مفارقة علمية، للدكتور طارق سليمان النعناعي

أستاذ علم اللغة، والدراسات السامية والشرقية، المساعد،

جامعة القاهرة، وجامعة السلطان قابوس.

   سبق أن ذكرنا أن العربية من أحدث اللغات السامية من الناحية التاريخية، ولا يتأخر عنها غير اللغة الحبشية، وذلك بناء على اعتماد المستشرقين في تصنيف اللغات السامية وتحديد تاريخها من الآثار والحفريات والنقوش. ولم يكن للعربية حظ كبير في العثور على آثار ملموسة أقدم من الأكدية أو الكنعانية أو الآرامية؛ ما جعل المستشرقين يصنفونها على أنها أحدث تاريخا من أخواتها الساميات (عدا الحبشية).

     لكن المفارقة العلمية أن العربية اشتملت على ظواهر لغوية (صوتية وصرفية ونحوية ودلالية) يظن أغلب المستشرقين أنها من سمات اللغة السامية الأم، وأن تلك الظواهر أو أغلبها يمثل الأصل السامي القديم، وأن العربية بتلك الظواهر أقرب اللغات السامية إلى اللغة السامية الأم المفترضة. والمفارقة هي: كيف تشتمل لغة أحدث على سمات لغوية أقدم؟ ودفعا لهذا التناقض نحكم بعدم دقة رأي المستشرقين في حداثة العربية لعدم دقة مقياس الآثار والحفريات والنقوش القديمة؛ ولقد سَألني المشرفُ على رسالتي للدكتوراه في أثناء مناقشتها الأخيرة صراحةً أمام لجنة المناقشة، قائلا: مِن أَينَ جاءَ محمدُكم بالإعراب الذي في القرآن، والإعراب كان قد تقلص من العربية قبل التاريخ الميلادي؟ وهكذا كان سؤاله باللغة الألمانية، لغة المناقشة (في جامعة روبريشت كارلس، بمدينة هايدلبرج بألمانيا)ØŒ فكان ردي عليه: “إن العرب تناقلوا اللغة وتوارثوها شفاهة لعدة قرون قبل التاريخ المعروف لها، وظلوا يتناقلونها من دون تدوين ثابت ضد تقلبات الظواهر الطبيعية، ثم وجَّهْتُ سؤالا إلى اللجنة، التي يؤمن أعضاؤها بالكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، وقلت: ومن أين جاءت اللغة العبرية التي كُتِبَ بها الكتاب المقدس، على الرغم من أن العبرية لم تكن لغة متحدثة من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهو الوقت الذي قيل إن التوراة وفروعها (ما يعرف بالعهد القديم)كُتِبَتْ فيه على أرجح الأقوال العلمية، وفي ذاك الوقت كانت اللغة الآرامية، هي اللغة المتحدثة في أغلب مناطق الشرق الأدنى القديم، إلى درجة أن الشعب إذا سمع شيئا منسوبا إلى الكتاب المقدس باللغة العبرية – في ذاك الوقت – ما كان ليفهمه إلا إذا تُرْجِمَ له إلى الآرامية؟ فنظر بعضهم إلى بعض، ولم يجبني أي أحد منهم، ثم أعدت، على سبيل التوكيد: كانت اللغة العربية متحدثة بإعرابها شفاهة، ولم يدونها أصحابها، أو ضاع أغلب ما دونوه لطبيعة المواد الصحراوية التي لا تبقى كثيرا أمام وسائل التعرية، وقِدَمُ الظواهر اللغوية في العربية يُشِيرُ إلى أن تاريخها الحقيقي أقدم من آثارها المعروفة. كان ردي السابق ذكره مبنيا على رفض فكرة سقوط الإعراب من العربية، أما ما لم أقله حينها، فهو: إِنْ سلمنا – جدلا – أن الإعراب قد سقط من العربية قبل التاريخ الميلادي بقليل – كما يزعمون – ألا يدل ذلك على أن القرآن ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم.

Related posts

Leave a Comment