سوط المطر وحجرة الرعد

لقد أوغلت بنا (ميكروباص) القاهرة فى أرض المنوفية، وعدلت عن أمم الطريق إلى بنياته الضيقة التى يُشَبِّهها سائقو (الميكروباص) بغرز الإبرة؛ ففيها لا تكاد السيارة تسير يمينًا حتى تتجه يسارًا ولا يسارًا حتى تتجه يمينًا، وهكذا دواليك حتى أقرب الأجلين: آخر الطريق أو هلاك السيارة.

إنها لليلة ليلاء هذه التى تقطر فيها السماء بعد يوم حارٍّ من آخر أيام (أمشير) غير المأمون عند أهلنا الفلاحين، والأعجب أن هذا القَطْر استمر حتى اهتم بعض ركاب (الميكروباص) ممن سينزلون فى خلال بنيات الطريق حيث تختبئ قراهم التى عاشت آمنة من ويلات أمم الطريق حتى فضحتها بنياته وآذتها ويلاتها بما تقذفها به من صرعى مطروحين هم وسياراتهم عن يمين وشمال.

ثم مطرت السماء ظهر (الميكروباص) فاغتم زميلنا فداعَبْتُهُ:

  • أينزل أحد فى هذا الوقت!

فغالب كآبته ليبتسم فلم يكد، ثم تجاوز مكان كرسيِّه ليقترب من الباب، فداعَبَه أحد من تجاوزهم:

  • هدومى وحِذاءَك، أم تُراها لم تمطر فى آخر السيارة!

غير أنه كان قد استسلم للكآبه بكُلِّهِ، ثم نزل إلى قضاء الله ونسيناه.

كان السائق بنا خبيرًا، يحذر مآزق الطريق، ويطأ أرضه هَوْنًا لكيلا يضطر إذا أسرع، إلى كبح جماح سيارته حيث لا يجدى الكبح فيهِلك ويهلكنا نحن وسيارته، فوصلنا سالمين إلى مدينتنا (منوف) الشبيهة بالقرية.

لم تكف السماء عما فعلت، بل زادتنا، فلما حان نزولنا من السيارة، جعل كلٌّ منا يتأخّر ويقدِّم غيره، وكأنه سيُظلِّله بظلِّه الممدود!

حيثما يمّمتَ وجدتَ بمدينتنا علامات القرية، ومن قديم عشقتُها لهذا، أما الآن فأتمنّى أننى فى الإسكندرية مثلًا، ذات مصارف الشوارع، يغسلها المطر فتشربه المصارف، ويبقى كل شىء بعده لامعًا كأنَّما صُنع الآن.

أين أضع قدمىّ بحذائى الجديد ؟ أم كيف أُخفى (بَدْلتى) الصوفيّة ؟ هلكَتْ أوراقى الغالية بحقيبتى الجلدية.

  • ولد، تعال.

فلم يأت صاحب (الحَنْطور)، بل تمهّل قليلاً، فجريتُ ووثبت إلى داخله، وفى التو تفقَّدتُ المقعد فلم أجد به موضعًا جافًّا، فهوّنت على نفسى الأمر؛ فإن ما أنا فيه بالقياس إلى الوقوف فى الشارع غنيمة باردة.

لم يكن من حق الولد صاحب (الحنطور) أن يأخذ راكبًا؛ فليست نَوْبته، فضلًا عن صغر سنه وهو المارّ وسط مجتمع من ينبزون بأنهم (عربجيَّة)، فنادوه أن يقف ليأخذونى منه، وسبوه ولعنوا أباه وأمه، غير أنه كان ذا فرس شديدة وقد أَمَرْتُه ألا يعبأ بهم فصادف الأمر منه هوى، فهاج فرسَهُ فركضت وفاتت (العربجيَّة) وقد حَدَّهم المطر.

  • ولد، هل سَقْفُ (حنطورك) هذا مخروم ØŸ

صِحْتُ فيه وأنا حيران؛ فقد كنتُ فرحت (بالحنطور) الذى سيحمينى، فإذا المطر كأنه يحتال ليدخل إلىّ فيه. إنه ذنب السخرية من زميل (الميكروباص) وتضييع حَقِّ (العربجيّة) بلا ريب!

بإيقاع حدواتها السريع مرت الفرس (بالحنطور) وأنا داخله وسائقها فوقه ظاهر للسماء، تأكل طريق المدينة القرية الغارق المُوحلَ، حتى إذا ما بلغت مبنى مجلس المدينة أَخَذَتْ يمينًا وكان ينبغى أن تأخذ أمامًا إلى شارع مدرسة الزراعة الذى أنتمى إليه.

  • ولد، ما هذا ØŸ هل ستختصر الطريق ØŸ إذن وجِّهها بعدئذ يسارًا.
  • لا يا عم، لن أستطيع أن أُكمل فى مثل هذه الحال، إن السماء تُمْطر ثلجًا، إنها تمطر ثلجًا ثلجًا، لا، لا، لا أستطيع، لا يمكننى، لقد ظنت الفرس الثلج على رقبتها وأذنيها لَفَحاتِ سَوْطى أوجِّهها بها يمينًا فاتجهَتْ.

كانت الفرس قد وقفت (بالحنطور) وأنا داخله مغيظ وسائقها فوقها خائف، أمام (وَرْشَة) نجارة صغيرة جدًّا، فى ضوء نورها رأيت الثلج كالحَصَى يصيب متن الفرس بعد ما نزل سائقها.

لقد أغرانى عامل (الورشة) بالنزول إليها حتى يكُفَّ المطر المُثلجُ فنزلت ولُذْتُ بها أنا والولد لاجئين.

اشتد هطول المطر المُثلج وانقطع تيّار الكهرباء وأبرقت السماء وأرعدت كما لم أر وأسمع من قبل. كانت إذا أبرقت أعشت العيون وكشفت ظلام الدنيا، وإذا أرعدت أصمّت الآذان وأخافت القلوب، فجعلت أنا وعامل (الورشة) نتذاكر آيات القرآن فى المطر والبرق والرعد، من مثل قول الحق سبحانه: { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا }، وقوله: { هو الذى يريكم البرق خوفًا وطمعًا ويُنْشئ السحاب الثقال }، وما فى هذه الظواهر للبشر من عظات يغفلون عنها، حتى لقد خاض الولد صاحب (الحنطور) فيما نحن فيه، وكان كلما اشتد الخطب صاح:

  • الطف بعبيدك يا رب! يا رب! يا رب!

وكانت له فى ذلك نغمة خاصة يضحك منها بعض صبيان ذلك العامل، فيرد مستنكرًا عليهم ناظرًا إلىّ:

  • وما الذى أقول إذن!

فأهز رأسى موافقًا شارد اللُّبّ؛ فأنا الذى سافرتُ من القاهرة إلى منوف دون أن يحجزنى حاجز، أعجز عن بلوغ منزلى وبينى وبينه مسافة دقيقة.

صهلت الفرس المفردة فى خارج مع المطر المُثلج هلوعًا، فأجابها الولد من داخل:

  • حاضر، ها أنا ذا، لا تخافى.

فَهدَأَتْ، فَعَجِبْنا، فأخْبَرَنا أنها تعرفه وتألف صوته وترتاح إليه وتطمئن به.

  • ما هذا ØŸ لقد أمطرت (الورشةُ)! يا لحظى، فررت من الرّمضاء إلى النار!

كانت (الورشة) فى بيت من طابق واحد، سقفها مكشوف للسماء، ولا قبل له بما أصابه، لذا نضح مطرًا تخلّله إلينا، فأما نحن فكنا نتحول من المكان الممطور، وربما لم نَعْبأ؛ فلن يضُرَّنا البلل بعد الغَرَق، وأما مصنوعات الخشب فهى موطن المخافة، وقد كنت أجامل العامل بإظهار خوفى عليها أن يفسدها الماء، وتنبيهه إلى الموضع الممطور بعد الموضع، وكنت أراه غير متأذٍّ لهذا، فسألته فأخبرنى أن الذى فى هذه (الورشة) قليل نحمد الله عليه، إلى كثير فى المخزن.

يا من يحملنى إلى منزلى ويتمنّى على ما يشاء!

  • ولد، أما تلاحظ ØŸ لقد خفّ المطر فلمَ لا نذهب سريعًا فتوصلنى وترجع إلى حيث تقى فرسك الخطر ØŸ
  • لا، لم يخفِّ بعد، إنك لا تراه، انظر إلى الأرض فى ضوء نور ما يمر سريعًا من السيارات، أو ضوء البرق، ولسوف تدرك الحقيقة.

إن الولد على حق، ولكن لا حيلة لى إلا الإلحاح عليه والاجتهاد فى إقناعه بالحق وبالباطل.

خفّ المطر قليلاً ما، واقتنع الولد قليلاً ما، فخرج إلى فرسه فعدّل وجهتها، وأمرنى أن أحضر له سوطه الذى تركه على منضدة (الورشة)، فائتمرت سعيدًا، وجريت فوثبتُ إلى داخل (الحنطور) بأسرع من ذى قبل، وهوّنت على نفسى أمر غرق مقعده أكثر من ذى قبل.

لقد صار الولد يسوق فرسه سوقًا خفيفًا خشية الزَّلَق، وكنت أضيق بذلك ضيقًا شديدًا خشية أن يعود المطر إلى سابق عهده، فى حين كان الناس من عن يمين الشارع وشماله يستصرخونه ويستغيثونه:

  • يا صاحب (الحنطور)… يا صاحب (الحنطور)ØŒ قف، قف بالله!

فيردُّ عليهم سعيدًا:

  • مشغول… مشغول.

لقد كان يستمتع برفض إِصْراخهم وإغاثتهم، ولا يتورّع عن أن يُصَرِّح لى بأنهم لا يعرفونه إلا وقت الشدّة، ولم يدر أننى منهم ومثلهم!

لما أن بلغ شارع مدرسة الزراعة ومرّ فيه نبّهته إلى أن يأخذ يمينًا إلى شُوَيْرع فيه منزلى، فأبى واقفًا فرسَهُ على ناصيته معتذرًا بأنه لو دخل ما ضمن أن يخرج، ولقد كنت أتوقع منه ذلك غير أننى ظننتُ ما جمعنى وإياه من مشاهد تؤلِّف القلوب، كفيلاً بأن يشفع لى عنده، فلما لم يشفع أغريتُه مُحذِّرًا، بأنه إذا دخل بى حَبَوتهُ (كذا) وإن أبى لم يحصل إلا على نصف (كذا)، فرضى بنصف (كذا) وأفلتنى بجلده وحيدًا، المطر من فوقى والغرق والزلق من تحتى والظلام الدامس من فوقى وتحتى وحولى!

أقبلت أخَمِّن بسابق علمى بطبيعة المكان أصلح ما أضع فيه قدمىّ، سعيدًا بسَداد تخمينى، ثم بغتةً غرقَتْ قدماى بحذائى الجديد وطرف سروال (بدلتى) فى مَهْوًى لم يخطر لى ببال، فطرَحْتُ عن عقلى عناء التخمين وخبطتُ خَبْطَ عَشْواء.

بلغتُ منزلى أضحك من حالى، فتحلّق أهلى حولى فرحين بنجاتى، وجعلت أقصُّ عليهم العجيبة مما لقيت، فيردّون عليها بعجيبة مثلها أو أعجب منها، وكان أعجب ما سمعوه منى فيما رأوا، المطر المُثْلج الهاطل على رقبة الفرس وأذنيها، الذى انخدعت به فظنته لَفَحَات سوط سائقها يوجّهها بها يمينًا فاتجهت! وكان أعجب ما سمعته منهم فيما رأيتُ، الرعد المُدوِّى الذى خافه بعض صغار أطفالنا فظنّ أن الله ألقى عليهم من علٍ حجرةً ضخمة توشك أن تُهْلِكهم!

Related posts

Leave a Comment