عروبة الهوى، للدكتور مصطفى السواحلي

نجز في بندر سري بجاوان، بروناي دار السلام
الاثنين، غُرَّة رجب 1444هـ
الموافق 23 ÙŠÙ†Ø§ÙŠØ± 2023Ù…

لَيستِ اللُّغةُ العربيَّةُ مُجرَّدَ أداةٍ تواصليَّةٍ كغيرِها منَ اللُّغاتِ، ولا وعاءً يَحملُ تراثًا وتاريخًا وأدبًا طارفًا وتليدًا، ولا نظامًا صوتيًّا ومعجميًّا ونحويًّا وصرفيًّا وبلاغيًّا فريدًا، ولكنَّها فوقَ ذلك كلِّهِ لغةُ دينٍ، ولسانُ رسالةٍ، وحبلٌ ممدودٌ من السَّماءِ إلى الأرضِ، ومعراجٌ يتواصَلُ به الخلقُ مع الخالقِ، ومن ثمَّ كانتْ بالقوَّةِ لغةً ثانيةً لكلِّ مسلمٍ وإنْ لم يكنْ من ناطقيها الأصليّينِ، حيثُ لا تتمُّ صلاتُه إلَّا بها، ويُقِيمُ جُملةً منَ شَعائرِهِ الدينيَّةِ والاجتماعيَّة عليها. وفي الوقتِ نفسِه هي تمثِّل الهُوِيَّةَ الحضاريَّةَ للأمَّةِ، التي متَّى فرَّطَتْ فيها فقدتْ جزءًا من هُويَّتِها وكيانِها، وقطعتْ حَبْلَها السُّرِّيَّ بنسبِها وتاريخِها، فلا جرمَ أنْ تكونَ الهدفَ الأوَّلِ للمُحتلِّينِ على اختلافِ ألوانِهم وأغراضِهم، يقول حاملُ لواءِ البيانِ العربيّ مصطفى صادق الرافعيّ (ت1937م): «وما ذلَّتْ لُغَةُ شَعبٍ إلَّا ذلَّ، ولا انحطَّتْ إلَّا كانَ أمرُه في ذَهابٍ وإدبارٍ، ومن هنا يفرضُ الأجنبيُّ المُستعمِرُ لُغتَه فرضًا على الأمَّةِ المُسْتعمَرَةِ، ويركَبُهم بها، ويُشْعِرُهم عظمَتَه فيها، ويَسْتَلْحِقُهم من ناحِيَتِها، فيحكمُ عليهمْ أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمَّا الأوَّلُ فَحَبْسُ لُغَتِهم في لُغَتِه سجنًا مُؤبَّدًا، وأمَّا الثاني فالحكمُ على ماضيهم بالقتلِ مَحْوًا ونِسيانًا، وأمَّا الثالثُ فتقييدُ مُسْتقبَلِهم في الأغلالِ التي يَصْنَعُها، فأمرهمْ مِنْ بَعْدِها لأمْرِهِ تَبعٌ». وتقولُ سيِّدَةُ الأدبِ العربيِّ عائشةُ عبد الرحمن، بنتُ الشاطئ (ت1998م): «إنَّ الأمَّة قد تُمْتَحَنُ باحتلالِ أرضِها، فتناضلُ من أجلِ الحُريَّةِ، حتَّى تستردَّها على المَدَى القصيرِ أو الطَّويلِ، وتُمْتَحَنُ باغتصابِ خَيْراتِ أرضِها وأرزاقِ بَنِيها، فَتَحْتَمِلُ الجُوعَ والحِرمانَ، وتَقْتاتُ من أمَلِها المَرْجوِّ في الخلاصِ، بل قد تُحَارَبُ في عقيدَتِها، فيتصدَّى الضَّميرُ الشَّعبيُّ لِحمايَتِها بالرَّفضِ أو التَّحدِّي، لكنَّها حِينَ تُمْتَحَنُ بسرقةِ لِسانِها تَضِيعُ، وتُمْسَخُ شَخصيَّتُها القوميَّة، وتُبْتَرُ من ماضيها وتُراثها وتاريخِها، ثمَّ تظلُّ مَحكومًا عليها بأنْ تَبْقَى أبدًا تحتَ الوِصايَةِ الفِكْريَّةِ والوجدانيَّة للمُسْتَعْمرِ، حتَّى بعد أنْ يَجْلُوَ عنْ أرضِها».
لكنَّ الواقعَ المُرَّ يَعكسُ مُفارقةً مُوجعةً بين العربِ نسبًا، الذين يَتَخَلَّوْنَ عن لُغتِهم يومًا بعد يومٍ، ويتسابقونَ نحوَ بابِ الضَّياعِ تَسابُقَ الفراشِ نحو اللَّهبِ المُضْطَرمِ، فيسقطونَ في دَرْكِ الهاويةِ الحضاريَّةِ بسرعةِ الصَّواريخِ الفَرْطِ صَوْتيَّة، في مقابلِ ثُلَّةٍ من المسلمينَ الأبرارِ الناطقينَ بغير العربيَّةِ، الذين هاموا بلسانِ العربِ حُبًّا خَامَرَ اللَّحْمَ وَالعَظْمَ، فانعكسَ عليهمْ في جملةٍ من المظاهرِ الإيجابيَّةِ التي تختلفُ كُلِّيًّا عن نظائرِها عند العربِ، وَيْكأنَّ تلكَ المظاهرَ مرايا تعكسُ تباريحَ الصَّبابةِ، وأماراتٌ تُعبِّر بلسانِ الحالِ لا بلسانِ المقالِ عنِ الحبِّ الكَمينِ، والهَوى الدَّفينِ، وهو ما أَوْمَأَ إليهِ سِبطُ بن التَّعاويذيّ (ت583هـ) بقولِهِ:
عَيْنَاكِ قَدْ دَلَّتَا عَيْنَيَّ مِنْكِ عَلَى *** أَشْيَاءَ، لَوْلَاهُمَا مَا كُنْتُ أَرْوِيهَا
وَالعَيْنُ تَعْلَمُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا *** إِنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا، أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
وسبيلي أنْ أذكُرَ خمسًا من تلكِ الأماراتِ النَّاطقةِ بلسانِ الهوى، في مقابلِ نقائِضِها لَدَى مَنِ اتَّخَذُوا لِسَانَهم وَراءَهمْ ظِهْرِيًّا من العربِ الذين كانوا مُسْتَعْرِبةً، فَصاروا مُسْتَمْرِكَةً:

(1) النبوغُ فيها، والتأليفُ في علومها: فقد أقبلَ غيرُ العربِ على تعلُّمِ العربيَّةِ في نَهَمٍ عجيبٍ، حتَّى نَبَغُوا فيها، وبَزُّوا كثيرًا من أهلِها، وأثْرَوْا مكتبَتَها بما لا يُحْصَى من المؤلَّفاتِ في شتَّى علومِها، وحسبُكَ أن تقرأ أسماءَ هذهِ النُّجومِ المتألِّقةِ في سماءِ علومِ العربيَّةِ: سيبويه (ت180هـ)ØŒ أبو عليّ الفارسيّ (ت377هـ)ØŒ ابن جني (ت392هـ)ØŒ ابن فارس (ت395هـ)ØŒ عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)ØŒ الزمخشري (ت538هـ)ØŒ السَّكاكيّ (ت626هـ)… وغيرهم ممَّنْ لا يُحْصَوْنَ كثرةً، ولكَ أنْ تَسْرحَ بخيالِكَ في آفاقِ الحُبِّ الكامنِ وراءَ هذه الكلماتِ التي صدَّر بها الزمخشريُّ كتابَه “المفصَّل في صنعة الإعراب”: «اللهَ أحمدُ على أنْ جَعَلَنِي من علماءِ العربيَّةِ، وجَبَلَنِي على الغضبِ للعربِ والعصبيَّة، وأَبَى لي أنْ أنفَرِدَ عنْ صميمِ أنْصارِهم وأمْتَاز، وأَنْضِوِيَ إلى لفيفِ الشُّعوبيَّة وأنحاز، وَعَصَمَنِي من مَذهَبِهم الذي لم يُجْدِ عَلَيْهم إلَّا الرَّشقَ بألسنةِ اللَّاعنين، والمَشْقَ بِأَسِنَّةِ الطَّاعِنين».
وفي المقابلِ يَحتقرُ كثيرٌ من العربِ اليومَ مَنْ يتخصَّصُ في علومِها، ويعدُّونَها من التخصُّصاتِ الدُّونِ التي لا تُؤكِّلُ صاحِبَها عَيْشًا كما يقولونَ، فترى المُنْخَنِقَةَ والموقوذةَ والمتردِّيةَ والنَّطيحةَ يُمثِّلونَ السَّوادَ الأعظمَ مِنَ المُنتسبينَ إلى التخصُّصِ فيها. ولستُ أنسى موظفَ التَّنسيقِ الذي سلَّمْتُهُ ملفَّ الالتحاقِ بالجامعةِ، فلمَّا نظر إلى مجموعي، قال بلهجةٍ مُستنكِرَةٍ: إيه ده، لغة عربيَّة، وكادَ يقذِفُ الملفَّ في وجْهِي، ويقولُ لي: أعدْ نظرًا، يا عبدَ قيسٍ، لعلَّما…!

(2) تسميةُ الأشخاصِ: يحرصُ كثيرٌ من المسلمينَ من غيرِ العربِ كلَّ الحرصِ على تسميةِ أبنائِهم بأسماءٍ عربيَّةٍ، بلْ يتفنَّنونَ فيها كلَّ التفنُّنِ، وبخاصَّةٍ في أرخبيل الملايو، فهم يربطونَ الاسمَ بالهُويَّةِ الدِّينيَّةِ، ويميِّزون بتلكَ الأسماءِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ أنفسَهم من الهُنودِ والصِّينيينَ، وقد نشرْتُ مؤخرًا عن ذلك بحثًا بعنوان: (الأسماءُ العربيَّةُ في أرخبيلِ المَلايو: أنماطٌ ونوادر)، ولا زلْتُ أحتفظُ ببعضِ الأسماءِ المُتميِّزةِ للوافدينَ الذينَ دَرَّسْتُ لهم منذُ سنواتٍ في جامعةِ الأزهرِ، فمن أسماءِ الذُّكورِ: عقيل، مستقيم، مُزمِّل، فردوس، رزين، أزكى، رفيع، إقبال، بصير، فطين، زعيم، عارف، فائز، جيد، شافعي، نواوي، ترمذي، ذو الحلم، ذو الخير، لقمان الحكيم، قمر الزمان، حبيب الرحمن، قمر العارفين، شمس العارفين… الخ. ومن أسماءِ البناتِ: أميرة، زُلفى، فاتحة، آسية، عتيقة، عفيفة، هداية، حاذقة، صائبة، عقيلة، حميراء، لينة، نصيحة، ناجحة، ريحانة، سلسبيل، أصيلة، عيناء …الخ.
وفي المقابل كثيرًا ما ترى عربيًّا مسلمًا لا يكتفي بأنَّ يُعلِّمَ أبناءَهُ لغةً أجنبيَّةً مُقَدِّمًا إيَّاها على اللُّغةِ العربيَّةِ، ولا بأنْ يُلْحِقَ أبناءَه بمدارسَ أجنبيّةٍ خالصةٍ، وإنَّما يُلْصِقُ بهم أسماءً أجنبيَّةً تُلازمِهم ما عاشوا، وهي ظاهرةٌ تنتشرُ في البيئةِ العربيَّةِ انتشارَ النَّارِ في الهشيمِ، وبخاصَّةٍ في أسماءِ البناتِ، وحسبُك أنْ تدخل فصلًا في مدرسةٍ دوليَّةٍ بإحدى البلادِ العربيَّةِ لِتَجدَ هذه الأسماءَ: ديانا، هايدي، جاكلين، جولستان، أيتن، نانسي، إلسي، إنجي، جيهان، هايا، مايا، يارا، لورا، هيلين، كارمن، نيفين، باكينام، شويكار، ماهيتاب، كارولين… وغيرها، وهي ظاهرةٌ خطيرةٌ قد يستهينُ بها البعض، ويعدُّها لونًا من ألوانِ التفرُّدِ الذي ينشُدُهُ الآباءُ لأبنائِهم، ولكنَّها في الحقيقةِ تدلُّ على تنامي ظاهرةِ الاستغرابِ في المجتمعِ العربيِّ تَنَامِيًا مُرَوِّعًا.
والأنكى أنَّ كثيرًا ممَّنْ يُسمُّونَ أبناءَهم بأسماءٍ عربيَّةٍ يُدلِّـلُونهمِ بأسماءٍ أجنبيَّةٍ، حتَّى تغلبَ الأسماءَ الحقيقيَّةَ، وتلازِمَهُم حتَّى في الكبرِ، فشيماءُ تُنْادَى: شوشو، وسوسن: سوسو، ووفاء: فيفي، وهدى: دودي، وغادة: غودي، وهبة: بوبة، وجويرية: جوجو، وخديجة: ديجا، وآسية: أوستي، وعائشة: يوشا، وحفيظة: فيزا!!!

(3) تسميةُ الأماكنِ: اتخذتْ كثيرٌ من المناطقِ في أرخبيلِ الملايو لنفسِها أسماءً عربيَّةً تُوضَعُ إلى جوارِ الاسمِ الملايويّ في جميعِ اللَّافتاتِ والمُعاملاتِ الرَّسميَّةِ، ففي ماليزيا تُسمَّى ولاية سلانجور (Selangor): دار الإحسان، وولاية كلانتن (Kelantan): دار النعيم، وولاية جهور (Johor): دار التعظيم، وولاية بهانج (Pahang): دار المعمور، وولاية نجري سمبيلان (Negeri Sembilan): دار الخصوص، وولاية بيراق (Perak): دار الرضوان، وولاية ترنجانو (Terengganu): دار الإيمان، وولاية قدح (Kedah): دار الأمان. وعلى شاكلتها جاء اسم سلطنة بروناي، حيثُ أضيفُ إليه رسميًّا: دار السلام، فلا تُعْرَفُ في مصالِحِها وأختامِها وسِفاراتِها وسائرِ شئونِها إلَّا بهذا الاسم المركَّب (Brunei Darussalam)، وقد اتخذتْ لنفسها شعارًا عربيًّا خالصًا يتوسَّطُ العَلَمَ الوَطنيَّ، وهو: الدَّائمون المحسِنُون بالهدى.
وفي المقابلِ كاد يُصِيبُنِي الغَثَيَانُ في زيارتي الأخيرةِ لمصر، حيثُ طالعتُ أسماءَ هذه المشروعاتِ العُمرانيَّةِ: (هايد بارك)، (جولدن جيت)، (ماونتن فيو)، (بريفادو)، (إيست تاون)، (ليك فيو)، (ميفيدا)، (فيلدج ويست)، (بالم هيلز)، (مون هيلز)، (ريفيرا هايتس)، (أب تاون)، (ذا كور ريزادنس)، (أودي بالاس)، (أوبرا سيتي) … وغيرها ممَّا لا يحصى، وهو ما يربو ويغطِّي تمامًا على أسماءٍ عربيَّةٍ قليلةٍ مثل: (بروج)، (ديار)، (الواحة)، (الخمائل)، (الربوة)!

(4) تسميةُ المؤسَّساتِ التعليميَّةِ: تحرصُ كثيرٌ من المؤسَّساتِ التعليميَّةِ في البلادِ الإسلاميَّةِ على أنْ تتَّخِذَ لنفسِها أسماءً عربيَّةً، وإن لم تكنِ اللُّغةُ العربيَّةُ لغةَ التَّدريسِ المعتمدةَ فيها، فمعظمُ المدارسِ التي أعرِفُها في أرخبيلِ الملايو ذاتُ أسماءٍ عربيَّةٍ، أقلُّها مُفردٌ، ومُعْظَمُها مُرَكَّبٌ، وبعضُها جُمَلٌ مَحْكيَّةٌ، وحسبُكَ أن تقرأَ أسماءَ هذه المدارسِ: (الهلال، الملتزِم، الفلاح، اقرأ، حسنُ الخاتمة، دار العلوم، دار القلم، دار الهدى، بحر العلوم، أولو الألباب، روضة العلوم، بيت الحفَّاظ، مفتاح النور، إحياء علوم الدين، أرني الحقّ، لا تنسَ)، والشهاداتُ التي تمنَحُها هذه المدارسُ ذاتُ أسماءٍ رنَّانةٍ، مثل: مُرِيد، حافظ، أولو الألباب، الرَّاسخون في العلم. وأثناء زيارتي للهندِ وجدْتُ أسماءً طريفةً لبعضِ الشهاداتِ بالمدارسِ الدينيَّةِ، مثل مولوي، ثم عالم، ثم فاضل، وفي مجال اللغة تعطي شهادات مثل: منشئ، ثم أديب، ثم منشئ ماهر، ثم أديب ماهر، ثم منشئ كامل، ثم أديب كامل.
وفي المقابلِ تنتشرُ المدارسُ الدوليَّةُ في البلادِ العربيَّةِ كالجرادِ المنتشرِ، فمنذ قديمٍ كانتِ الأسماءُ ذاتَ طابعٍ نصرانيٍّ مثل: (سانت فاتيما)، (نوتردام ديزابوتر)، (راهبات القديس فنسان دي بول) وغيرها، واليومَ شاعتْ أسماءٌ أخرى تتناغمُ مع موجةِ العَولمةِ الكاسحةِ، مثل: (ريتاج)، (إيثوس)، (نوشن)، (نارمر)، (مانور هاوس)، (كابيتال)، (ليدرز)!

(5) تسميةُ المشروعاتِ التِّجاريَّة ونحوها: اختارتْ كثيرٌ من المؤسَّساتِ والشركاتِ والمتاجرِ والفنادقِ في أرخبيل الملايو أسماءً عربيَّة مثل: تكافل، الهلال، إتقان، محيط، الهداية، بديعة، العافية، الحكمة، البخاري، التمويل، أمانة، فسيحة، زمزم، مبارك أليف، مستقيم، وسيم، معمور… وغيرها. وقد أجْرى بعضُ الزملاءِ دراسةً ميدانيَّةً على أسماءِ المَحلَّاتِ التِّجاريَّةِ ذات الأصولِ العربيَّةِ في بروناي دار السلام، وانتهت الدراسةُ إلى تفشِّي هذه الظاهرة في بروناي دار السَّلام بوازعٍ دينيٍّ؛ حيثُ يُؤْثرونَ الكلماتِ الإسلاميَّةَ، أو بوازعٍ من التفاؤلِ، حيثُ يؤثِرُ أصحابُ العملِ الكلماتِ المرتبطةَ بالنجاحِ والتفوُّقِ والرِّزقِ، ناهيكَ عن دورِ الإعلامِ في دعمِ الارتباطِ اللُّغويِّ بين العربيَّةِ والملايويَّةِ. ويؤيَّد ما انتهتْ إليه تلك الدراسةُ ما لاحظتُهُ من شيوعِ الأسماءِ المُشتقَّةِ من مادةِ (رَزَقَ) في تسميةِ المحلَّاتِ التجاريَّةِ ونحوِها، تفاؤلًا بِسَعةِ الرِّزقِ، مثل: رِزْقُنْ، رازقين، مرزوقين، يرزقني، بغضِّ النَّظرِ عن إثباتِ التَّنوينِ نونًا، والتسميةِ بالفعلِ، فهذا مِمَّا هو شائعٌ في البيئاتِ غيرِ العربيَّةِ.
وقد أعْجَبَنِي ما قرأتُهُ ضمنَ أسماءِ القِطَعِ البحريَّةِ التي تقتَنِيها القواتُ البحريَّةُ في بروناي، والتي تقومُ بعمليَّاتٍ محدودةٍ ضمنَ خَفَرِ السَّواحلِ مثل: دار السلام، دار الإحسان، دار التقوى، دار الأمان، بركة، شفاعة، عافية، مُستعدّ!
وفي المقابلِ عندما تتجوَّلُ في شوارعِ القاهرةِ أو بيروت أو دُبَيّ تجدُ شوارعَ ضائعةَ الهُويَّةِ، هي مسخٌ مشوَّهٌ من هُويَّاتٍ أجنبيَّةٍ تحكِي ما زَعَمُوه من تَبَلْبُلِ الألسنةِ في بابل، وتدلُّ على الشُّعورِ بالتَّبعيَّةِ والدُّونيَّةِ، ولستُ في حاجةٍ إلى التمثيل بشيءٍ من هذا الوباءِ الكاسحِ، فما هو إلَّا أنْ تُطلِقَ بَصَرَكَ في أيِّ شارعٍ تِجاريٍّ بِجُلِّ العواصمِ العربيَّةِ بحثًا عن اسمٍ عربيٍّ غريبِ الوجهِ واليدِ واللِّسانِ، وللأسفِ، غالبًا ما سينقلبُ إليك بصرُكَ خاسئًا وهو حسيرٌ!

وختامًا، فلا أجدُ ما أختمُ به هذه الخاطرةَ المؤلمةَ في واقعِ بلادِ العربِ، المُبْهجةَ في غيرها خيرًا من تعليقِ مصطفى صادق الرَّافعيِّ على كلمةٍ إنجليزيَّةٍ بقيَتْ على ألسنةِ الفرنسيِّينَ من عَقابيلِ الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ، فلمَّا تحرَّرتْ فرنسا حاربتْ تلك الكلمةَ كما كانتْ تُحارِبُ أعداءَها، حيث يقول: «ألا يرى … كيف يفخرُ الفرنسيُّونَ بلسانِهم، حتَّى إنَّهم لَيَجْعلونَه أوَّلَ ما يَعْقِدُونَ عليه الخِنْصَرَ إذا عدُّوا مَفاخِرَهم ومآثِرَهم؟ وهل أعْجَبُ مِنْ أنَّ المجمعَ العلميَّ الفرنسيَّ يُؤَذِّنُ في قومِه بإبطال كلمةٍ إنجليزيَّةٍ كانتْ في الألسنةِ من أثرِ الحربِ الكبرى، ويُوجِبُ إسقاطَها من اللُّغةِ جُملةً، وهي كلمةُ (نظام الحصر البحريّ)، وكانتْ ممَّا جاءَ مع نَكَباتِ فرنسا في الحربِ العُظْمى، فلمَّا ذهبتْ تلك النَّكباتُ رأى المَجْمَعُ العِلْميُّ أنَّ الكلمةَ وحْدَها نَكبةٌ على اللُّغةِ، كأنَّها جُنديُّ دولةٍ أجنبيَّةٍ في أرضِ دولةٍ مُستقلَّةٍ بِشَارِتِه وسِلاحِهِ وعَلَمِه، يُعلنُ عنْ قهرٍ أو غلبةٍ أو استعبادٍ؟ وهل فَعلوا ذلك إلَّا أنَّ التَّهاونَ يدعو بعضُهُ إلى بعضٍ، وأنَّ الغفلةَ تبعثُ على ضَعْفِ الحفظِ والتَّصوُّنِ، وأنَّ الاختلاطَ والاضطرابَ يجيءُ من الغفلةِ، والفسادُ يجتمعُ من الاختلاطِ والاضطرابِ».

Related posts

Leave a Comment