الخلافة الإسلامية (قصّة البحث عن الشرعيّة)، ما بعد انقطاع الوحي، في 24 أبريل 2016 (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!
كان رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- يطوف علي قبائل العرب في المواسم والأسواق، يعرض عليهم نفسه ودعوته، يطلب منهم حمايته ونصرته حتي يبلّغ عن الله رسالته، فكان بعضهم يشترط عليه أن يكون لهم الأمر من بعده، يعنون خلافته في الملك، لكنّه كان يأبى عليهم. فور وفاة النبي سعى المسلمون في المدينة لاختيار خليفة له، وحاول الأنصار من أهل المدينة خلافة رسول الله، لكن جموع المسلمين اتفقوا على تولية أبي بكر الصديق صاحب النبي ورفيق دربه. يروى أنه اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يتشاورون فيمن يخلف رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-فانطلق المهاجرون وعلى رأسهم أبو بكر وعمر ليتداركوا الأمر، فقام خطيب الأنصار، وقال: نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين ورهط نبيّنا، تريدون أن تخذلونا من أصلنا وتحصنونا من الأمر، فلمّا سكت تقدم أبو بكر، فقال: فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر (خلافة النبي)، إلاّ لهذا الحي من قريش؛ هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، فأخذ بيد عمر بن الخطاب، ويد أبي عبيدة بن الجراح، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب (يعني داهيتها)، منّا أمير و منكم أمير، فكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات، حتى خُشي الاختلاف، فقال عمر: يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر نبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السبّاق المسن، يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيّكم تطيب نفسه أن يتقدم أبو بكر! ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار.

إنّ أحداث سقيفة بني ساعدة تشير إلى الآتي:
1) لم يحدد رسول الله أحدًا من المسلمين لخلافته. وكل ما يدّعيه البعض من استخلاف رسول لأبي بكر أو لعلي بن أبي طالب، هو محض كذب، ولم تكن أكثر من إشارات أو تلميحات من رسول الله يفهمها ويفسرها كل طرف على هواه.
2) لم يكن أبو بكر أو عمر أو علي حتى أبو عبيدة بن الجراح، على قائمة اختيارات المسلمين في السقيفة أصلًا، ولكنهم كانوا يتشاورون في تولية أنصاري قيل إنه سعد بن عبادة
3) إن نقاشًا تشاوريًّا منطقيًّا حرًّا قد جرى بين أصحاب رسول الله مهاجرين وأنصارًا، لاختيار خليفة لرسول الله، وإنه قد جرى بصورة طبيعية دون إرهاب أو إجبار من طرف لآخر، وكل طرف أدلى بدلوه فيه.
4) إن تولية أبي بكر زمام الأمور كانت عن قناعة جميع الحاضرين بأحقيته في خلافة رسول الله، وإن لم يكن برغبة الجميع.
تولى أبو بكر، وقام في الناس خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أيها الناس إنّما أنا مثلكم، وإنّي لا أدري لعلكم تكلّفوني ما كان رسول الله يطيق! إن الله اصطفي محمدًا على العالمين، وعصمه من الآفات؛ فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوّموني، وإنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، وإن رسول الله قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح، فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال؛ فإن قومًا نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم بعدهم؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم! الجد الجد، النجاة النجاة، الوحا الوحا؛ فإن وراءكم طالبًا حثيثًا وأجلًا أمره سريع! احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات!
لقد أكد الصديق في خطاب توليه الآتي:
1) أنه مواطن عادي، ليس له من القداسة أو العظمة ما كان لرسول الله،
وأنه يجب عليهم كمواطنين في الدولة، دعمه ومساندته، وألا يتوقعوا منه أمورًا خارقة للطبيعة كما كان لرسول الله.
2) أن دولة الإسلام سوف تتحول من دولة قانون يرشدها ويهديها الوحي من السماء، إلى دولة قانون ينظّمها ويديرها بشر عاديون يصيبون ويخطئون ويولَّوْن ويعزلون.
3) المعاني الإسلامية الثابتة بأن الموت قدر مقدور، وأنه يجب علي الإنسان في حياته إنجاز أقصى ما يمكنه من أعمال صالحة، لأن الحياة قصيرة، والموت يأتي فجأة.
الصدّيق أبو بكر (ذو الكفل)
لكأنّي أرى الصدّيق صبيّا يلهو في أزقة مكة، وقد اختار الأمين صاحبا، قيل في الأثر: الأرواح جنود مجنّدة، ما تشابه منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف. كان الصدّيق رجلا خبيرًا بالدنيا وأحوالها؛ فقد امتهن التجارة، فعرف الأسفار والأخبار والأشعار والمناقب والملاحم والأنساب، وخبر السياسة واٍدارة المواقف الصعبة وقيادة الرجال؛ فكان له المنطق السليم والفهم الجيّد والرؤية الثاقبة، وكان في نفسه تواضع وتبسّط جعلا منه صديق الضعفاء ومنقذ الأرقّاء. وقد أخبرنا رسول الله أنه لم يعرض أمر النبوة على أحد من الناس إلا كان منه تردد إلا أبا بكر.
كان الصدّيق رجلًا حديدًا، وكان على إثر رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وكانت فلسفته في الملك الأسوة الحسنة؛ فقد كان يتأسّى برسول الله في كل شيء، حتى لكأنّي أراه في طرقات المدينة يتحسس خطا رسول الله، لا يتعداها. وما كان إنفاذه لجيش أسامه إلا إلهاما من إلهامات النبوّة. يروى أنّه لما توفي رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- نجم النفاق وارتد من ارتد من أحياء جزيرة العرب، وامتنع ناس من أداء الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد غير مكة والمدينة؛ فأشار كثير من الناس على أبي بكر منهم عمر بن الخطاب، ألّا يُنفِذ جيش أسامة، لاحتياجهم إليه فيما هو أهم، فامتنع الصديق عن ذلك، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطّير تخطّفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب تخطّفت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت جيش أسامه! كلمة لا يستطيعها أحد إلا أبا بكر؛ فكان خروجه من أكبر المصالح، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم وقالوا ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منَعة شديدة، وأشار البعض على عمر بن الخطاب أن يطلب من أبي بكر تغيير أمير الجيش أسامه (17 سنة)، بأمير آخر ، فأخذ أبو بكر بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمك، يا أبن الخطاب! أؤمّر غير أمير رسول الله! روي أنه لما ارتدّت أحياء الأعراب، انحازوا إلى مسيلمة الكذاب، وطليحه الأسديّ، وجعلت وفود العرب تقدم على المدينة، يفاوضون الصدّيق ، يقرون بالصلاة و يمتنعون من أداء الزكاة، فأبى عليهم، ووقف موقفا مشهودًا، وقال: والله لن أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم، مؤكدًا أنّه لن يستهل حكمه إلًا من حيث انتهى النبي، فعرف الناس من الصدّيق الثبات على الحق. ولما استراح أسامة وجنده وجاءت صدقات كثيرة، عقد الصديق أحد عشر لواء دفعة واحدة، وغلبت جيوش الصديق كل من عاداها. لقد ظنّت الأعراب أن الصدّيق رجل هيّن ليّن ضعيف، وسيضطر إلى مهادنتهم وقبول شروطهم، ولن يلبثوا أن يتعبون حتى تنقرض الدعوة المحمدية وتتلاشى الدولة كما تلاشت سابقاتها، لكن ما حدث غير ذلك؛ فقد قيّض الله للإسلام رجلا؛ لقد كان الصدّيق بحق رجلًا حديدًا!
قراءة في حروب الردة
لقد كانت أمة العرب شراذم (همجًا)، قليلي الخير والفضل، وكان لزاما أن ينهض لهذه الأمة من يجمعها كما حدث لأمم أخرى، لكن لم يكن من السهل على الأعراب الهائمين على وجوههم بصحراء جزيرتهم كالإبل الغراب، أن يجدوا أنفسهم على حين غرة منهم مقيّدين بنظام ودولة وقانون. لقد أبى عليهم كبرياؤهم أن ينصاعوا لمحمد في المدينة، وإن كانوا قد اضطروا إلى ذلك ودخلوا ضمن دولته، فقد جاءتهم الفرصة سانحة بعد وفاته ليتحلّلوا من هذه التبعية! كل هذا العبث كان مكنونا في قلوب أعداء الدولة العربية الإسلامية، وتفجّر بعنف بعيد وفاة النبيّ محمد، لكنّه كان مختلفًا في درجات حدّته؛ فمنهم من رفض دفع الضرائب (الزكاة)، ومنهم من طلب إلغاء الصلاة والتي كانت أكبر مظاهر التطور الثقافي الذي أحدثه الاسلام ليوحد شعب الجزيرة الممزّق! ظهر الصدّيق أبو بكر -رضي الله عنه!- رجل قانون أكثر منه رجل سياسة، وعالج الموقف على أنه خروج على القانون وتحدٍّ لسيادة الدولة، وكأني أنظر إلى عيون أصحاب رسول الله وهي تحدّق في الصديّق وهو يثور على المرتدّين بثقة وقوة وثبات نادر، كأنه سيد هذا العالم؛ فإما أن الرجل لا يدرك حقيقة الموقف الصعب الذي هو فيه سياسيا واقتصاديا وعسكريّا، وإما أنه يري أبعد وأعمق وأوضح مما يرونه. كان الصدّيق تكلم رجاله بحدة وثبات رجل يرى المستقبل ولا يخشي عواقب الأمور و لا يهاب الخطأ أو الفشل، وكأنّه كان يصنع التاريخ كما يريد. لم يكن أمام أصحاب النبي إلا أن يطيعوا أوامره بحذافيرها، لأنّ الموقف كان غاية في الالتباس، وكأنّ عقل الصدّيق وحده هو الذي كان يعرف طريق الخروج من الأزمة منتصرا وأكثر قوة.
الصدّيق أبو بكر (دولة الإسلام القوية)
كان لزامًا على الدّولة الإسلاميّة الناشئة، أن تضمن لنفسها حدودًا آمنة، وأن تقول كلمة فصل في جارتيها فارس و الروم. لمّا فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصدّيق أن يسير إلى العراق، وشرع أبو بكر يجهز السرايا والجيوش لإمداد خالد.
بعث خالد كتابًا إلى أمراء كسرى:
من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس، سلام على من اتبع الهدى! أما بعد؛ فالحمد لله الذي فضّ خدمكم وسلب ملككم ووهّن كيدكم! إن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا؛ فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إليّ بالرّهن واعتقدوا مني الذمّة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثنّ إليكم قوما يحبّون الموت كما تحبون أنتم الحياة!
فلما قرأوا الكتاب أخذوا يتعجّبون، فجمع هرمز (نائب كسرى)، جموعًا كثيرة وسار بهم إلى كاظمة، وقد ربط الجيش في السلاسل لئلاّ يفروا! طلب خالد من الصدّيق المدد فأرسل له رجلًا (القعقاع بن عمر)! قاتل المسلمون، وانهزم الفُرس، وغنم المسلمون متاعهم، وبعث خالد بالفتح والبشارة والخُمس (خمس الغنائم)، إلى أبي بكر. قاتل خالد الفرس في موقعة المذار والولجة وأليس والأنبار وعين التمر ودومة الجندل والحصيد والفراض ومواقع أخرى كثيره تعز عن الحصر؛ قال الصديق: يا معشر قريش، إن أسدكم قد عدا على الأسد، فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد!
أراد الصدّيق أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الأمراء من أماكن متفرقة من جزيرة العرب، ولما اجتمع من الجيوش ما أراد قام فيهم خطيبا، فقال: ألا إن لكل أمر جوامع فمن بلغها فهي حسبه ومن عمل لله كفاه الله، وعليكم بالقصد فإن القصد أبلغ! ألا إنّه لا دين لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا خشية له، ولا عمل لمن لا نيّة له. ألا وإنّ كتاب الله فيه من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخصّ به، هي النجاة التي دلّ الله عليها، إذ نجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة.
ولما توجّهت الجيوش إلى اليرموك بعث هرقل مئتين وأربعين ألفا، فبعث الصحابة إلى الصدّيق يستمدونه، فكتب الصديق إلى خالد بن الوليد، أن يستنيب على العراق ويقفل بمن معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير! واشتبك الفريقان، وحمل الروم على المسلمين فكشفوهم، ثم حمل خالد بالخيل على الروم وزحف عليهم! قُتل منهم مئة وعشرون ألفا، ومن المسلمين ثلاثة آلاف (وغلبت الروم)! وقدم البريد إلى خالد بأن الصدّيق قد توفي، واستخلف عمر بن الخطاب. عزل عمر خالد بن الوليد خشية أن يفتتن به الناس ويقدسوه لكثرة انتصاراته، وأمّر أبا عبيدة عامر بن الجراح، ثم نودي بالرحيل إلى دمشق.
لقد أنجز الصدّيق -رضي الله عنه!- بعظيم همته وثباته ورسوخه ويقينه بالحق، في شهور ما لم تنجزه أمم أخرى في عشرات السنين، ولم لا؛ فقد قال الله له من قبل: “لا تحزن”! ولم يمنعه ذلك من الخوف من الله والوجل والحذر! كان الصديّق للإسلام كذي الكفل، الذي تكفّل بإتمام ما بدأه النبي؛ فإن كان النبي محمد قد أكمل الله به الدين ونشر به الدعوة فقد رسّخ الله بالصدّيق أركان الدولة وثبت به دعائم الشريعة؛ رحم الله الصدّيق أبا بكر، ورضي عنه؛ لقد كان بحق رجلا حديدًا!
عمر (صانع الحضارة)
لم يحدد رسول الله للمسلمين آلية معينة لانتقال السلطة من حاكم سلف إلى حاكم يخلف، لكنّه أكّد وجوب صلاح الحكام، واشترط الكفاية والمهارة والقدرة على إدارة شؤون الدولة، وذلك في شخص الحاكم والهيئة المعاونة له، وألا يكون الحكم ملكا عضوضا متوارثا، كما أوجب احترام الحاكم القوي الأمين وطاعته ولو كان هذا الحاكم عبدًا رقيقًا، في سابقة إنسانية لم يعرفها تاريخ البشرية المعلوم سياسيًّا وعسكريًّا وإداريًّا من قبل! لقد كانت للصدّيق أبي بكر المكانة الأسمى في قلوب وعقول المسلمين؛ فتاريخ الصدّيق وجهاده اللّصيق برسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- في تبليغ الدعوة وإنشاء الدولة ثم مواقفه العظيمة المحوريّة في تاريخ الإسلام دينا ودولة، جعلته محلًّا للثقة الشديدة لدى عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إنه لو أمرهم بمبايعة عمر بن الخطاب لأطاعه الجميع وإن كانوا كارهين أو متخوّفين حياء من رد كلمة الرجل الصالح الثقة أبي بكر!
استخلف أبو بكر صاحبه عمر بن الخطاب من بعده، فاستقرت بولايته شرعية الخلافة الإسلاميّة العربيّة القرشيّة، أساسًا للحكم في الدولة الإسلاميّة. كان الصدّيق يخشى تنازع الأقران والأنداد على الخلافة -فهو برجاحة عقله وحكمته المشهودة المشهورة، لا يمكن أن تخفى عنه مثل هذه الأمور- فقرر أن يستقر الحكم من بعده لرجل صالح قوي أمين محل ثقه الجميع -وإن لم يكن محل ترحيب من الجميع- واستخلف الصدّيق صاحبه عمر بن الخطاب! العجيب من أمر الشيخين أبي بكر وعمر، أنهما كلاهما تحوّلت شخصيته تحوّلا جذريّا وتبدلت بعد توليه الخلافة؛ فقد عرف الصدّيق قبل الخلافة برقته ووداعته وسماحته ولين طبعه، فما أن ولي أمر المسلمين وخرجت عليه الحركات الانفصالية، حتى بدا رجلًا آخر لم يعرفه المسلمون من قبل، من الحزم والحسم والشدّة التي واجه بها الانفصاليّين. وكان عمر بن الخطاب مشهورًا بين الناس بحدّته وشدّته في الحق واندفاعه فيه، وما أن ولي أمور الخلافة حتى بدا الجانب الليّن الهيّن السهل من طباعه للفقراء وأصحاب الحاجات!
بعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- إلى سعد بن أبي وقاص بالمبادرة إلى القادسيّة، ونصحه بقوله: بادرهم بالضرب والشدة، ولا يهولنّك كثرة عددهم وعدتهم؛ فإنهم قوم خدعة ومكر، وإن أنتم نويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم؛ إنّ النصر على قدر النيّة، والأجر على قدر الحسنة، وسلوا الله العافية، وأكثروا من قول “لا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم”ØŒ واكتب إليّ بجميع أحوالك وتفاصيلها، واجعلني بكتبك إليّ كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم علي الجليّة، وخف الله وارجه، واعلم أن الله قد توكّل لهذا الأمر؛ فاحذروا أن يصرفه عنكم ويستبدل بكم غيركم!
هذا أمر تميزت به دوله الاسلام عن غيرها، أن جعلت المسلم يعيش حياته مزيجا بين العمل لبناء الدولة وإصلاح شؤون الدنيا بالعدل والقسط، والعمل لتعمير الآخرة والتعلق بالله بالصلاة والصيام والذّكر؛ لقد أمر الله المسلمين بالتمسك بمكارم الأخلاق في أصعب الظروف التي تعترض حياتهم، وجعل هذا هو الجهاد الحق.
حاصر المسلمون بيت المقدس، فأجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقبل عمر الشرط، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وقدم إلى بيت المقدس على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وخطب في الناس قائلا: أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم! من أراد وجه الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد! ولا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما! ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن!
قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فلا نطلب بغير الله بديلا! فعرضت له مخاضه، فنزل عن بعيره ونزع خفيه فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض، فصك عمر صدره، وقال: أوغيرك يقولها يا أبا عبيدة! يروى أنه قابل معاوية بن أبي سفيان وهو أميره على الشام، فوجد عليه هيئة الملوك، فلامه على ذلك، فقال له معاوية: إن هذه البلاد لا يناسبها ما عليه أهل المدينة وهيئاتهم من تقشّف وبساطة، وإنّ لكل مكان ما يناسبه، وإنّه لا يظهر ذلك تكبرًا، فقبل عمر ذلك منه على مضض!
رُفع لعمر -رضي الله عنه!- صك مكتوب فيه لرجل على آخر دين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان، أمن هذه السنة، أم التي قبلها، أم التي بعدها! ثم جمع الناس، فقال: صفوا للناس شيئا يعرفون فيه حلول ديونهم! وأراد بعضهم أن يؤرخ كما تؤرخ الفرس، ومنهم من قال أرخوا بتاريخ الروم، وقال قائلون أرّخوا بمولد الرسول -صلى الله عليه، وسلم!- وقال آخرون من مبعثه، وأشار علي بن أبي طالب -رضي الله عنه!- وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة، لظهوره؛ فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله، صلى الله عليه، وسلم!
لمّا استكمل عمر فتح الشام، أرسل عمرو بن العاص لفتح مصر، فلمّا حاصر الإسكندرية جمع المقوقس أساقفته، وقال لهم: إنّ هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر، ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي أن نؤدي الجزية إليهم. وقال لهم عمرو: إنّ الله أرسل إلينا محمدًا -صلى الله عليه، وسلم!- وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس؛ فنحن ندعوكم إلى الإسلام؛ فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلَمنا أنّا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا منكم، وإنّ لكم -إن أجبتمونا بذلك- ذمّة إلى ذمّة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيّين خيرًا، لأن لهم رحمًا وذمة، فقالوا: قرابة بعيدة، لا يصل منها إلا الأنبياء. معروفة شريفة هاجر، كانت ابنه ملكنا من أهل منف، فأديل عليهم أهل عين شمس، فقتلوهم، وسلبوا ملكهم؛ فلذلك صارت إلي ابراهيم، عليه السلام!
قيل إن الاسكندر لما بني الإسكندرية قال: لأبنينّ مدينة فقيرة إلى الله، غنية عن الناس، فبقيت بهجتها. وأنشأ عمرو بن العاص الفسطاط عاصمة بدلا من الإسكندرية، وبنى بها جامعه، وبنى الناس حوله. يروى انه أتى أهل مصر إلى عمرو بن العاص حين دخل شهر بؤونة، فقالوا: أيها الامير، إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا خلت اثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلل والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، فقال عمرو: إنّ هذا مما لا يكون في الإسلام؛ إنّ الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا بؤونة وأبيب ومسري والنيل لا يجري، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإنّي قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل، فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة، فاٍذا فيها “من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلي نيل أهل مصر، أما بعد؛ فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنّما تجري بأمر الله الواحد القهار وهو الذي يجريك فنسأله -تعالى!- أن يجريك”ØŒ وألقيت البطاقة في النيل، فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ست عشرة ذراعا في ليلة واحدة، وقطع الله السنّة عن أهل مصر إلى اليوم، والله أعلم! ولا ندري صدق هذه الحادثة من عدمه، لكنها في نهاية الأمر تؤكد نأي الإسلام عقيدة وفكراَ دينا ودولة، عن الهرطقة والزندقة والشعوذة والخزعبلات، والاعتماد على العلم فقط، مع دوام الاتصال بالله والتعلق بالحق.
قال رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيفا من سيوف الله، سلّه الله على الكفّار والمنافقين. فلما حضرت الوفاة خالد بن الوليد، بكى، ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العَيْر؛ فلا نامت أعين الجبناء! قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- نادما على عزله خالدًا من إمارة الجيش: رحم الله أبا بكر؛ كان أعلم بالرجال مني! كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- فريد عصره، وسيد أهل زمانه، ومنشئ دولة الإسلام، وكانت فلسفته في الملك “العدل أساس الملك”Ø› فلم يكن لأحد من السطوة على الأمراء والولاة مثل ما كان له! لقد أتى بابن العاص من مصر، يتكفّأ في شكاية اشتكاها مواطن مصري، وعدا وراء الأمراء يحصبهم لتغير حالهم عما اعتاده منهم؛ فبعدله وصدقه مع الله والناس دانت له الدولة، وخضعت له الممالك، ولم تكن لأحد من بعده كما كانت له، وبعبقريته الفذة استطاع أن يطوّر هيكل الدولة سياسيّا وقانونيّا وإداريّا، بما يناسب العصر الذي هو فيه؛ فقويت به دولة الإسلام.
كان -رضي الله عنه!- أول من عس بالمدينة، وحمل الدرّة، وأدّب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، ووضع الخراج، ودوّن الدواوين، واستقضى القضاة، وكوّر الكور. ربما لم يمهل القدر الصدّيق بالقدر الكافي لإحداث تطويرا إداريّ بالدولة، لكن الأمير عمر أحدث ثورة اٍداريّة تنظيميّة (دولاب عمل حكومي)؛ فقد استحدث نظمًا اٍداريّة للدولة الإسلاميّة تضمن إدارة جيّدة تناسب حجمها الجديد الكبير، كما هو الحال في الإمبراطوريات الحديثة، فكانت من أهم جوانب عظمة خلافة عمر وعبقرية حكمه، فلم يجد المسلمون وغير المسلمين بأسًا أو ضررًا من انتمائهم لهذه الدولة، بل على العكس كان المسلمون وغيرهم من أجناس وديانات الأمم الداخلة في إطار الدولة الإسلامية يشعرون بالسعادة والسلم والطمأنينة في حكم عمر ما لم تعرف مثله البشريّة إلا في أواخر القرن الميلادي العشرين؛ لذا يجب على الولاة أن يداوموا على إحداث التطوير الإداري والتنظيمي لدولهم، لضمان بقائها وريادتها.
ومن نوادر الرجل الصالح عمر، أنه قال: لو أني أعلم أحدًا من الناس أقدر مني على هذا الامر (الخلافة) لوليته؛ فبهذه الكلمة أكد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -وهو أعلم أهل زمانه بالإسلام عقيدة وشريعة- أنه يجوز عزل الحاكم إن كان من الرعية من هو أصلح لها، أو كان بقاؤه في السلطة يشكل مفسده كبرى؛ فالولاية ليست حكرًا على فئة أو حقا مقدسا لأحد من الناس أو لطائفه من الطوائف، وهي كذلك ليست إرثا متوارثا، بل هي أمانة وتكليف، يكلف بها القوي الأمين القادر على تحقيق العدل والمساواة وسيادة القانون والمحافظة على الدولة.
فتح عمر الشام كله والعراق وبلاد الفرس وخراسان وأذربيجان ومصر وبرقة وتونس. كان متواضعا في الله، خشن العيش والمطعم، يرقّع ثوبه، ويحمل القربة على كتفه، ويركب الحمار عريان، قليل الضحك، عظيم الهيبة، وكان نقش خاتمه “كفي بالموت واعظا”! قال عنه النبي -صلى الله عليه، وسلم!-: “أشد أمتي في دين الله عمر”! قيل لعمر: إنّك قضاء (يحاسب الناس على أخطائهم ويعاملهم بروح القاضي)ØŒ فقال: الحمد لله الذي ملأ قلبي لهم رحمة، وملأ قلوبهم لي رعبا! فقد كان الرجل يعي جيدًا أهمية هيبة وسيادة الدولة التي كان يمثلها. ومما كان يقول “اللّهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموتا في بلد رسولك”Ø› فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة المجوسي وهو قائم يصلي بخنجر، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي علي يد رجل يدّعي الإيمان! ودفن بالحجرة النبوية إلى جانب الصدّيق. رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب!
أراد رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- تقريب الشيخين أبي بكر وعمر، منه؛ فتزوج ابنتيهما عائشة وحفصة، رضي الله عنهما! وتزوج عمر بحفيدة رسول الله أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب. وأراد الله بأبي بكر وعمر خيرًا؛ فجمع المسلمون بين جسديهما الطاهرين وجسد رسول الله في غرفة واحدة. وفي هذا نقول: إن كان رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- قد بذر بذور الإيمان ونشر الفكرة الحضارية الإسلامية في ربوع جزيرة العرب، وإن كان أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه!- قد حمى النبتة الوليدة من أعاصير الانهيار والتفكّك- فإنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه!- هو الذي أسّس الإمبراطوريّة الإسلاميّة، وقعّد لها قواعد الحكم الرشيد العادل، والله أعلم!
ما بعد عمر
توفي رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- ولم يول أحدًا من بعده، وتوفي الصدّيق وقد أمر الناس بأن يبايعوا عمر بن الخطاب، لكنّ عمر جعل الأمر من بعده شورى بين ستة نفر من الصفوة و هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم! وقد أوصى بأن يصلي بالناس صهيب الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى. لم يرد عمر أن تنقضي حياته قبل أن يبهرنا بجانب من جوانب عبقريته الفذّة وعلمه المحيط بأحوال زمانه ومتطلباته ودرايته الكافية برجال دولته، وكذلك قدرته على اتخاذ القرار المناسب! أدرك المسلمون الأول حقيقة حتمية التغّير والتبدّل، وأن لكل يوم أحواله ومتطلباته التي تختلف من يوم لآخر؛ فكانت الشورى في اختيار أبي بكر، وكان التنصيب في اختيار عمر، وكانت الشورى ثانية في اختيار عثمان.
لما بايع أهل الشورى ختن رسول الله عثمان بن عفان صعد المنبر خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله، وقال: إنّكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار؛ فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه! ألا وإنّ الدنيا طويت على الغرور؛ فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغرور! واعتبروا بمن مضى، ثم جدّوا، ولا تغفلوا!
كانت شرعيّة تولّي أمير المؤمنين عثمان، هي انتخابه من بين الشخصيّات التي رشّحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكذلك الشرعيّة العربيّة القرشيّة. كان أمير المؤمنين عثمان بن عفّان -رضي الله عنه!- ساحة الكرم وفضاءه، وكانت فلسفته في الملك أن الملك عطاء؛ فما أن وليى حتى ضاعف الأعطيات، واتّسعت دولة الإسلام في عهده أكثر مما كان لخليفة أو أمير قبله أو بعده، وكان خير أهل زمانه، ولم يكن كأحد بعده. كان بعض المسلمين ممن عايشوا أمير المؤمنين عثمان بن عفان يعترضون على بعض تصرفاته في إدارة شؤون الدولة، ويغلظون له القول، كعزل صحابة رسول الله عن الولايات، وتوليه قرابته من بني أمية، وكان أمير المؤمنين عثمان أحيانا يجيبهم إلى مطالبهم. لقد خشي المسلمون من كثره بني أمية في مفاصل و مراكز الدولة الإسلاميّة، وازداد خوفهم من تحول شرعية الحكم من الشرعية الإسلاميّة العربيّة القرشيّة عامة، إلى الشرعيّة الإسلاميّه العربيّة القرشيّة الأمويّة. وذكر أن سبب تأليب الناس على عثمان بن عفان أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديًّا وأظهر الإسلام، وأخذ ينشر ادعاءه أن النبي أوصي لعلي بن أبي طالب بالخلافة من بعده، فافتتن به بشر كثير من مصر والكوفة والبصرة. استشار عثمان أمراءه، فأشار عليه معاوية أن ينتقل إلى الشام، فأبى أن يترك جوار رسول الله، وأشار عليه أن يرسل إليه بجيش يحميه، فرفض أيضا، وخشي أن يؤذي الجيش صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار. نشأت بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه، وخرجوا إلى المدينة يظهرون الحجّ، وحاصروا بيته، وبعد مفاوضات كثيرة بينهم وبين أمير المؤمنين عثمان بن عفان كلها باءت بالفشل، طالبوه بالتنازل عن الحكم لغيره من الأكفاء من صحابه رسول الله، لكنّه رفض ذلك متعلّلا بأنه رأى رسول الله في الرؤيا (الحلم)، يأمره بألا يخلع قميصا ألبسه الله إيّاه، يقصد عدم التنازل عن الخلافة. أرى -والله أعلم!- أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قد أخطأ في أمرين: الأول أن الاحلام أو الرؤى المناميّة، لا يعتدّ بها في استصدار حكم شرعي. الثاني أن الخلافة أو الإمارة والرئاسة هي حق المسلمين ومصالحهم، وليست حقًّا مقدسًا للخليفة أو الأمير أو الرئيس. وللناس (أهل العلم والرأي فيهم)، الحقّ في عزل أو إقرار الحاكم طبقا لكفايته ونجاحه أو إخفاقه في إدارة شؤون بلادهم. لم يستطع الكثيرون من المسلمين إلى الاّن، أن يفرقوا بين قيادة ورئاسة وإمارة رسول الله للمسلمين التي تستند على الحق المقدس والتنصيب الإلهي له، وباقي الحكّام و الولاة الذين ينصبهم الناس ويعزلونهم. وفي نهاية الأمر قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان!
قيل: أول الفتن قتل عثمان، وآخرها خروج الدجال. إنّ الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء. إن الدولة الإسلامية نجحت في تحديد القيم العليا التي يجب على الدولة والجماعة والفرد التمسك بها، ونجحت أيضا في إيجاد القوانين والشرائع التي تحدد الحقوق والواجبات على الفرد والجماعة والدولة بما حقق بالفعل السلام الاجتماعي في ربوع الدولة الإسلامية. وكانت قد شرعت في تحقيق نجاح في إيجاد آلية انتقال السلطة السياسية، تمثلت في اجتماع أهل الشورى والرأي على اختيار الحاكم الجديد. لكن هذا النجاح لم يستمر! لقد كان الاسلام دينا عظيما كبيرا قويا، وثقافة رائعة واسعة قادرة على أن تنهض بالفرد والجماعة والدولة. و كان الفكر الاسلامي بالعظمة التي بها يحتوي تغيّر الزمان و المكان وكذلك جميع التغيرات التي تستجد وتطرأ على أحوال البشر إلى يوم القيامة؛ فعندما اتّسعت الدولة الإسلامية في عهد الأمير عمر أحدث من التطوير في فكر ونظام الدولة الإداري والمالي والقضائي والسياسي ما يناسب هذا التطور الكبير في حجم الدولة.
في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان اتّسعت الدولة كثيرا وكان لزاما على قيادة الدولة أن تحدث من التطور في نظامها وفكرها الإداري والسياسي ما يناسب حجم هذه الإمبراطورية الكبيرة والآخذة في الاتساع، لكن لم يستطع أمير المؤمنين عثمان أن يبتكر ويحدث التطور اللازم لآلية الحكم وإدارة الدولة التي ورثها من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فكان لزاما على الدولة أن تنهار! قتل الأمير عثمان ذو النورين ختن رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- على ابنتيه رقيّه وأم كلثوم، صاحب البئر، والباذل ماله في سبيل الله، موسّع الحرم، وناسخ المصاحف، وفاتح شمال إفريقية وقبرص وطبرستان ومنشئ أسطول الدولة الإسلامية، رحم الله الأمير عثمان!

Related posts

Leave a Comment