Ù…Ùقَدّمَةٌ
الكتاب٠الذي بين أيدينا، تأملاتٌ من خلال القرآن: صÙوَرٌ نغميّة ÙÙŠ ثقاÙØ© Ø´Ùاهية، لمؤلÙÙ‡ البروÙسور إرنست مكلين[1]Ø› ينتمي لما يمكن تسميتÙÙ‡ الكÙتب الشّجاعة. تَكْمÙÙ† هذه الشجاعة، أوّلاً، ÙÙŠ اختيار موضوع٠الكتاب، القرآن العظيم، وثانيًا ÙÙŠ طريقة المعالجة، إذ يَدْرÙس٠القرآنَ من زوايا نظر Ù…ÙتعددةÙØŒ تتطلب إلْمامًا بÙعدّة تخصÙّصاتÙØŒ الكتب٠المقدسة والرياضيات٠والÙلسÙة٠والموسيقى، كما أنّ صدورَ هذا الكتاب٠من شخص غير متخصص ÙÙŠ القرآن، بل وينتمي لثقاÙØ© تعتبر بعيدةً عن القرآن؛ يتطلّب٠قدْرًا من الشّجاعة المعرÙيّة.
ورغم صدور الكتاب قبل أربعين عامًا تقريبًا (1981)ØŒ إلا أنه، ÙÙŠ نظري، لم ÙŠÙقدْ أهميتّه؛ لأن هذا النسقَ من الكتابات٠Øول القرآن، للأسÙØŒ أقرب٠إلى النادر. ويكÙيك لتعلمَ قيمةَ هذا الكتابÙØŒ على الأقل وقتَ صدوره مطلع الثمانينات، أن تقرأ مراجعةَ البروÙسور سيد Øسين نصر، والملØقة كذلك بآخر الكتاب، إذ كَتَبَ عنه أنه Ø£Øد٠أهمّ ÙƒÙتب الدّراسات الإسلامية التي صدرتْ ÙÙŠ تلك السنوات، وأنه، وبكل تأكيد، Ø£ÙŽØَد٠أهم الكتب المتعلقة بالقرآن باللغة الإنجليزية؛ باعتباره لا ÙŠÙقدّم Ù†Ùسَه للمتخصصين ÙÙŠ الإسلام Ùقط، وإنما Ù„ÙÙƒÙلّ منْ له اعتناءٌ بالرÙّوØ:
Altogether, Meditations through the Quran is one of the most surprisingly valuable and worthwhile works in Islamic studies to appear in recent years. It is certainly one of the most significant works on the Quran in English, and it addresses itself not only to scholars of Islam, but to all human beings attracted to matters of the spirit.
يسعدني أن أشارك الأصدقاءَ هذه الوقÙات٠مع الكتاب، لعلها تÙتØ٠آÙاقًا للنظر Ùيما يسميه الغزالي عالَمَ الملكوت،[2] وتشقّ مَسارات٠للتّÙكّر٠ÙÙŠ الوØي٠الإلهي، كما أرجو أن تنالَ نصيبها من قوله جل جلاله (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبّروا آياتÙÙ‡ وليتذكر أولوا الألبابÙ) [صاد، 29]Ø› إذ إن النظرَ إلى القرآن من منظور مختل٠مما ÙŠÙعين على Ùهمه؛ بل إن القرآن Ù†Ùسَه أشار إلى إمكانية ÙهمÙÙ‡ من خلال سؤال “الآخرâ€: (Ùإن كنت ÙÙŠ شك مما أنزلنا إليك؛ Ùسئل الذين يقرؤون الكتابَ من قبلÙÙƒ) [يونس، 94].
Ù„ÙÙ†ÙنْصÙت إلى القرآن إذن، ولكن هذه المرّة من قَلْب٠عاشق٠للجَمال، شغو٠بأÙلاطون، ومÙعم بØÙبّ الصوت والنَّغَم.
- المؤل٠والسّياق الÙكري
ÙˆÙÙ„Ùد المؤلÙÙØŒ إرنست مكلين، ÙÙŠ مدينة كانتن، التابعة لولاية أوهايو، سنة 1918ØŒ ÙˆØصل على البكالوريوس ÙÙŠ الموسيقى، ثم أكمل الماجستير ÙÙŠ الموسيقى كذلك من جامعة نورث وسترن (Northwestern) سنة 1947ØŒ وتخرّج بعد ذلك بدرجة الدكتوراه ÙÙŠ التربية عام 1959 من جامعة كولومبيا (Columbia) العريقة ÙÙŠ نيويورك. عمل مكلين ÙÙŠ السّلك الأكاديمي، Øيث كان بروÙسورًا ÙÙŠ كلية بروكلن التابعة لجامعة سÙتي ÙÙŠ نيويورك (City University of New York) إلى تقاعده، وقد أصدر ثلاثةَ ÙƒÙتÙب، والكثير من المقالات. توÙÙŠ مكلين عام 2014.[3]
اهتمّ مكلين بعلم النغمات٠الموسيقيةÙØŒ بÙنظريات Ùيثاغورس ÙÙŠ علم الرياضيات، وبÙÙÙكرَة أن التراثَ الإنسانيَ القديمَ—سواء ÙÙŠ ذلك الÙلسÙØ© والكتب السماوية والآثار الØجرية وغيرها—مليءٌ بالرموز والإشارات إلى التواÙقات الموسيقية وعلم الأنغام، وكي٠أن ذلك كلّه٠امتدادٌ Ù„Øضارة إنسانية Ù…Ùشتركة، بÙتÙمثّلات مختلÙØ©Ù. بالنسبة لمكلين؛ التراث الإنساني كله مترابطٌ من خلال النظريات الرياضية٠ودلالاتÙها الموسيقيةÙ. والتواÙقات٠الموسيقيةÙØŒ ÙÙŠ نظره، هي الأداة التØليلية Ù„Ùهم الÙلسÙØ© والدين والØضارة؛ ÙÙŽÙÙÙŠ الÙصل الأخير من كتابه الأول وَهْم٠الثبات (The Myth of Invariance)ØŒ يكتب٠مكلين Ù…Ùقَرّرا هذه النّتيجةَ التي تَوصّل إليها:
Harmonical analysis is a technique for synthesizing the tonal, arithmetical, and geometrical imagery of ancient civilizations. It aims at the reconstruction of the esoteric diagrams which gave the sacred symbols of particular cultures their enduring and magical powers and furnished philosophy with a ground of certainty. The technique is applicable to all cultures which considered tone and number twin keys to the secrets of the universe, and practicable wherever a sufficient mythology and cosmology have survived.[4]
ثم بَنَى مكلين على هذه الÙكرة وطوّرَها ÙÙŠ كتابÙÙ‡ الثاني، Ø£Ùلاطون الÙيثاغوري: مقدمة للأغنية Ù†Ùسها (The Pythagorean Plato: Prelude to the Song Itself)Ø› إذ قامَ بتØليل دقيق Ù„Ùقرات٠مÙتعدّدة من ÙƒÙتب Ø£Ùلاطون، منها كتابه الجمهورية؛ Ùقرات٠تØتوي على رموز رياضية، وتَوَصّلَ إلى أنها إشاراتٌ إلى التّواÙÙقات النّغمية، وأن Øلّها ÙŠÙمكن من خلال التØليل النغمي. ولذلك خَلَصَ مكلين إلى مركزية الصوت والموسيقى ÙÙŠ ÙلسÙØ© Ø£Ùلاطون Øين كتب:
For Plato, as for his Hindu predecessors, sound was the primary guide to “interiority.†Movement is the “embodied movement†of the soul through which creation becomes manifest. Without ordered movement we are in the field of “non-being.†Music, being an art of pure relations, offers the primary examples of aesthetic “being.†Despite Plato’s emphasis on vision as the most important of the senses, he is actually directing attention to visual models of sound phenomena while asking us to rise above this ground of appearances and contemplate with him the invariance of pattern.[5]
والآن، وبعد هذه النبذة المختصرة عن Ùكر المؤلÙØŒ لندخل إلى كتابنا الجميل، كتاب مكلين الثالث: تأملاتٌ من خلال القرآن: صÙوَرٌ نغميّة ÙÙŠ ثقاÙØ© Ø´Ùاهيّة. وأÙنَبّه٠بادئَ الأمر إلى أنني سو٠أضع صÙØات٠الكتاب التي ترد Ùيها الأÙكار٠والعبارات٠بين قوسين دائريّيْن ( )ØŒ للتوثيق والدقة، ومن أجل تيسير الوصول إلى الأÙكار لمن يريد٠مراجعة الكتاب. كما أنني تعمدت أن أنقلَ مجموعةً من عبارات المؤل٠بنصّها، بعد تلخيصها، وذلك لأهمّيّتها، ولجمالها Ø£Øيانًا، ومن أجل أن يأخذَ القارئ٠Ùكرةً Ø£Ùضلَ عن الكتاب وأسلوب٠المÙؤلÙ.
- ÙˆÙŽÙ‚ÙŽÙاتٌ مع الكتاب
يتَأَلّÙ٠الكتاب، القصير٠نوعا ما، من أربعة Ùصول (123-1)ØŒ وملØÙ‚ طويل نسبيًا (161-125). عنوان الÙصل الأول هو “القرآن ÙƒÙŽÙ…Ùشْكلَة للغرب“، وعنوان الÙصل الثاني “القرآن ÙƒÙŽÙ…Ùشكلة للشرق“، أما الÙصل الثالث Ùهو “الأنغام، والØجارة، والمكعبات المقدسة: التّغيير٠القرآني لشرك٠العرب“، والÙصل الأخير أسماه٠“رقصة الØياة“. ثم يختم بملØÙ‚ تØت عنوان “الجبل المقدس“. Ùيما يلي؛ سأعرض بعضَ Ø£Ùكاره، ولكن بشكل مجتَزأ٠غالبًا، كي أتركَ للقارئ٠متعةَ قراءة الكتاب، كما سَأَضْرب٠صَÙÙ’Øًا عن المÙÙ„ØÙŽÙ‚Ø› إذ ليس له تعلقٌ كبير بموضوع الكتاب الرئيس، القرآن العظيم.
يخبرنا مكلين أنه ابتدأَ قراءةَ القرآن ÙÙŠ شبابه، ولكنه لم يستطع تجاوزَ بضعَ صÙØاتÙØŒ ومع كل Ù…Øاولة للقراءة كان انطباعه الأول٠يتأكد٠لديه—أن القرآن لا يمكن أن ÙŠÙقْرَأَ إلا من Ù‚Ùبَل٠المؤمنين به (3)Ø› مكلين بذلك ÙŠÙذكّرني بقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشÙاء) [ÙÙصّلت، 44]. وبعد أربعين سنة عاد مكلين للقرآن مرة أخرى، ولكنْ بعد أن تَعَلّمَ كي٠يستمع له. إن قراءتَه للقرآن غَدَتْ مغامرةً ÙÙŠ الإØساس الجمالي (aesthetic feeling)ØŒ ولكنه كان أيضًا يبØØ« عن شيء Ù…Øدّد ÙÙŠ القرآن؛ اللغات الأربع، أو أبعاد الوعي الأربع (dimensions of consciousness): لغة الوجود، لغة اللا وجود، لغة التضØية، ولغة الرؤية المتجسدة (4). هذه اللغات، يعتر٠مكلين، ليست إلا أداةً تØليلة تÙقَرّبÙنا من Ùهم المعنى الأصلي للقرآن، ولغرابتها؛ Ùإنها تÙغيّر من أنماط التÙكير التقليدية، وتÙنبّهنا إلى السياق الأوسع٠للقرآن:
The very strangeness of the four categories used here alters normal habits of attention and alerts us to the wider contextual setting for any particular Quranic teaching (5).
ÙˆÙÙŠ هذا السياق يقول مكلين إن القرآن لابد أن ÙŠÙقرأ Øسبَ شروطه هو، لا من خلال عاداتنا العقلية (2)ØŒ ولذلك يرى أنّ Ø¥Øجامَ البعض٠عن قراءة القرآن إنما يَنبع٠من كونه يتØدى تَوقّعاتÙهم عما يجب٠أن يكون عليه شكل٠الكتاب (3)Ø› Ùالقرآن ÙŠÙجْبÙرنا على تجاوز اللغة إلى الإØساس الجمالي، وقراءتÙÙ‡ لا بد أن تكون إعادةَ تخليق٠(28)ØŒ وتأمّلًا (62)Ø› لأن المعنى لا يَتَكَشّÙ٠إلا بالتَّأمّل: (وإذا Ù‚Ùرئَ القرآن Ùاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراÙØŒ 204]ØŒ كما ينبه مكلين على أهمية أن تكون علاقة٠القارئ٠مع القرآن شخصيةً (28).
قراءة٠مكلين للقرآن شاهدةٌ، ÙÙŠ نظري، على اØتياجنا للآخر ÙÙŠ Ùهم أنÙسنا، وعلى الÙائدة التي نجنيها من الاستماع للبعيدين عن ثقاÙتنا: (الذين يستمعون القولَ Ùيتبعون Ø£ØسَنَهÙ) [الزمر، 18]Ø› الغريبÙØŒ كما يقول المؤلÙØŒ يوقظ٠Ùينا الاØتمالات٠المتعددةَ ÙÙŠ أنÙسنا، والآخرون ضرورةٌ Ù„ÙتØرّرنا الداخلي، ولكن ذلك يقتضي التضØيةَ بالأÙكار والنماذج والتصورات المسبقة (120)ØŒ ولذلك يبقى “الآخرÙ†دائما مصدرَ تهديد٠لإيمان المرء بما يعتقد؛ لأنه ÙŠÙذَكّرÙÙ‡ بÙÙˆÙجود تصوّرات أخرى تختلÙ٠عن تصوراته (44)ØŒ[6] Ùكي٠إذا كان هذا الآخر٠هو القرآن؛ كتابٌ يخاطب Ø¥Øساسَ الإنسان بالØقّ، والقيمةÙØŒ والخيرÙØŒ والجمالÙØ› ÙÙŽÙŠÙŽÙ‚ÙÙ٠الإنسان٠عاجزًا أمامه، ولذلك يؤكد مكلين على أنّ أي مجتمع٠ماديّ، تتجاذبه الØيرة٠بسبب تناقضاته الداخليةÙØŒ لن يصمدَ أمام كتاب كالقرآن:
Any society threatened by disintegration from within, impoverished by materialism, and confused by the conflicting claims of its own reason is thereby precariously ripe for simplification—and defenceless before the poet who knows how friction can be focused into renewed spiritual flame (21).
إن عبقريةَ القرآن الكريم—الذي جاء يلبي Øاجةً بشريةً للإيمان (a universal human need to believe) (6)—هي، بالنسبة للمؤلÙØŒ ÙÙŠ انطوائه على ÙلسÙة٠عميقة٠ÙÙŠ Øين يَظهَر٠أنه كتابٌ غير٠ÙلسÙّي (13)Ø› ÙَخَلْÙÙŽ الصّور والأمثال القرآنية الواضØة—كمبدأ التوازن (balance) الذي ÙŠÙØيط بالمÙتَناقÙضات ÙÙŠ سورة الليل—تكمن عصورٌ من التجربة البشرية، بما Ùيها الÙلسÙØ© الإغريقية (21)Ø› إنّ البساطةَ والعمقَ يجتمعان ÙÙŠ الÙنّ (In art simplicity and profundity can wed) (25)ØŒ أو هكذا ÙŠÙخبرنا مكلين.
وهذه الÙلسÙة٠القرآنية نابعةٌ من تركيز القرآن على الشّعور؛ Ùالقرآن٠يَتØدّى أيّةَ Ù…Øاولة٠لÙÙَصْل العقل٠عن المشاعر (117)ØŒ ويÙÙˆÙŽØّد٠الناسَ من خلال الشّعور (116)Ø› Ùأعمق٠دلالات القرآن هي التسليم للقيمة الجمالية، للØدس، وللØقيقة المØسوسة من الداخل، الكامنة ÙÙŠ النÙس (122)ØŒ الØقيقة التي نعرÙها “مسبقاâ€: (ما ÙŠÙقال٠لكَ إلا ما قد قيل للرّسÙÙ„ Ù…ÙÙ† قَبلك) [Ùصلت، 43]—إن تأكيدَ مكلين على منزلة “الØدس†يقارب ÙلسÙØ©ÙŽ الشيخ الرئيس ابن سينا؛ إذ ÙŠÙمثّل الØدس٠أØدَ أركان ÙلسÙته العقلية، كما يتجلى من كتابه الإشارات والتنبيهات وغيره،[7] وهي Ùكرةٌ استÙادها من أرسطو Ùيما يبدو،[8] وربما ÙŠØµØ Ø§Ù„ØªØ£ØµÙŠÙ„Ù Ù„Ù‡Ø§ قرآنيًا من باب التّÙسير الإشاري؛ على سبيل المثال من قوله تعالى (إني لأجد Ø±ÙŠØ ÙŠÙˆØ³Ù) [يوسÙØŒ 94]. القرآن إذن غارقٌ ÙÙŠ الشعور؛ الشعور الذي من خلاله “تÙغَنّي†المعاني Ù„ÙÙŠÙŽÙْهَمَها كل٠أØدÙØŒ إذ الØكمة٠كامنة ÙÙŠ “الØب الÙعالâ€:
The Quran is suffused not with philosophic maxims or proverbs but with poetic feeling. Meaning is required to sing in ways even the childlike can understand. Wisdom lies not in right thinking but in active loving—“to keep life living†(63).
وهنا يَلمَØ٠مكلين التشابهَ بين الظاهرة الصوتية للوØÙŠ وبين علم الأنغام؛ Ùالموسيقى والÙنون لها تَعَقÙّلÙها الخاصÙÙ‘ بها: عقلٌ يوجّهÙÙ‡ الØدس والشعور؛ Ùلا يمكن لأØد أن ÙŠÙÙسّر مقطوعةً لموزارت مثلا، وبالتالي يرى مكلين أن المØاولةَ الغربية لاختزال الÙلسÙØ© ÙÙŠ المثبتات العقلية Ù…Øاولةٌ مستمرة Ù„Ùصل الÙلسÙØ© عن الÙن، وذلك يؤدي بدوره إلى الØدّ من ارتباط الÙلسÙØ© بالØياة (117). باختصار؛ يرى مكلين أن القرآن ÙŠÙمثّل٠انتصار الشعور الإنساني على الÙهم القاصر:
A more critical analysis of the Quran—with attention to its own criteria—might reveal it as a triumph of human feeling over the limitations of human understanding and set its dynamism to work on the problems of the modern world (47).
ولكنّ تَيَسÙّرَ القرآن٠ووضوØَه، الذي ÙŠÙعبّر عنه بقوله (الصراط المستقيم) [الÙاتØØ©ØŒ 6]ØŒ يبدو أنه يناقض٠مبدأَ الØركة الذي يرمز له تأكيد القرآن على Ùكرة الدوران: (وإذ قلنا لك إن ربك Ø£Øاط بالناس) [الإسراء، 60]. ÙالقرآنÙØŒ ÙÙŠ نظر المؤلÙØŒ مليءٌ بالØركة، ويØتوي على طاقة كبيرة (112)ØŒ ومن هنا ÙŠÙÙَسّر المؤلÙ٠لماذا تمَّ Øظر٠الدراويش الصوÙية ÙÙŠ تركيا أثناء عشرينيات القرن العشرين—إنه لمن الصّعب على من يرى القرآنَ Ù…Ùتَمثّلًا أمامَه ÙÙŠ صورة٠Øركة٠مستمرة٠أن ينقادَ:
It is easy to understand why a Muslim audience, living within a tradition ruled by custom, but exposed daily in the mosque to the fluid, moving images of the Quran, could respond with a fervor unnerving to any kind of political regime. The Quran reverberates with the revolutionary fervor of a new vision for a man to live by and not with the mere static harmony later imposed by the teachers (112).
Ù…Ùنْ ÙÙكْرَة الØركةÙØŒ نَنْتقل٠الآن إلى “الثيمة†الأساسية للكتاب: الظاهرة الصوتية والقرآن: ليست الكلماتÙØŒ وإنما الصوت، هو ما يؤشّر٠لبداية أهمّ Øدث ÙÙŠ التاريخ؛ يوم القيامة: (ونÙÙÙخَ ÙÙŠ الصور) [الزمر، 68]ØŒ والقرآن مليءٌ بالصور الصوتية (Acoustical imagery)ØŒ Ùالصوت هو الأصل٠عند مكلين، خلاÙا للتراث الإغريقي الذي جعل المÙشاهَدَ والمرئيَّ أعلى منزلةً من المسموع، بل إنه يرى أن الانتقالَ من المسموع إلى المرئي والمكتوب إنما ابتدأ مع أعمال Ø£Ùلاطون (30).
الصوت٠هو الØضور التام؛ ÙÙÙŠ الØضارات السّامية تجلى الله٠سبØانه بالصوت لا بالصورة: (Ùلما أتاها نودي يا موسى) [طه، 11]ØŒ وسبب٠ذلك، ÙÙŠ رأي المؤلÙØŒ هو أن الصÙّوَرَ قد تَكذÙبÙØŒ والعينَ قد لا تÙدرك٠الصورةَ كاملة، وهنا يلÙت مكلين انتباهَنا لكيÙية ترميز٠القرآن لهذه الÙكرة ÙÙŠ قوله تعالى: (ولو ÙتØنا عليهم بابًا من السماء Ùظلوا Ùيه يعرجون؛ لقالوا إنما سÙكّرت أبصارنا، بل Ù†ØÙ† قومٌ مَسْØÙورونَ) [الØجر، 14-15]ØŒ بالإضاÙØ© إلى أن إبراهيم -عليه السلام- رأى النار بعينيه، ولكنْ جاءَه الوØي٠سماعًا (31).
الظاهرة٠الصوتية٠تستمد مكانتها، إذن، من مجيء جميع الدّيانات العظيمة٠على هيئة ÙˆØÙŠ مسموع٠(59)ØŒ كما أنّ الصوتَ، بخلا٠الصورةÙØŒ لا ÙŠÙخاطب وعيًا واØدًا Ùقط، ولكنْ كلَّ درجات٠الوعي، ويجمع بين الضجيج والالتباس والØركة؛ Ùيعطي خيارات٠متعددةً للسامع وآÙاقًا أوسعَ، وهو ما ÙŠÙذَكّرنا بمØدوديةَ Ù‚ÙدراتÙنا، وإشكالية٠الÙرضيات٠التي نَبْني عليها تصوّراتÙنا، وهذا كله يناقض٠مØاولةَ الÙلاسÙة—من لدÙÙ† أرسطو—إلى بناء الÙلسÙØ© على مبادئَ أولية٠من أجل الوصول إلى رأي Ø±Ø§Ø¬Ø ÙˆØيد؛ كأن مكلين يقول هنا إن “الصوتَ†يعطي تعدديةً، ÙÙŠ Øين أن “الصورةَ†أØاديةٌ؛ ومن هنا يتÙوق المسموع على المرئي:
An aural model carries within itself the contextual substratum of noise and ambiguity and alternative possibilities to remind us of the precariousness of our perceptions and of their dependence upon a field of assumptions. There is important psychological truth in the ancient mistrust of vision and corresponding increased trust of hearing. The effort since Aristotle to ground philosophy on some unshakeable first principle is an effort to find one preferred viewpoint that always works (60).
هذه التعدديةÙØŒ بالنسبة لمكلين، هي من صميم الÙلسÙØ© القرآنية؛ Ùالقرآن لا ÙŠÙقَدّم٠نظريةً اختزالية، ولا نمطًا واØدًا،[9] متجاوزًا بذلك التبسيط الذي يسعى—كما هي طبيعة العلم الØديث—للوصول إلى نظريات صارمة؛ بذلك ÙŠÙطابق٠القرآنÙØŒ Øسب مكلين، بعضَ Ø£Ùكار إدموند هسرل (121)ØŒ الذي نَظّرَ للعلاقة بين العمق الشديد وبين الÙوضى، ورأى أن ذلك من الØكمة لأن طبيعةَ الØياة كذلك؛ معقدة ومتشابكة، كما ÙÙŠ كتابه الÙينومينولوجيا ومأساة الÙلسÙØ©:
Profundity is a mark of the chaos that genuine science wants to transform into a cosmos, into a simple, completely clear, lucid order. Genuine science, so far as its real doctrine extends, knows no profundity. Every bit of completed science is a whole composed of “thought steps†each of which is immediately understood, and so not at all profound. Profundity is an affair of wisdom; conceptual distinctness and clarity is an affair of rigorous theory.[10]
Ùكرة٠أنّ القرآنَ لا ÙŠÙقَدّم٠نظريةً ÙلسÙيةً صارمة Ù…Øددة الأركان= قد تÙستÙاد أيضًا من الكتابات المتعلقة بالÙلسÙØ© الأخلاقية للقرآن: على سبيل المثال، د. طه عبدالرØمن لا ÙŠÙقرّر٠هذه الÙكرة بوضوØØŒ ولكنه يشير لها إشارةً؛ إذ يرى أن النظريةَ الأخلاقيةَ الإسلاميةَ لا تقوم على مبدأ الإلزام بالأوامر والنواهي—التي، ÙÙŠ رأيي، تأخذ خطًا مستقيمًا—، وإنما تقوم على Ù…Ùهوم الاعتبار، “الذي هو عبارة عن جملة من المعاني والقيم التي يستنبطها الإنسان تلقائيًا مما يشاهده من Ø£Ùعال ويتلقاه من أقوالâ€ØŒ[11] وبالتالي تقوم النظرية على “إيراد الأØكام الخلقية، لا ÙÙŠ صورة أوامر، وإنما ÙÙŠ صورة أخبار، ولا ÙÙŠ صورة نسق، وإنما ÙÙŠ صورة قصص، لأن الأخلاق Ø£Ùعال Øية والأÙعال الØية هي تاريخ والتاريخ لا ÙŠØيا إلا بالقصة، Ùتكون أخلاق الإنسان هي قصته التي تØدد هويته.â€[12] هذا الاتجاه يخال٠مذهب القائلين بإمكانية استنباط نظرية أخلاقية واضØØ© من القرآن، كما هو رأي الأستاذ الكبير د. Ù…Øمد عبدالله دراز ÙÙŠ كتابه دستور الأخلاق ÙÙŠ القرآن، وقد ناقش د. سامر رشواني هذه الإشكالية عند الشيخ دارز بقوله:
‫ ينطلق دراز من Ùرضية كامنة ترى النص القرآني واضØًا قاطعًا ÙÙŠ رسم نظريته الأخلاقية (دراز 1973, 17)ØŒ وكأن كل ما ينبغي على الباØØ« أن ÙŠÙعله هو أن يتجه إليه Øتى تنÙØªØ Ù„Ù‡ كل مغاليقها. وهنا يتساءل المرء عن سبب الاختلا٠القديم بين المدارس الإسلامية العقدية والÙقهية منذ القرون الأولى Øتى اليوم ÙÙŠ تصور هذه النظرية وتØديد Ù…Ùرداتها! إن هذا الموق٠يعكس تجاهلًا متعَمَّدًا ليس لهذا التراث ÙØسب، بل لأØد الأسباب الكامنة خلÙه، وهو طبيعة الخطاب القرآني، وقابليته لتعدد القراءة.[13]
نعود إلى مكلين الذي يرى أنّ مَنْ يَقرأ٠القرآنَ بلا خيال٠موسيقي، وبلا ذائقة شعرية، Ù…ÙØاولاً تجريدَه إلى البعد القانوني الØرÙيّ، وإخضاعَه إلى قراءة٠واØدةÙØŒ لن ÙŠÙهمه كما يجب، بل وسيÙØَوّرÙÙ‡ عن رسالته التعددية:
Whoever reads the Quran without a musicalized, poetic imagination, trying to reduce it to the prosaic “legal†status of the factual kind appropriate for a mathematics textbook thereby radically diminishes his own world and falsifies Muhammad’s (59).
هذا الربط٠بين التناغمات وبين الوØÙŠØŒ نابعٌ كذلك من تَصَوّر مكلين للقرآن وللموسيقى؛ إذ يرى أن الموسيقى ليست إلا نظريةً للتّناسÙب (ratio theory)ØŒ بل ويذهب إلى القول بأنّ الأقدمين أطلقوا اسم “الموسيقى†على نظرية التناسبات؛ لأن الإغريقَ والمصريين السومريين اكتشÙوا جمالَ الوتر والقيثار Øين أبانت تلك الآلات٠عن تناسق وتماثل لم تلتقطه الأعين٠وإنما الآذان٠(84)ØŒ Ùقد كانت علوم٠الأقدمين—الموسيقى والرياضيات والÙلك—مÙتَوØّدةً (99). وعلى الجانب الآخر، Ùالقرآن مليءٌ بالإشارات إلى التناسق والنظام؛ كقوله تعالى (إنا كلَ شيء٠خلقناه٠بÙقَدَر) [القمر، 49]ØŒ وقوله (ما ترى ÙÙŠ خلق الرØمن من تÙاوت) [الملك، 3]ØŒ ومن هذا الباب يلØظ مكلين التلاØÙ…ÙŽ بين علم التناسب—المسمى موسيقى—وبين القرآن، لاسيما Ùكرة الثنائية ÙÙŠ القرآن، والتي تعتبر مبدأ رئيسا ÙÙŠ كل الÙنون القديمة، والÙلسÙØ©ØŒ والأديان (82)ØŒ والتي ÙŠÙعَبّر عنها القرآن بعدة نماذج كالجنة والنار، الّذَيْن ÙŠÙمثلان “تناسق الأضدادâ€Ø› إنها ثنائيةٌ Øاصلةٌ من انقسام “الواØد†(101): (أوَلم ير الذين ÙƒÙروا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقًا ÙÙŽÙَتَقناهÙما) [الأنبياء، Ù£Ù ].
إن القرآنَ، ÙÙŠ رؤية مكلين المÙعمة برياضيات التناغم، يوازن٠بين أمرين؛ بين قوة الإيقاظ والإطلاق، وبين قوة التقييد والإمساك، “والتوتر†الØاصل بسبب هذا التوازن الصعب= قد يكون Ø£Øدَ أعظم٠إنجازات القرآن (6). كما أنّ الأثرَ المباشر للقرآن هو أنه يغرس ÙÙŠ النÙس شعورا “بالاتجاهâ€ØŒ بشكل يجعل الØياة طقسًا Ù…Ùقدسًا Ù…ÙبْهÙجًا، ويÙقَوّض٠Ùكرةَ المجتمع اللا روØيّ:
But the main effect of the Quran is to instill a sense of direction. It is an antidote for materialism. It denies mere matter-of-fact can rule our lives. It makes life itself a joyful sacrament. In short, it subverts the whole notion of a secular society intentionally (41).
ÙŠÙقَرّر٠مكلين ÙÙŠ آخر الكتاب أنّ التأملات٠القرآنيةَ= مغامراتٌ ÙÙŠ الخيال التاريخي، والخيال الÙلسÙÙŠØŒ ومغامرات ÙÙŠ الشعور، ولكنه يعتر٠بأن المغامرةَ تستلزم المخاطرةَ (122)ØŒ وأن الرØمةَ والشعورَ الإنساني المشترك لهما Øدود، Ùلا يمكن إجبار٠أØد٠عليهما، وهو معنى أدركه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا إكراه ÙÙŠ الدين) [البقرة، 256]Ø› ÙÙŽÙ…Ùنْ أجل اللØظات التي ÙŠÙØ®ÙÙ‚Ù Ùيها الشعور، ويكتش٠Ùيها الناس٠أن نداءاتÙهم الداخلية لا تتÙق٠مع Ù…ÙŽÙ† Øولهم، ولا تÙطابق ما يشعر به الآخرون؛ Ùقد علّمَ جبريل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خاتمةَ كلمات المØبة التي ÙŠÙمكن أن تÙقال: (لكم دينÙكم، ولي دينÙ) [الكاÙرون، 6]:
Adventure entails risk. That human compassion and shared feeling have limits and cannot be coerced, the Prophet knew: “Let there be no compulsion in religion†(ii. 256). Where feeling fails, where men discover that their private intuitions cannot confirm that of others, or gain confirmation by others, Gabriel taught Muhammad the last loving words which can be said:
To you be your Way,
And to me mine.
(cix.6) (122-123).
[1] Ernest G McClain, Meditations through the Quran: Tonal Images in an Oral Culture (York Beach, Maine: Nicolas Hays, Inc., 1981).
[2] أبو Øامد Ù…Øمد الغزالي، Ø¥Øياء علوم الدين (جدة: دار المنهاج للنشر والتوزيع، ٢٠١١)ØŒ المجلد الثاني، ص ٣٠٣؛ Øيث يقول: “ومعاني القرآن من جملة الملكوت، وكلÙÙ‘ ما غابَ عن الØواسّ ولم ÙŠÙدْرَكْ إلا بنور البصيرة؛ Ùهو من الملكوت.â€
[3] F. Leighton Wingate, The Published Writings Of Ernest Mcclain Through Spring, 1976 (Masters Thesis, North Texas State University: Texas: 1977), pp. 1-2; Obituary: (https://www.legacy.com/obituaries/nytimes/obituary.aspx?n=ernest-glenn-mcclain&pid=170921414).
[4] Ernest G McClain, The Myth of Invariance: The Origin of the Gods, Mathematics and Music from the Rg Veda to Plato (Stony Brook, N. Y.: Nicolas Hays Ltd., 1976), p. 195.
[5] Ernest G McClain, The Pythagorean Plato: Prelude to the Song Itself (Stony Brook, N. Y.: Nicolas Hays Ltd., 1978), p. 131.
[6] وأنا أقرأ هذه الكلمات لمكلين، طرأ عليّ ذكر٠القرآن٠لكلمات أولئك القوم٠الذين يعرضون عن سماع القرآن خشية تأثيره ÙÙŠ أنÙسهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا Ùيه لعلكم تغلبون) [Ùصلت، 26].
[7] الØسين بن عبدالله ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، تØقيق الدكتور سليمان دنيا (بيروت: مؤسسة النعمان للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٢)ØŒ المجلد الثاني، الصÙØات 389-394.
[8] Dimitri Gutas, Avicenna and the Aristotelian Tradition, (Leiden: Brill, 2014), pp. 179-201.
[9] لاØظ هذا المعنى ÙÙŠ قوله تعالى: (لنهدينهم سبلنا) [العنكبوت، 69]ØŒ Øيث٠جَمع السبل، ولم يجعلها سبيلا واØدا. والله أعلم.
[10] Edmund Husserl, “Philosophy as Rigorous Science†in Phenomenology and the Crisis of Philosophy, edited by Quentin Lauer (New York: Harper, 1965), p. 144.
[11] طه عبدالرØمن، سؤال الأخلاق مساهمة ÙÙŠ النقد الأخلاقي للØداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقاÙÙŠ العربي، 2000)ØŒ ص. 156.
[12] طه عبدالرØمن، سؤال الأخلاق مساهمة ÙÙŠ النقد الأخلاقي للØداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقاÙÙŠ العربي، 2000)ØŒ ص. 157.
[13] سامر رشواني، “الدرس الأخلاقي للقرآن: قراءة ÙÙŠ بعض المقاربات الØديثةâ€: ( Journal of Islamic Ethics, 2017, 1(1-2), 158-194, 166.)