الجسدية والفصل العنصري ومذابح الإبادة الجماعية والتهجير القسري للفلسطينيين، فتجمدت الصفحات وحجبت الحسابات، وصار الوصول للآخرين صعبًا كما تعذرت رؤية منشوراتهم، أما عمود التفاعلية الركيزة الأبرز للأنشطة الاتصالية على المنصات الرقمية، فتم قصفها بنيران صديقة أمريكية، مركزها كاليفورنيا المقر الرئيسي لشركة ميتا مالكة الفيسبوك، بعد تطبيق معايير مزدوجة ومنحازة ضد كل صوت يناصر الحق الفلسطيني في الوجود وفي الدفاع عن الأرض.

شيئًا فشيئًا صار مستخدمو الفيسبوك منذ 7 أكتوبر 2023 أشبه بجماعة تقطعت بهم السبل في الصحراء، وحل عليهم الظلام الدامس، ولم يبق أمامهم سوى إطلاق صرخات استغاثة متقطعة، يتردد صداها بوهن هنا أو هناك، وبعدها يخمد الصوت ويختفي الصدى، ويتخبط الجميع بحثًا عن مخرج للخلاص لكن دون جدوى.

(1)
قبل نحو عقدين من الزمان، حصلت هجرة جماعية للجمهور الذي قرر مقاطعة وسائل الإعلام التقليدية، فخرج مئات الملايين من الشرق والغرب، ومن شمال العالم وجنوبه، ممن ضاقوا بالصوت الحكومي المسيطر على وسائل الإعلام ووكالات الأنباء والصحف والفضائيات الرسمية، كما رفضت غالبية معتبرة سيطرة ملاك هذه الوسائل وتحكم رأس المال الخاص فيما ينشر ويبث ويذاع، فأداروا ظهورهم لأجهزة الإعلام التقليدية، وولى معظمهم وجهه شطر الإعلام الرقمي الجديد وتحديدًا منصات التواصل الاجتماعي.

ظن الجمهور وبعض الظن إثم، أنه في فضاءات حرة، ولمعت جنة الحقوق والحريات الموعودة، الأكثر تنوعًا واتساعًا لكل الأصوات بسقف حرية غير مسبوق، وسرعة فائقة في النشر والانتشار والتداول وبحيث لا تقدر أعرق الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء على مجاراتها، وببث فوري للكلمة والصورة والصوت بلا حواجز، وبتفاعلية وردود فعل لا حدود لها، ساعد على ذلك الفرقعات المدوية التي أحدثتها تلك المنصات، والتي تحولت في زمن إعلام الضجيج، إلى انتشار الوسوم والترندات لبعض الشؤون والأحداث المحلية والإقليمية والدولية، التي صارت بفعل النشر الكثيف من جانب الجمهور والكتائب الإلكترونية والذباب الإلكتروني ومزارع المحتوى قضايا رأي عام، ضاعف من سطوتها وهيمنتها انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي لمحتوى زائف لم يعد بمقدور البشر تمييزه عن ذلك الذي ينتجه الصحفيون!

(2)
المتابع لحرب الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة، يدرك أننا نعيش “بجدارة “حرب الكذب الرقمية” الأولى! يتم لعبها بشراسة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم تعزيز الأكاذيب والادعاءات الإسرائيلية بالصور والمقاطع الصوتية والمرئية المزيفة، من خلال المعلومات المضللة والمراجع والروابط التي يولدها الذكاء الاصطناعي.

ومن الواضح أن المعلومات المضللة التي يولدها الذكاء الاصطناعي في هذه “الحرب القذرة”ØŒ لا تهدف فقط إلى إرباك جزء كبير من مستخدمي المنصات الرقمية العالميين البالغ عددهم 4.8 مليار، بل التأثير عليهم. ومع هذه الحرب، أصبح صراعنا المستمر منذ عقود من أجل مصداقية وسائل الإعلام مشكلة مزدوجة: مصداقية وسائل الإعلام والسعي نحو الأصالة الرقمية!

وكلما اشتعل الصراع في غزة، عادت مواسم الكذب المتكررة، التي تمارس فيها انحيازات خوارزميات الفيسبوك، حتى راجت مجددًا رسالة وهمية، مفادها أنه يمكننا تجاوز سياسة الفيسبوك للضّبط والتّحكّم: “علق ولو بكلمة”ØŒ فمن أجل رؤية منشورات جميع الأصدقاء لابدّ من تعديل خوارزميّة الفيسبوك، لذلك قرّرت تعديلها!! نسخها ورددها الملايين بلا وعي، والسؤال هل الأمر بهذه السهولة التي تُمكن كل مستخدم من اللعب في أساس الفيسبوك؟!

وقد اكتمل إحكام الطوق على المستخدمين من الجماهير الواسعة التي آمنت بأن الحرية ليست مجرد تمثال تحلم برؤيته من نافذة الطائرة فوق سماء نيويورك، بل هي أوسع من ذلك بكثير، تتنفسها وتمارسها كل لحظة في فضاءات الفيسبوك وانستجرام وأكس أو تويتر سابقًا وبقية المنصات.

(3)
كانت الهزيمة الخاطفة المذلة للكيان الصهيوني على الأرض في 7 أكتوبر 2023، بجيشه وأجهزة استخباراته، هي الشرارة التي فضحت أكذوبة الحرية الوهمية لمنصات التواصل الاجتماعي وبخاصة الفيسبوك، المنصة التي أغلقت كل الحدود على مستخدميها وقيدت حريتهم في النشر والتفاعل، وبدأت تقصف صفحاتهم وتغلق الواحدة تلو الأخرى، كما باتت تفرض عليهم رؤية ومتابعة صفحات إعلانية تجارية وجنسية مقترحة، وحسابات تعرض كل أنواع المحتوى الذي يمكن تخيله، ما دام بعيدًا عن الصراع الدائر في غزة.

كنت أود وأتمنى أن تحدث هجرة جماهيرية عكسية إلى الصحف ووسائل الإعلام التقليدية، التي جرى تشييع جنازة معظمها قبل سنوات، وإن لم تقم قيامتها بعد، لكن يبدو أن هذا التصور مفرط في التفاؤل والمثالية، مقارنة مع الواقع الذي فضح السقوط المدوي لصحف وفضائيات ووكالات أنباء عريقة، فشلت عن جدارة في اختبار المهنية والموضوعية، وأمانة نقل ما يحدث في غزة، حيث راحت تردد وتروج للأكاذيب الإسرائيلية وتستبعد أو تحذف وتحجب كل التصريحات الكاشفة لحقيقة ما يجري من مجازر وحشية وإبادة وتصفية جماعية للفلسطينيين، أمثلة هذا السقوط تتجلى في تغطيات هيئة الإذاعة البريطانية الرسمية “بي بي سي” وكل وسائل الإعلام الأمريكية والغربية المنحازة لإسرائيل والموالية لملاكها ومعظمهم من الصهيانة!

(4)
الحقيقة التي لا شك فيها، أن الزلزال الذي تعرضت له إسرائيل جراء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر2023ØŒ أعاد فرض القضية الفلسطينية بكل قوة على المجتمع الدولي بأجهزته ومؤسساته ووسائل إعلامه، بعد أن كان قد وأد القضية وأهال عليها التراب لأكثر من 15 عامًا، من الصمت والتهميش والاستبعاد، حتى صارت الآن في صدارة المشهد العالمي، والقضية رقم واحد على خارطة كل وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، لذلك فمن الانعكاسات الفاضحة لهذا الزلزال، أن يتم خنق هذه القضية وحصارها هذه المرة على عتبات منصات التواصل الاجتماعي المشبوهة!

فكما تحاول إسرائيل أن تفرض على الفلسطينيين الان، إما التهجير القسري خارج الضفة والقطاع أو الموت والشهادة داخله، تفرض شركة ميتا Meta على مستخدمي الفيسبوك، إما قبول الحظر والحجب والمنع أو البحث عن بديل آخر.

من يحسم هذه المعركة غير المتكافئة أسلحة الكيان الصهيوني الفتاكة ضد شعب أعزل أم صمود ومقاومة الفلسطينيين حتى آخر قطرة دم؟ أسلحة الحجب والحظر والمنع والتقييد والمعايير المزدوجة للفيسبوك، أم إرادة المستخدمين؟ خوارزميات الحظر وقيود النشر أم أسلحة المقاومة والمقاطعة؟
الأيام المقبلة فيها الإجابة.. إما أن ننتظر أو ننتصر؟

Related posts

Leave a Comment