الإسلام السياسي (فكرة، نشأة، دولة)، في 26 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!


لم تهدأ يوما الحرب بين الشرق ببراءته وسذاجته والغرب بوقاحته وشراسته! لقد انتصر المسلمون على اليهود في حروبهم العسكرية، ولكن استطاع اليهود تغيير إستراتيجيتهم وأسلوب حربهم، وهاجموا الإسلام من الداخل، ويمكننا القول إنّهم انتصروا على المسلمين، ودمروا دولة الإسلام من الداخل؛ فقد كان عبد الله بن سبأ نموذجًا يوضح تغلغل اليهود في الدولة الإسلامية مجتمعا وفكرا وفلسفة وحكما. لقد كانت شرعيّة الحكم في الدولة الإسلامية هي الشرعية القرشيّة عموما، ثم نشأ خلاف بين عمومية الشرعية القرشيّة وخصوصيّة الشرعيّة القرشيّة الأمويّة أو العلوية أو العلوية الفاطمية؛ فكانت الخلافة الرشيدة ثم الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية ثم الخلافة الفاطمية. أرجّح أن نشأة الإسلام السياسي الحديث ترجع إلى زمن خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى يد الخوارج تحديدا؛ فقد أخذ الصراع بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان شكلا قاسيا مؤلما أدمى قلوب المؤمنين منذ نشأته حتى الآن، ولا يمكن أن ننكر أو نتغافل عن حقيقة اشتراك طرفي النزاع ومسؤوليتهما عن ظهور الأفكار المتطرفة في العالم الإسلامي. لقد حاول أهل العراق استنساخ حالة الهجرة في التاريخ الإسلامي؛ فأقنعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالهجرة إليهم في العراق، وبعد أن تم لهم ما أرادوا خرجوا عليه، وقتلوه بحجة أنّه لا يطبق تعاليم الاسلام، ووصل بهم الأمر أن كفّروه وهو من هو! قصد الخوارج من ذلك الانحراف بشرعية الحكم في الدولة الإسلامية عن الشرعية القرشية إلى الشرعيّة الإصلاحيّة. وفي العصر التركي العثماني استمد الأتراك العثمانيون شرعيتهم في قيادة الدولة الإسلامية ابتداءً من شرعية الإنجاز (فتح القسطنطينية)، ثم سعى السلاطين العثمانيون في تأكيد شرعيتهم من خلال شرعيّة الأمر الواقع وشرعية الوصاية على الإصلاح الديني.
كان للمخابرات الإنجليزية خلال القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين دور عظيم في القضاء على خصوم الإمبراطورية الإنجليزية، أدّته بنجاح منقطع النظير؛ فها هي تحرض العرب على الانفصال عن الخلافة التركيّة العثمانيّة ومحاربتها، تعبث بالعقول الحمقاء تارة، وتشتري الذمم الخربة تارة أخرى، وتنهي الخلافة الإسلاميّة، ثم قسّمت العالم الإسلامي بينها وبين أخواتها! وبسطوع نجم “الخلافة الإنجليزيّة” أدرك عبد العزيز آل سعود أنّه وجد المعين على إنشاء دولته التي اتّسعت حتى شملت نجدًا والحجاز والأحساء، ولم يبق من جزيرة العرب إلا ما لم يمكنه أخذه. كان له ما أراد، وكان للإنجليز ومِن بعدهم الأمريكان الولاءُ والتبعيّةُ! تبنى عبد الله آل سعود ومِن بعده عبد العزيز آل سعود شرعيّة الإصلاح الديني لتكون الشرعية المؤسّسة حكم آل سعود لجزيرة العرب، فكانت الدولة السعوديّة الأولى والثانية، وبنجاح الدولة السعودية الثانية في الظهور رغب آخرون في تكرار التجربة!
تواطأ العثمانيون والإنجليز على إضعاف مصر محمد علي، حتى كان الاحتلال الإنجليزي لها نهاية القرن التاسع عشر. كان على مصر ملك فاسد، قدّم للاحتلال التسهيلات والتنازلات على حساب المصلحة الوطنية ليحمي بقاءه على العرش؛ فرسخّ الاحتلال الإنجليزي وجوده بنشر قواعده الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة في ربوع مصر. أراد الاحتلال الإنجليزي البقاء طويلا في مصر والسودان، وتحسّبا لمستجدات الأمور عمل الاحتلال على غرس بذور أنظمة سياسية موالية له؛ فكان حزب الوفد، وكانت جماعة الإخوان المسلمين! أنشا الاحتلال حزب الوفد كحزب سياسي شعبي علماني على النمط الغربي. وعمل حزب الوفد على تبني فكرة الاستقلال عن التاج البريطاني، وذلك لتحقيق السيطرة على الطموح الشعبي الساذج إلى الاستقلال عن بريطانيا واحتوائه وجعل فكرة الاستقلال لا تخرج عن إطار العبث السياسي! وأنشأ جماعة الإخوان المسلمين جماعة دينية أصوليّة تكفيريّة متشددة لاستقطاب ذوي التوجه الديني الأصولي، وقدّم لها الدعم، وسهل لها التدريب والتنظيم والانتشار؛ ذلك لضمان السيطرة على الطرف الآخر من النهر السياسي المصري! ساعد الاحتلال الإنجليزي الشاب الطموح حسن البنا على تنفيذ تصوره للحكم الجديد في مصر؛ فكوّن حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، وأدواته الدين والمال والأتباع والاعوان؛ فكانت الجماعة من حيث التنظيم كأنها نسخة شبه مطابقة لتنظيم الإخوان الماسون الإنجليزيّة اليهودّية!
مدرسه دار العلوم طلابها يثورون على الزي الأزهري (العمامة، والقفطان)ØŒ ويطالبون بتغييره إلى الحُلة الإفرنجّية والطربوش، فهل يمكن القول إنّ الفكر الغربي استطاع اختراق حصن العربيّة في القاهرة؟ تخرّج حسن البنا في مدرسه دار العلوم، ومن قبلها في مدرسة التصوف الحصافية التي فيها يخضع المريد لسلطة وهيبة الشيخ -“كالميّت بين يدي مغسّله”- كما كان يخضع المسلمون الأوائل لرسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- أو يزيد! استلهم حسن البنا من الملك عبد العزيز آل سعود فكرته -وربما خطواته- في إنشاء دولته المنشودة، فهاجر إلى شرق مصر (مدينة الإسماعيلية)ØŒ حيث لا منافس له أو معارض ولا منتقد من رجال الفكر والثقافة والدين والسياسة ممن كانت تعج بهم القاهرة وقتها -فليس في الإسماعيلية سوى معسكرات الاحتلال الإنجليزي ومخابراته النشطة المتلهّفة دائما للمتعاونين المخلصين، والعمال والفلاحين البسطاء وقليل من موظفي الدولة المتعطّشين إلى العلم والمعرفة والمخلصين لدينهم ولتاريخ أمّتهم- فأخذ يدعو إلى الإسلام، ويعلم مبادئه السمحة، ولم ينس أن يدعو أيضا إلى اتّباعه ومبايعته خليفة للمسلمين! فكان مما يقول لأتباعه: المؤمن شخص آمن بدعوتنا وصدّق بقولنا وأعجب بمبادئنا ورأى فيها خيرا اطمأنت إليه نفسه وسكن له فؤاده؛ فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا حتى يكثر به عدد المجاهدين ويعلو بصوته صوت الداعين- ليصبح التوصيف النهائي لتنظيم الإخوان المسلمين، أنه تنظيم سري عنصري مغلق يسعي للوصول إلى السلطة بأي طريقة أو وسيلة! تبنى حسن البنا وخلفاؤه من بعده المنهج الشيعي المعروف (التقيّة)ØŒ الذي يبيح لأصحابه الكذب والغش والخيانة ومخالفة ثوابت العقيدة وركائز الشريعة للوصول إلى غايتهم العظمى وهي حكم مصر! كان حسن البنا يتقمّص شخصيّة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- تارة، ويقلد شيوخ الطرق الصوفية تارة أخرى، حتى كثر أتباعه ومريدوه، ليعطي لنفسه الحق المقدّس في إمامة المسلمين. وما إن اقتربت دعوته من القاهرة حتى اصطدمت بحائط صلب من تراث ثقافي وجيش عريق وشعب ناقد فذّ، فظهرت دعوته وكأنها عبث طفولي مثير للشفقة أكثر منه للاهتمام! جمع حسن البنا في شخصه كلا من السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة الدعويّة الإصلاحيّة، وكوّن داخل جماعته فريق اغتيالات للتخلص من المعارضين المزعجين! كانت الظروف كلها مهيّأة أمام حسن البنا؛ فالقوة العسكرية في يد الإنجليز المرحّبين به الداعمين له، والملك فاسد ضعيف تضاءلت شعبيته بعد اعتناق أمّه الملكة نازلي المسيحيّة وزواج أخته من شاب مسيحي، والساحة السياسيّة والثقافيّة في القاهرة مليئة بالصراعات والانقسامات؛ فالأحزاب مشغولة بمهاجمة القصر تارة ونفاق الإنجليز واستجدائهم تارة أخرى، والشباب تائه يبحث عن قائد ملهم! لم يكن من الممكن أن يقبل المثقّفون المصريّون بهذا العبث (تنظيم الإخوان المسلمين)ØŒ اللّهم إلا هذه الفئة من البسطاء والمحدودي الثقافة والمنتفعين، هؤلاء فقط هم الذين يقبلون بالالتحاق بهذا التنظيم! وطبقا لما هو وارد في كتابات حسن البنا ورسائله كان ينوي إقامه دولة مركزية هرمية شموليّة سلطويّة عنصريّة، مع إلغاء الأحزاب وتوجيه المجتمع تجاه تحقيق طموحه الخارجي (الخلافة الإسلاميّة)! لم يؤمن حسن البنا ولا أحد من أتباعه بشرعيّة الانتخاب وتداول السلطة، ولا بشرعيّه الحاكم الأصلح والأقدر؛ فهم يوهمون أنفسهم بأنهم هم فقط حراس العقيدة، ولهم ميراث النبّوة، ولا يحق لأحد أن ينازعهم فيه! والمستغرب في الأمر أنهم ليسوا أهل حكم أو علم وفكر أو سياسة؛ فلم يكن حسن البنا مفكرا مثل جمال الدين الأفغاني أو الشيخ محمد عبده! زعم المفكر عباس العقاد أن حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي منحدر من أصول يهوديّة مغربيّة؛ من حيث لقب الساعاتي لقب مهنة، ومهنة الساعاتي كانت مقصورة عندئذ على اليهود!
اعتمد حسن البنا في إنشاء تنظيمه على ثلاث تجارب سياسية:
الأولى التجربة الماسونيّة
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين انتشرت في مصر المحافل الماسونية؛ فربما تأثّر حسن البنا بالتنظيم الماسوني العالمي، يظهر ذلك جليا في تنظيم كوادر الاخوان ورتبهم ودرجاتهم داخل تنظيمهم الشبه العسكري، وفي قسم البيعة والولاء الشديد للفكرة والتضحية من أجلها والتآمر على الدولة والنظام الحاكم فيها أيا كان، والشعور العام لدى أفراد الجماعة بالاستقلال والخروج على الدولة ومعاداتها؛ فقد ترسّخ في أذهان أتباع حسن البنا أنهم المحتكرون للعلم والخطاب الإسلامي على رغم سذاجة مستواهم الثقافي والفكري، وأنهم الوحيدون دون غيرهم رسل الإسلام، وأن علماء مصر هم علماء السلطان، يجب عدم الوثوق بهم! واتهموا كل الأنظمة الحاكمة بالكفر والإلحاد حتى يسوِّغوا الانقلاب عليهم! ويظهر أيضا في البعد العالمي في أدبياتهم (أستاذية العالم)، ومحاولتهم التشبّه باليهود في تاريخهم، وتنمية الإحساس بالاضطهاد وعداء المجتمع، وفي السريّة والغموض والتقوقع على الذات! ولم يقتصر نفوذ الجماعة على مصر، بل انتشر وامتدّ إلى جميع الدول التي أمكن للاحتلال تقديم دعمه وعونه لها فيها!
الثانية التجربة السعودية
خرج عبد الله آل سعود على الخلافة العثمانية، وأسس دولته شرق جزيرة العرب؛ فأمر الخليفة العثماني واليه على مصر محمد علي باشا بالقضاء عليه، فكان له ما أراد. كان تبني ابن سعود لفكرة الإصلاح الديني وتجديد الالتزام بتعاليم الإسلام لشعب الجزيرة، هو الفكرة المؤسّسة المعلنة، وأساس شرعية الفاتح الجديد ودولته الجديدة. واستعان بالشيخ محمد بن عبد الوهاب رمزًا للفكرة الإصلاحية وواجهة. لكن حسن البنا تفوق على ابن سعود، فتبني دور محمد بن عبد الوهاب مصلحًا ومجددًا دينيًّا ودور ابن سعود قائدًا سياسيًّا وحاصدًا لغنيمة الإصلاح الديني كليهما!
الثالثة التجربة التركية العثماني (الإنكشاريّة)
أراد حسن البنا أن ينشئ جيشا من الشباب المخلص المتفاني له المؤمن به؛ فكان لزاما عليه أن ينتقي منتسبي الجماعة من بين الأطفال ولاسيما من الأحياء والقرى الفقيرة، ليتم غرس مبادئ الفكر الديني والتنظيمي لأعضاء الجماعة من الصغر، والتي من أهمها “أنت لا شيء دون الجماعة، والجماعة دونك لا ينقصها شيء”!
الاعتماد على دعم أجنبي
كانت مصر طوال حياة حسن البنا تحت حكم الاحتلال الانجليزي، فنشأ تنظيم الإخوان المسلمين تحت سمع وبصر ورعاية وعناية ودعم المخابرات الإنجليزية؛ فلا عجب أن نجد أن المؤسّسين الأوائل للتنظيم كانوا عمّالا في معسكرات جيش الاحتلال الإنجليزي بالإسماعيليّة. كان دور المخابرات الإنجليزيّة النشط جدا في العالم الاسلامي مبعث ثقة واطمئنان للشاب الطموح حسن البنا، وفرصة سانحة لكل منهما في معاونة الآخر، مما أشعره أثناء عمله الدعوي السياسي بالقوة التي بدت في أسلوب تعاليه على ملك مصر والسودان فاروق الأول! كانت معاونة المخابرات الإنجليزيّة قديما ثم المخابرات الأمريكيّة حديثا أساس بقاء الجماعة واستمرارها؛ فقد أراد الشاب الطموح حسن البنا الوصول إلى السلطة، وأراد الإنجليز -وكذلك الأمريكان- نظاما سياسيّا عميلا. مع الأسف راقت تجربة حسن البنا لكثير من الطموحين خارج إطار الجماعة؛ فكانت التنظيمات الجهاديّة (التكفير والهجرة)، والجماعة الإسلامية وكل التنظيمات التي تتخذ من الدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية شرعية للوثوب على السلطة؛ فمن عباءة حسن البنا فكرا أو تنظيما خرجت كل التنظيمات الإرهابيّة التكفيريّة في العالم كله؛ فلم تعد مصيبة مصر والعالم الاسلامي منحصرة في تنظيم الإخوان المسلمين؛ فها هو تنظيم القاعدة يشقي العالم الاسلامي كله بنزواته وحماقاته! بدت جماعة الإخوان المسلمين للشعب المصري تنظيمًا عصابيًّا إجراميًّا لا يعنى إلا بالوصول إلى السلطة والتشبّث بها، ولا يعنيه الوطن في شيء، يستهين بترابه وشبابه وتاريخه وثروته وكأنها عمل غير صالح! لقد آذى حسن البنا مصر كما لم يؤذها أحد من قبل؛ فسامحه الله إن كان مسلما، وإن كان غير ذلك يكفيه ذلك!
إن المشكلة ليست في الطموح إلى عودة الوحدة الإسلامية في أي شكل حتى الخلافة الإسلامية، لكنها في القناعة المتواصلة عبر السنين لدى حسن البنا وأتباعه من بعده أنهم هم حراس العقيدة والمتحدثون باسم الإسلام، وليس بمسلم من لم يبايع حسن البنا أو خليفته، وأن الخلافة حقهم وميراثهم، مما جعل الفرد بتنظيم الاخوان يعاني من جنون العظمة! المشكلة تكمن في قناعة بعض الناس بأن له الحق المقدس في زعامة المسلمين عامة والمصريين خاصة! لم يستطع الكثيرون من المسلمين أن يفرقوا بين قيادة ورئاسة وإمارة رسول الله للمسلمين التي تستند على الحق المقدس والتنصيب الإلهي له، وباقي الحكّام والولاة الذين ينصبهم الناس ويعزلونهم كما علمنا رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وصاحباه الشيخان أبو بكر وعمر! ألم يقل الرجل الصالح الأمير عمر بن الخطاب: لو أنّي أعلم أحدا من الناس أقدر مني على هذا الأمر لوليته؟ فالولاية ليست حكرا على فئة، أو حقا مقدسا لأحد من الناس أو لطائفة من الطوائف، وهي كذلك ليست إرثا متوارثا، بل هي أمانة وتكليف، يكلف بها القوي الأمين القادر على تحقيق العدل وسيادة القانون والمحافظة على الدولة وتماسكها.
تنبأ حسن البنا لأتباعه أنهم سوف يلاقون من قومهم الأذى والإهانة، مما جعل الفرد بتنظيم الإخوان يمتلئ صدره بمشاعر التحفز والكراهية؛ فإذا اصطدم بالمجتمع فإنه يأخذ موقف المهاجم للحفاظ عن المكانة المقدسة الموهومة التي وهبه إياها أستاذه حسن البنا!
إن تاريخ الإخوان يتلخص في جمع الأموال ومهاجمة الأنظمة الحاكمة والمجتمع، مما أدى إلى ترسخ مشاعر الكراهية في نفسه تجاه الدولة بمؤسساتها وتجاه المجتمع بجميع أطيافه، والتي أصبحت الآن هي العامل الرئيسي لبقاء الجماعة وتماسكها! لم تكن المشكلة قطُّ في سيد قطب نفسه، لم تكن المشكلة قطُّ في مؤلفاته أو توجهاته الفكرية والنفسية أو طموحاته السياسية، ولكنّي أرى أنّ المشكلة الكبرى تكمن في فلسفة جماعة الإخوان المسلمين، هذه الجماعة التي أسّست ونظّرت وأحلّت الإرهاب والخروج على الدولة! لقد كانت الجماعة فكرا ونشأة جاذبة لكل الشخصيات المعقّدة السوداويّة الكارهة لنفسها والحاقدة على المجتمع والمتعطشة للسلطة والشهرة والزعامة؛ لذا تجد أن كل من انطبقت فيه هذه الشروط عضو بارز في الجماعة، حتى لو كان حديث الالتحاق بها! ونلحظ أنّ كل أعضاء الجماعة من العلماء الأسوياء سارعوا بتركها والابتعاد عنها والتبرؤ منها فور تأكدهم من أن جماعة الإخوان المسلمين ما هي إلا تنظيم عنصري سادي لا يهدف إلا إلى الوصول إلى السلطة وقهر معارضيه، ويسعى للسلطان من وراء القرآن؛ فلقيت الجماعة من السلطات والمجتمع كل نفور وازدراء! لقد كانت أفكار حسن البنا مزيجًا من الهرطقة الفكريّة والانتهازيّة السياسيّة، مع قليل من تعاليم الإسلام التي حددت واختيرت بعنايه، بحيث لا يكون فيها ما يمكن أن يعارض تعاليم حسن البنا! ولم يكن من الممكن أن يتقبل المصريون هذا العبث، اللّهم إلا تلك الفئة من السذّج والمحدودي الثقافة!
ربما كان القصر قد احتاج إلى دعم الإخوان المسلمين لمواجهة خصومه السياسيّين -لكن فور أن خرجت الجماعة عن الخط المرسوم لها قتل حسن البنا!- وربما كان السادات قد احتاج إلى تنظيم الإخوان لمواجهة بقايا نظام جمال عبد الناصر، وربما كان حسني مبارك يدعم الإخوان ويسمح لهم بالنمو لدعم فكرة توريث السلطة، وربما كان الدعم الأمريكي لهم نظير خدمات يؤدونها للدولة الأمريكية قبل وصولهم للسلطة وبعده، والحقيقة التي لم يكن يتوقعها أحد أنّ تنظيم الاخوان المسلمين كان ضعيفا هشّا بدرجة تجعله لا يستطيع مواجهة الواقع المصري، ناهيك عن ترويضه أو تطويعه؛ فكان السقوط أسرع مما تخيّل أحد في العالم لا في مصر وحدها! كان يجب أن يبقي فكر حسن البنا لا تنظيمه فقط بعيدا عن الاصطدام بالقاهرة فكرا ومفكرين وثقافة ومثقفين وشعبا ومؤسسات!
إن تاريخ الإخوان من منذ إخوان عبد العزيز آل سعود حتى إخوان حسن البنا، هو تاريخ من التكبّر والنزق والغشم والاندفاع، لكن كون الجزيرة العربية وقت عبد العزيز آل سعود مجتمعات بدائية انعزالية متفرقة أدّى إلى نجاح آل سعود في إنشاء دولتهم، لكن الأمر في مصر مختلف؛ فمصر بعلمائها ومفكريها كانت أكبر من الالتفات إلى هذا الغلام الذي نادى لنفسه بخلافة المسلمين!
خلاصه القول في فلسفة جماعة الإخوان المسلمين أنها تنظيم سري عنصري أخطبوطي مغلق، أسسه الأستاذ حسن البنا، ليكون أشبه بتنظيم البنّائين الماسوني؛ فيسعى إلى السلطة بأي طريقة ووسيلة! أرى أن الإخوان كمن “خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا”: فأما العمل الصالح فهو نشر الأخلاق الحسنة والفضيلة وتعريف الناس بالإسلام وتبسيط الشريعة للأفهام (تبسيط الفقه) وإعادة التراث الإسلامي للمسلمين في أحاديثهم ومعاملاتهم حتى أزيائهم واحتفالاتهم بعد أن كاد التغريب يفني الإسلام من عقول وقلوب المسلمين. ولكن لمّا كثر أعضاء جماعتهم ظهر عملهم السيئ المتمثل في الاشتغال بالعمل السياسي بحماقة، أي بنفس القواعد والمنطق والأسلوب الغربي الملحد من كذب وخداع ومداراة وغش. وقد تبنوا المنهج الشيعي المعروف بالتقيّة، الذي يبيح لأصحابه الكذب والغش والخيانة ومخالفة ثوابت العقيدة وركائز الشريعة للوصول إلى غايتهم العظمى (حكم مصر)! لم يهتم قادة الإخوان كما هو مفروض وواجب على المسلم، بمعاونة قيادة الدولة وبذل النصح والإرشاد لها بلين وصبر ودأب، لكنّهم أخذوا بمواجهة ومحاربة الأنظمة وفضحها -وربما اتهموها بالباطل- مما جعل هذه الأنظمة التقليديّة في تفكيرها تتخذ الإخوان أعداء لها لا إضافة وعونا! انتهج الإخوان برنامج عمل وأهدافًا سياسية خاصة بهم بمعزل عن التوجه العام للدولة (مشروعًا إسلاميًّا عالميًّا)ØŒ مما أربك القيادة السياسية، وجعلها تزايد عليهم في مجالات منافسة أخرى لجذب المؤيدين، كقومية عبد الناصر العربية، واستغراق السادات في المحلية، واستغراب لمبارك؛ فاشتغلت مصر باهتمامات أخرى عن المصلحة الوطنية! ولأن الجميع تقريبا لا يفهم أن فلسفة الحكم في مصر أنه نظام هرمي بيروقراطي عسكري تزاوجت فيه سلطة الدولة وسلطة المجتمع، أي لا يمكن وجود مشروعين سياسيين أو فكرتين تنمويتين أو توجهين طموحين أو قمّتين للسلطة أو ولاءين في الدولة في الوقت نفسه، تبدو الجماعة للمتأمل شبه دوله وشبه عسكريّة وشبه دعوّية وشبه خدميّة اجتماعية وشبه حزب سياسي! ترددت الجماعة بين امتهان السياسة والعمل على تحقيق الشريعة؛ فلا هي نجحت في العمل السياسي، ولا هي تفرغت لتحقيق الشريعة ونشر الفضيلة! عمل قادة الجماعة على ترسيخ الشعور العام لدى أفرادها بالاستقلال والخروج على الدولة -وربما عادَوها أحيانا- ورسخوا في أذهان أفرادها -وربما باقي أطياف الشعب- أنهم محتكرون العلم والخطاب الإسلامي، وأنهم رسل الاسلام الوحيدون دون غيرهم، وأن علماء مصر ما هم إلا علماء السلطان، يجب ألا نثق بهم! واتهموا كل الأنظمة الحاكمة بالكفر والإلحاد حتى يجدوا المسوغ النفسي والشعبي للانقلاب على الدولة! أخذ المرشد قائد الجماعة من أتباعه البيعة بالولاء والإخلاص له دون الدولة خليفة للمسلمين؛ فنشأت معضلة الولاء للدولة مع الولاء للجماعة، ولأنه لا يمكن أن يجتمع ولاءان متعارضان في قلب مصري تعمّقت الغربة وعدم القدرة على التفاهم والتناغم والاتساق بين الجماعة وكل الأنظمة التي مرت بها، وبينها وبين المثقف العادي، مما جعل من محاربتها قدر كل حاكم الذي لا يجد صعوبة في إقناع الشعب به، وأصبحت الجماعة منذ أن أنشأها حسن البنا -سامحه الله!- شوكة في ظهر مصر، وأصبح لزاما على السلطة خاصة والشعب عامة الاختيار بين الجماعة ومصر؛ عسى الله أن يتوب علينا وعليهم، ويحفظ مصر والمصريين!

Related posts

Leave a Comment