العبور العظيم (فلسفة الحرب والسلام)، في 26 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

“فحبيبة قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان
ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان”!

الحمد لله رب العالمين!
قديما كان آدم يعيش في الجنّة آمنا مطمئنّا، لكنّه لم يلبث أن أخطأ، فكان عقاب الله له هو أن ينزل إلى الأرض ويكابد ألم الحياة فيها هو وذريّته. إنّ تاريخ الإنسان على الأرض يتلخّص في عنصرين أساسييّن:
1) تاريخ الأفكار والثقافات والعقائد.
2) تاريخ الكراهية والحروب.
ولم يتفوّق أحد من سكّان هذا الوجود المعلوم على الإنسان في عراك وكراهية بني جنسه إلا حيوانًا اسمه الشيطان التسماني! قديما عاش النبي العظيم إبراهيم في العراق ثم سوريا ثم فلسطين. عاش زمنا لم يولد له أبناء، واشتاق كثيرا كثيرا لأن تكون له ذريّه، ولا جديد، وأخيرا بعد طول انتظار رزقه الله على كبر سنّه ذريّة كثيرة، فكانت عاطفته وحبه لأبنائه كبيرًا جدا فوق ما يمكن تصوّره. بارك النبي إبراهيم ذريّته، ودعا لهم بخير، ولمكانته العظيمة السامية في الملأ الأعلى أمضى الله هذه البركة، وحقق لذريّته هذا الحفظ والتكريم، لكن بشرط الصلاح وعدم البغي والظلم؛ يقول الله: “وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهن قال إنّي جاعلك للناس إماما قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين”ØŒ يقول الله: “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إنّ في ذلك لآية لقوم يعلمون”!
تزوج النبي إسرائيل أربع زوجات، وأنجب منهن جميعا اثني عشر ولدا ذكرا، كانت الغيرة والحسد والكراهية هي السمات البارزة بين الزوجات، ومن ثمّ بين الأبناء الإخوة، وقد أدّت بدورها إلى ارتكاب جريمة كبيره! عاش الأحفاد في مصر زمنا طويلا، وزاد عددهم بدرجة كبيرة. عاشوا في ظروف مختلفة بين الغنى والفقر وبين الكرامة والإهانة، لكن لم يستطع الأحفاد الاندماج والذوبان في المجتمع المصري؛ فقد ترسخ في ضمير المواطن الإسرائيلي عامّة وعلماء بني إسرائيل خاصّة أنّهم أفضل من غيرهم وأنّهم فقط دون غيرهم مُلاك الحقيقة المطلقة، وأنّهم فقط دون غيرهم من يعرفون الطريق إلى الله، ولم لا؛ فهم أحفاء الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب! خرج بنو إسرائيل من مصر إلى تيه كبير وشتات عظيم، كان -وما زال- السمة البارزة والمميّزة لتاريخهم منذ خروجهم حتى قيام الساعة، والله أعلم!
كانت الفكرة العنصريّة
والإحساس العميق والكبير بالتفوّق والسمو والرغبة الملحّة في السيطرة والهيمنة على الآخرين هي المشاعر السائدة التي يتوارثها الأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل. كانت الفكرة العنصريّة هي السبب الرئيسي في شقاء وتعاسة بني إسرائيل منذ أن كانوا إلى الآن، والسبب الرئيسي في عدم اندماجهم وانصهارهم في كل الشعوب التي كانوا يعيشون بينها! عاش بنو إسرائيل في أوروبا خاصة وفي كل دول الشتات عامة منبوذين مقهورين، ولم يكن لهم صديق دائم حتى وجدوا ضالتهم المنشودة في الإنجليز (الملائكة)؛ فكلاهما يتمتع بنفس الصفات وله نفس التطلّع والطموح من إخضاع الأمم الأخرى وجعلها عبيدا وخدما لهم! قديما استطاع اليهود اختراق الإسلام وإنشاء العقيدة الشيعيّة، وهاهم يخترقونه مرة أخرى بمعاونة المخابرات الإنجليزيّة، بإنشاء الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة وعلى رأسها جماعة حسن البنا (الإخوان المسلمون)، على نفس النمط الفكري العنصري الإسرائيلي الإنجليزي، فضلا عن دعم وإنشاء أنظمة عربيّة وإسلاميّة موالية لهم، يريدون بذلك تدمير الإسلام فكرا وعقيدة ودولة من الداخل، كما دمّروا المسيحيّة من قبل. ليس من المستغرب تطابق الرؤى والأفكار حتى المناهج والتصرفات، بين الصهيونيّة والإنجليز والمتطرفين الإسلاميّين، لأنّ هذه الفكرة العبثيّة تنتشر بين المجرمين عبر اختلاف الأمكنة والأزمنة! أنشأ الإنجليز دولة إسرائيل لأسباب عديدة، يمكن تصور بعضها فيما يأتي:
1) منع التواصل السياسي التاريخي بين مصر والشّام والحجاز.
2) الحد من طموح مصر لاسترداد الخلافة الإسلاميّة من تركيا.
3) الاحتفاظ بمفرزة متقدمة لأوروبا أو حلف الناتو، تتكوّن من قواعد عسكريّة ومستودعات أسلحة وذخائر سريّة، تمهيدا لإعادة احتلال مصر والشام عند تغير موازين القوى وشعب مقيم بصفة مستمرة يحرس هذه القواعد.
4) يُعد إنشاء دولة إسرائيل رمزا لانتصار أوروبا على الإسلام.
تخطئ المرأة في معاملة الرجل على أنه امرأة أخرى، ويخطئ الرجل عندما يظن أن المرأة تفكر وتتصرّف بأسلوب الرجل، وتخطئ أوروبا عندما تحلل شخصيّة العربي بنفس القواعد والأسس التي تحلل بها شخصيّة الغربي؛ فليست الحماقة هي فقط إنشاء دولة إسرائيل، لكن الحماقة كل الحماقة في اعتقاد البعض بقاء واستمرار هذه الدولة حتى لو امتلكت كل أسلحه الدنيا! كثيرا ما نسمع الإسرائيليّين يتكلّمون عن حق تاريخي لهم في فلسطين والقدس، هذه الفكرة ليست لإقناع العرب أو العالم بحقهم في احتلال بلادنا، بقدر ما هي في الأساس لإقناع اليهود أنفسهم ليتجمعوا ويكوّنوا دروعا بشريّة لحماية نفوذ الناتو في أرض الإسلام! إنّ المتأمّل في تاريخ إسرائيل (فكرة ونشأة ودولة)، يجد أن كلمة السر في كل ذلك هي الخيانة! لقد ساعد الخونة من العرب والمسلمين على إنشاء هذا الكيان، ودون هذه الخيانة لم يمكن قط بأي حال من الأحوال نجاح هذه الفكرة ونشأة هذه الدولة وبقاؤها إلى الآن؛ إن إنشاء دولة إسرائيل عمل مخابراتي بامتياز!
إنّ المتأمّل في نكسة يونيو 1967، لا يمكنه أن يتوقع أو يفهم هذه النتائج الكارثيّة التي أحدثها الهجوم الإسرائيلي دون كلمة السر هذه، لأنّه لو أن جنود القوات المصريّة والسوريّة جلسوا في أماكنهم فقط دون أي فذلكة عسكريّة أو أي إمداد إضافي لكانت إسرائيل فقدت نصف جنودها المهاجمة على الأقل، ولم يمكنها قطُّ البقاء أكثر من سنة واحدة في كل من سيناء والجولان، بدليل النجاحات العسكريّة الكبيرة التي حققها الجيش المصري عقب انتهاء الهجوم الإسرائيلي بدقائق! إنّها الخيانة مع الأسف الشديد! لقد كان الهدف من هذه العمليّة هو تحويل القضيّة العربيّة الأولى من تحرير فلسطين إلى تحرير سيناء والجولان.
يقول دانتي: الدنيا مسرح كبير! تولى السادات زمام القيادة، وقدّم للعالم عرضا مسرحيّا رائعا، كان هو بطله الوحيد، ولم يتسنَّ لأحد من المشاهدين طوال فتره العرض توقّع السيناريو أو استنتاج سابق للأحداث! كان السادات يعشق السياسة والرياسة والحكم، فبدا في أحلك الظروف وأقساها التي مرّت على الأمّة في سعادة وابتهاج وكأنّه فراشة ترقص حول عمود نور! كان أوّل ما قام به السادات:
1) إعادة هيكلة جهاز المخابرات، لتبدأ الحرب مخابراتيًّا.
2) التخلص من صعاليك السياسة المصريّة التي أنشأها نظام جمال عبد الناصر المريض.
3) ادّعاء قطع العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتّي، وكانت الفقرة الأولى في هذا العرض الكبير، وإلى الآن لم يستطع أحد تقريبا اكتشاف أن قطع العلاقات المصريّة السوفيتيّة لم يكن إلا خدعة ساداتيّة الإيحاء.
4) تحييد السلاح النووي الإسرائيلي، بأن استطاع السادات قبل بدء الحرب امتلاك الرد المناسب حال توجيه إسرائيل مثل هذه الضربة إلى مصر.
وبالطبع أبلغ إسرائيل بذلك ليأخذ الساسة الإسرائيليون وقتهم في التفكير قبل اتخاذ القرار؛ قال: “العمق بالعمق، والنابالم بالنابالم”!
بدأ العبور العظيم موجات من الرجال يعبرون قناة السويس التي يزيد عرضها على ثلاثمئة متر، دون استراحة يصعدون ساترا ترابيّا يزيد ارتفاعه على عشرين مترا بزاوية ميل تقترب من ثمانين درجة وهم يحملون أسلحتهم كاملة على ظهورهم أو فوق رؤوسهم أو بين أيديهم، ثم يسيرون بعد ذلك مسافات طويلة تقترب من أربعة كيلومترات أو أكثر، للسيطرة على النقاط الإسرائيليّة القويّة، وذلك كله فوق حقول الألغام وبمواجهة وابل من نيران العدو المستعد سابقا لاستقبالهم. ولم يمض وقت كثير حتى تم الاستيلاء على خط الدفاع الرئيسي للقوات الإسرائيليّة (خط بارليف)ØŒ الذي أنفق عليه الإسرائيليّون الكثير، وكأنّه “كان صرحا من خيال فهوى”! وبدت إسرائيل كامرأة كاسية تعرّى منها أثمن وأسمن وأغلى جزء فيها! كان عرضا رائعا، كان الجنود المصريّون بقيادة السادات ورفاقه يعزفون سيمفونيّة الأداء المتميّز، كان عملا مذهلا، باعثا على التأمّل، مثيرا للدهشة والإعجاب والضحك أيضا، يقول الله: “هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار”! حاول الإسرائيليّون تغيير الواقع لكنّهم كانوا كثور مذبوح، ما هي إلا مسألة وقت ليتقبّلوا الواقع الجديد! ومن الخدع الساداتيّة المخابراتيّة المثيرة الاختلاف الذي حدث بينه وبين رئيس الأركان الفريق الشاذلي، التي انطلت على الكثيرين! أراد السادات من الشاذلي أن يكون طعما لاصطياد خصومه على المستوى العربي والغربي!
كما بدأ المصريون الحرب بكفاية، استطاع الإسرائيليّون بنفس الكفاية إنهاء الحرب! تفتّق ذهن الجنرال شارون عن فكرة عبقريّة، وبمعاونة المخابرات الأمريكيّة استطاع اختراق ثغرة بين القوات المصريّة، وانطلق غير عابئ! كان الجنرال التعيس يريد أن يحتل القاهرة، ثم تواضع في طموحه إلى احتلال الإسماعيليّة، ثم أخيرا رضي باحتلال السويس، لكنّه في نهاية الأمر استقر أعلى قمّة جبل عتاقة! وجلس هو وجنوده في انتظار تدخّل العناية الإلهيّة التي ترافق بني إسرائيل أينما حلّوا! وبعد مشاورات جادة بين السادات والإدارة الأمريكيّة تم الاتفاق على كل شيء، بدءا من الإفراج عن ملك إسرائيل الأخير، مرورا بانتهاء الحرب، حتى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لسيناء وعمليّة السلام، وكل ما حدث بعد ذلك من معاهدات واتفاقات كانت أمورًا شكليّة (تحصيل حاصل)، وفرصة لأن يؤدّي السادات بعض الفقرات التي يهوى أداءها على مسرح السياسة الدولية!
السؤال الآن: ما فلسفة هذه الحرب؟
إنّ المتأمّل لحرب أكتوبر 1973، يجد نفسه أمام شبكة معقدّة من الأفكار والخطط، أنصح نفسي وكل من يفكّر في هذه العمليّة بكل جوانبها العسكري والسياسي والاقتصادي والمخابراتي والدبلوماسي، أن يرتقي فوق كل هذه الأحداث والدقائق، لأن أحداث الحرب كبيرة وكثيرة ومتشابكة ومعقّدة سترهق الذهن كثيرا جدا! لكن ماذا كان وراء هذه الحرب، وماذا كانت أهم نتائجها؟
باختصار شديد جدا للغاية، كانت مصر تدرك أنّ الإسرائيليّين في فلسطين ما هم إلا أداة الناتو (موظّفون)، بدءا من العمّة جولدا، حتى أصغر طفل فيها! قال السادات يوما إنّ 99% من أوراق اللّعبة في يد الأمريكان، وكان محقّا. كانت مصر تريد أن توقف أو تحدّ من طموح حلف الناتو في المنطقة، وكان لمصر ما أرادت، وتحقق لها ما خططت له. المشكلة الآن التي يصعب حلّها أو معالجتها حقا، هي حالة الرعب والهلع المرضي التي أصابت شعب إسرائيل في فلسطين، المشكلة الآن هي انهيار نظريّة وعقيدة التفوّق العنصري التي كان يعتنقها اليهودي عامة والإسرائيلي خاصّة؛ فكثيرا ما سأل الإسرائيلي نفسه:
1) هل تخلّي الله عنّا؟
2) لماذا لم يغرق المصرييّن في القناة كما أغرقهم في البحر من قبل؟
3) ماذا سيحدث لنا في المستقبل بعد أن تخلت عنّا العنايه الإلهيّة؟
إنّ المشكلة الأساسيّة، هي أنّ اليهود والإنجليز والمتشدّدين الإسلاميّين، تجمعهم فكرة واحدة وخطأ واحد: أما الفكرة فهي العنصريّة والشعور العميق بالتسامي والتفوّق، وأما الخطأ فهو أنّهم يعبدون الله كما يريدون، لا كما يريد؛ فلم يسأل الإسرائيليّون أنفسهم -ولو مرّة واحدة-: هل نحن حقّا يهود كما يريد الله؟ أو يهود كما نريد نحن؟
خلاصه القول أنّ الفكرة العنصرية والرغبة في السيطرة والهيمنة على العالم، ما هي إلا طموح بائس وخيال مريض ليس له أساس منطقيّ. إنّ من يعتنق الفكرة العنصريّة وتسيطر عليه الرغبة في الهيمنة على العالم، كمن يعشق امرأه ليس لها أرض أو وطن أو عنوان، أو كمن يطارد خيط دخان، والله أعلم، حفظ الله مصر والمصريين!

Related posts

Leave a Comment