أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها، للدكتور محمد صالح المتنوسي

الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، وعلى ءاله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن علم الوقف والابتداء من أدق العلوم التي تنبئ عن فهم القارئ لكتاب الله تعالى، وتكشف من أسرار معاني الآيات الكريمة ما لا يحصى عددا، ولا ينقضي عجبا، وبه تتبين معاني الآيات، ويؤمن من الوقوع في مشكلاتها.

فينبغي لكل مَعْني بتلاوة القرءان الكريم، مجتهد في إيفائها حقها ومستحقها أن يُقبل عليه، ويَصرف همته إليه، إذ لا يتحقق فهم كلام الله تعالى ولا يتم إدراك معناه إلا بذلك، فربما يقف القارئ قبل تمام المعنى، ولا يصلُ ما وقف عليه بما بعده حتى ينتهي إلى ما يصحُ أن يقف عنده، وعندئذ لا يَفهم هو ما يقول، ولا يَفهمه السامع، بل ربما يُفهم من هذا الوقف معنى ءاخر غير المعنى المراد من كلام الله عز وجل، وهذا فساد عظيم، وخطر جسيم.

«فبإحسان الوقف والابتداء تتبدَّى للسامع فوائدُه الوافرة، ومعانيه الفائقة، وتتجلّى للمنتجِع مقاصدُه الباهرة، ومناحيه الرائقة، التي لم تستعن العرب على فهمها بمادة خارجة عنها، بل فهمته بفضل طباعها التي بها نُزّل، وعليها فُصّل» (1).

وإن من الوقوف التي اشتهرت وعم النفع بها، وقف الإمام أبي عبد الله الهبطي (930Ù‡‍) رحمه الله؛ فلا يخفى تعلق المغاربة والتزامهم بها في محاريبهم وأحزابهم وإقرائهم وتعليمهم، حتى وصلوا إلى حد التعصب لها ولصاحبها رحمه الله.

وقد انتُقد على الشيخ الهبطي -رحمه الله- بعض هذه الوقوف، وأُلفت بعض التوليفات في ذلك، وهكذا العلم، لا بد فيه من ناقد ومنقود، وكل من ألف فقد استهدف، لكن أغلب من نقد لم ينصف الشيخ رحمه الله، بل بعضٌ لم يتأدب التأدب المطلوب في المطارحات النقدية، ووصل به الأمر إلى الوصم بالجهل.

وفي مقابل هؤلاء، هناك من جاوز الحد في التعصب للشيخ والانتصار له، حتى ثافن تخوم الخرافات، فقال: إنه رأى هذه الوقوف في اللوح المحفوظ، ومن ثم أخذها، وقال غير ذلك…

ونحن لسنا مع هؤلاء ولا هؤلاء، ولا نتعصب للشيخ الهبطي، ولا ندعي فيه العصمة، ولا نقول بإلزامية وقوفه، بل هذا لم يقله واضع هذه الوقوف نفسه، إلا أننا نتعصب له إذا رمي بالجهل، وبأنه كان يضع هذه الوقوف اشتهاءً، وأنه لم يكن يرجع إلى قاعدة بل كان يقف كما يظهر له، وأنه لم يكن يعرف علم العربية ولا شيئا مما اشترطوه لصحة الوقف، وبأنه لم يقرأ المقدمة الآجرومية، أو أنه رجل من الصلاح العباد، ولا حظ له في العلم، أو أنه عامي في العربية وجاهل بعلم الوقوف، وغيرها من الأحكام المجحفة الصادرة عن قلة الاطلاع أو عن تسرع في الحكم أيا كان قائلها.

وما أحسن إنصاف الأستاذ المقرئ الشيخ عبد الواحد المارغني، قال: «واعلم أن أوقاف الشيخ الهبطي -رضي الله عنه- كلها مرضية، موافقة جارية على قواعد فن القراءات ووقوفه، وما تقتضيه العربية وأصولها، نعم، هناك وقوف تعد بالأصابع استشكل وقفه عليها لعدم موافقتها -بحسب الظاهر- لوقوف علماء القراءة والعربية…وهناك وقوف يحسن الوقف عليها، بل ومن السنة الوقف عليها رأينا الشيخ الهبطي لم يقف عليها» (2).

ونذكر في هذه السُّليسلة إن شاء الله أنموذجات للوقفات المنتقدة على الإمام الهبطي وتوجيهها، وبيان سلفه فيها، وخطأ من نسب إليه القصور في الفهم والإدراك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نظام الأداء في الوقف والابتداء لابن الطحان: 20.

(2) رسائل ملحقة بكتاب النجوم الطوالع: 194-195. 

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930Ù‡‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وإن الاستقراء لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، ونافع كان يتبع المعانـيَ في وقوفه ويتَتَبَّعُها، وغيره من أكثر القراء يتبعون رؤوس الآي(1)، فهذا ما عرَّض الهبطيَّ للانتقاد والإنحاء باللائمة، دون اطلاع من المنتقدين على موافقته لنافع أو مخالفته في أصول مذهبه الوقفي، مع أن هذا كان منهم مطلوبا، لمعرفة متكآته في هذا الوقف، ثم ليُتوجه بالنقد بعدها -إن بقي- على سلفه وإمامه فيه(2).

وهذه نماذج من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله:

* قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمُۥٓ أَحْرَصَ اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ اَ۬لذِينَ أَشْرَكُواْ…﴾ الآية.

وقَفَ أبو عبد الله الهبطي على قوله: ﴿عَلَيٰ حَيَوٰةٖ﴾، وذكر أبو جعفر النحاس أن التمام عند قوله: ﴿أَشْرَكُواْ﴾، ثم قال: «وهذا قول أهل التأويل وأهل القراءة واللغة إلا نافعا، فإنه قال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمُۥٓ أَحْرَصَ اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ حَيَوٰةٖ﴾»(3). وقال أبو عمرو الداني: «وقال نافع: التمام ﴿عَلَيٰ حَيَوٰةٖ﴾»(4). ووقفُ الهبطي هنا تابع لوقف إمامه نافع رحمه الله، لكن الذي انتقدوا هذا الوقف توجهوا إليه وحده بالنقد؛ قال عبد الله بن الصديق: «وَوَقَفَ الهبطي على لفظ ﴿حَيَوٰةٖ﴾وهو خطأ». ثم زاد ضغثا على إبالة فقال: «الوقف الصحيح على ﴿أَشْرَكُواْ﴾ كما في مصحف حفص»(5). فحاكم الهبطي برواية غير رواية إمامه.

* 4- قوله تعالى من سورة ءال عمران: ﴿هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٞ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ اُ۬لْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ…﴾ الآية.

وقَفَ أبو عبد الله الهبطي على قوله: ﴿مِنْهُ﴾، قال أبو جعفر النحاس: «﴿هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ مِنْهُ﴾، قال نافع: تم»(6). وقال أبو الحسن الغزال: «ويجوز منه عند نافع»(7). 4وقال الأشموني: «ونقل بعضهم أن الوقف عند نافع على ﴿مِنْهُ﴾، ولم يذكر له وجها، وَوَجْهُهُ -والله أعلم- أنه جعل الضمير في ﴿مِنْهُ﴾ كنايةً عن الله؛ أي: هو الذي أنزل عليك الكتاب من عنده، فيكون ﴿مِنْهُ﴾ بمعنى مِنْ عنده، ثم يبتدئ: ﴿ءَايَٰتٞ مُّحْكَمَٰتٌ﴾؛ أي: هو ءايات محكمات»(8).

لكن الشيخ عبد الله ابن الصديق لما ذكر هذا الموضع، وبين الوقف المشهور، قال: «كما في مصحف حفص وقالون». ثم قال:«ولكن الهبطي وقف على لفظ ﴿مِنْهُ﴾، فدل على أنه لا يعرف النحو؛ لأنه فصل بين المبتدإ والخبر، وصير المبتدأ بلا خبر»(9).

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- ينظر النشر: 1/238.

(2)- ينظر تقييد وقف القرءان الكريم: 72، وقراءة الإمام نافع: 4/198.

(3)- القطع والائتناف: 71.

(4)- المكتفى في الوقف والابتدا: 169.

(5)- منحة الرءوف المعطي: 7.

(6)- القطع والائتناف: 124.

(7)- الوقف والابتداء: 1/340.

(8)- منار الهدى: 154.

(9)- منحة الرءوف المعطي: 11.

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الثانية من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930Ù‡‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله:

* قوله تعالى في سورة المائدة في قصة ابنيْ ءادم: ﴿قَالَ يَٰوَيْلَت۪يٰٓ أَعَجَزْتُ أَنَ اَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا اَ۬لْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِے فَأَصْبَحَ مِنَ اَ۬لنَّٰدِمِينَ مِنَ اَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَيٰ بَنِےٓ إِسْرَآءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْساَۢ بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٖ فِے اِ۬لَارْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ اَ۬لنَّاسَ جَمِيعاٗ وَمَنَ اَحْي۪اهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا اَ۬لنَّاسَ جَمِيعاٗ﴾:

وقف الهبطي على قوله تعالى: ﴿مِنَ اَجْلِ ذَٰلِكَۖ﴾، وابتدأ: ﴿كَتَبْنَا عَلَيٰ بَنِےٓ إِسْرَآءِيلَ﴾، وهذا وقف الإمام نافع رحمه الله، قال أبو جعفر النحاس: «﴿فَأَصْبَحَ مِنَ اَ۬لنَّٰدِمِينَ﴾ تمام على قول أكثر أهل اللغة، وزعم نافع أن التمام ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ اَ۬لنَّٰدِمِينَ مِنَ اَجْلِ ذَٰلِكَ﴾»(1).

وقال أبو عمرو الداني: «قال نافع: ﴿مِنَ اَجْلِ ذَٰلِكَ﴾ تمام، فجعل ﴿مِنَ﴾ صلة لـ ﴿اَ۬لنَّٰدِمِينَ﴾»(2).

وقال الغزال النيسابوري: «وقد زعم قوم أن ﴿مِنَ اَجْلِ ذَٰلِكَ﴾ صلة للندم، التقدير: ندم من أجل ذلك القتل، وهذا القول جائز أيضا»(3).

وقد وافق الهبطي -رحمه الله- إمامه نافعا في هذا الوقف، فاستجرى عليه النقد دون إمامه البدر؛ فقد ذكر هذا الوقف الشيخ عبد الله الجراري ضمن الوقوف الثلاثة عشرة التي انتقدها شيخه الفقيه أبو شعيب الدكالي على الهبطي، وقال إن فيها غلطا بل أغلاطا(4).

أما الشيخ عبد الله بن الصديق فقال: «ولكن الهبطي وقف على ﴿ذَٰلِكَ﴾، ففصل بين الفعل ومتعلقه، وقطع العلة عن معلولها، وصارت جملة ﴿كَتَبْنَا عَلَيٰ بَنِےٓ إِسْرَآءِيلَ﴾ منقطعة عما قبلها لا رابط بينهما، وهذا إفساد لمعنى الآية سامحه الله»(5).

وإن كان لنا من نقد لهذا النقد، فإنه لا يخرج عن القول إن الهبطي رحمه الله كان تابعا لا متبوعا، وإن نقد الوقف-إن كان- هو لإمامه الذي اختاره، وما على الهبطي بعد ذلك من ملام أو معذلة.

نعم، قد تكلم في هذا الوقف الإمام النحاس والحافظ الداني وغيرهما، وذكروا أن وقف الإمام نافع هذا متجه، وعليه بعض أهل التأويل، وإن كان الأولى الوقف على غير ما وقف عليه، لكن ما غلطوه ولا استجهلوه.

* قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا…﴾.

وقف الإمام الهبطي على قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَۖ﴾، وابتدأ: ﴿وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ…﴾، قال أبو عمرو الداني: «قال نافع: ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾: تام»(6) ثم حسنه، وذكره الغزال النيسابوري(7)، ووقفُ الهبطي موافق لمذهب نافع واستحسان الحافظ أبي عمرو الداني له، أما الشيخ عبد الله بن الصديق فقال: «﴿الوقفُ على قَبْلِهِمْ﴾ كما في مصحف حفص، ووقف الهبطي على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، ففصل بين المعطوف والمعطوف عليه من غير داع، وأوهم أن كذبوا بلآياتنا بيان لدأب الذين قبل فرعون فقط، وهو إيهام قبيح»(8).

قال الأشموني: «﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾: تام إن جُعل ما بعده مبتدأ منقطعا عما قبله، وخبره ﴿كَذَّبُواْ﴾، أو خبر مبتدإ، وليس بوقف إن عطف على ما قبله»(9).

فانظر للأشموني كيف يوجه على الوقفين، وانظر إلى ابن الصديق كيف يتبع وقف مصحف حفص، ويقبح ما سواه، سامحه الله.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- القطع والائتناف: 202.

(2)- المكتفى: 238-239.

(3)- الوقف والابتداء: 1/463.

(4)- من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا: 1/41-42.

(5)- منحة الرءوف المعطي: 14.

(6)- المكتفى: 287.

(7)- الوقف والابتداء: 2/58.

(8)- منحة الرءوف المعطي: 11-12.

(9)- منار الهدى: 71.

Related posts

3 Thoughts to “أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها، للدكتور محمد صالح المتنوسي”

  1. loaay

    بارك الله فيكم أستاذنا !
    هل الدكتور الفاضل هو صاحب رسالة الدكتوراة التي تكلمتم عنها في أحد محاضراتكم أنها رسالة دكتوراة لباحث ليبي نوقشت في دار العلوم ؟

    1. لا
      وشكر الله لك
      هذا مغربي
      ولكنني نشرت مقالاته لعل تلميذنا الليبي يراها

      1. loaay

        نفع الله بكم أستاذنا وتقبل منكم وزادكم علما ،
        ولا حرمنا الله فضلكم

Leave a Comment