جمل (قصتي الفائزة عام 1997، بجائزة نادي جامعة القاهرة)

  • كنت أركب الجمل وهو يجري، كانت بي قوة جمل…

قال جدي الشيخ ذو الهيئة المُصَدِّقة قوله وقد سبق الثمانين.

إنه الآن مضطَجِع على مصطبته التي يلازمها لأنها تضطجع أَوّلَ الدار بحيث تمكنه من أن يراقب الداخل والخارج والصامت والناطق، وأنا جالس أمامه على حصيرة مبسوطة بدهليز الدار، ظهري إلى جدار القاعة البَرّانية العتيقة المجيدة التي آوت عوائل عريضة ملأت الدنيا.

كانت بيننا فُسْحة تمكن بهائمه من أن تمر متى شاءت؛ فقد كان يكره أن نُضَيِّق عليها أو أن نؤذيها.

وبهائمه خمس لا سادسة لها:

  1. ناقة حمراء مكحولة العينين مغربية، يرجو أن يخرج منها خلف يرث جمالها.
  2. وجاموسة سوداء قرناء أليفة -كانت تحبني وتضع لي رأسها لأركب في غفلة من جدي- تركها صاحبها النصراني عنده شركة، غير أنه لم يكن يسأل عنها.
  3. وحمارة بيضاء أصيلة حمّالة أذى صبور، لو كانت تدري ما الشكوى لأثارت عليّ الثَّقَلَيْن!
  4. ونعجة بلقاء مِتْآم خير خلف بقي من سلفها الثلاثين التي كان جدى يرعاها لأبيه، غنّامًا يجوب الأرض غير عابئ بسَهْل ولا حَزْن إلا أنْ يَملّه.
  5. وكلب أَرْمنتيّ، أسود يخدع منظرُه الأليف ثم يفجع جوهرُه العنيف المخيف، ذكيٌّ يفهم عن جدي بالإشارة ما ربما لم أفهمه ولا بالعبارة!
هذه حمارته، وهذا حفيده!

كان مربض الناقة بناحية من الدهليز، ومربض الجاموسة والحمارة العزيزتين بالزريبة، ومربض النعجة بجانب واجهة الدار، والكلب جَوّال بين المرابض.

  • كنت أركب الجمل وهو يجري، كانت بي قوة جمل…

تعرف البحر؟

  • أجل، وأخافه!
  • مررت على جسره مرة ولم يكن Ø«ÙŽÙ…ÙŽÙ‘ إنسيّ ولا جنّيّ، أَلْكُمُ وجه الأرض المغبرّ بظهر مداسي، وأنشق الهواء ثم أزفره ضاربًا بعضه ببعضه، فإذا صوت امرأة تصرخ، فأقبلت عليه فوجدت شابّا فتيًّا وراء امرأة كانت غسلت مواعينها بالبحر، كأنه يراودها حتى لقد يتناول بعض ثيابها، وكأنها تقاتله حتى لتكاد تضربه ببعض مواعينها صارخة:
    • أمَا هنا من رضع لبن أمه! يا ناس، الحقوني!
    • أنا رضعت لبن أمي، وقد أحسنت رضاعي…

ثم تناولْتُه -قال جدي- فكأنه ميتٌ في يد مُغَسِّله، واجتمع ناس؛ فكانوا يقيمونني به ويقعدونني به، حتى كاد يبادرني إلى حتفه!

  • يا لها قوةَ شَهْم لو لم يَشُبها إعجاب بالمرأة!
  • ويلك! هذا خداع ورياء، ولم يكونا في غنّام مثلى، يقضي عنفوان شبابه خاليًا، إلا من الغنم الثلاثين الغريرة، والأرض القفر، والسماء الصافية…

بنت يا نادية، جهِّزي أعواد الذرة أمام الناقة، واحملي أوراقها إلى الجاموسة، واخلطي للحمارة التبن بحب الذرة، وانظري هل لدى النعجة العزيزة ما يغنيها؟ وهذا الكلب لم تهملونه؟ رحم الله زمانا لولاه فيه معنا لضعنا!

الشاي، يا مبروكة!

كانت للدكتور عزبة يئس من أن يستفيد منها مالا أو ثمرا؛ فهناك عاثت في الزمام عصابة سوء، وضع الناس لها خدودهم وطأطؤوا رؤوسهم.

وكان الدكتور قد سمع بي، فأرسل يستعملني على أرضه أحرسها له، وكنت قد سمعت بتلك العصابة، فكأن الدكتور أصاب ما أراده قلبي؛ فلم أكن أهنأ بلذة الأمان والراحة وأولئك الجبناء طلقاء يصرفون أيديهم كيف شاؤوا.

سهرت ليلةَ أوّلِ حراستي، فأحسستُ لسور الحطب الذي يُطِيفُ بالأرض صوتا، فعلمت أن شخصا يحاول اختراقه، فراقبته، وتبعته حتى إذا جاوز إلى أرضي أهويت على قفاه، فملكته مُحْكِمًا خناقه، فصرخ، فَجَرَرْتُه إلى حيث يجتمع أصحابه، ثم لمّا اقتحمت عليهم مستنقعهم مبهوتين رفعته إليهم وزجرتهم:

  • اسمعوا -أيها الجُبَناء الحُقَراء- هذا غبيُّكم تركته ليعلمكم مبلغ ندمه لِمَا لقيه، وأما أنا فليس عندي إلا أنه إذا عَنَّ لي أحدكم أو توهمت أنه عنّ لي، فسأقطِّعه حتى لا تلتقي قطعة من جسده بأخرى.
  • جدِّى، وتركوك؟
  • يا مسكين، الشجاعُ مُوَقّى، بل رحلوا من الزمام كله، واطمأن الناس والدكتور، ووجدت عندئذ طعم الأمان والراحة.

آه على تلك الأيام!

الشاي -يا مبروكة- الشاي، يا وليّة!

ألا تعلم أنني عملت خفيرًا فى «عُمُوديّة» جدّ أمّك الشيخ مبروك؟

  • قد علمت أنه كان عمدة متعلمًا محبوبًا.
  • لقد حكم بي هذا البلد، فانقطعت شكاية الفلاحين؛ كنت إذا عدا أحدهم على أخيه ربطته إلى تلك النخلة الطويلة هناك، وضربته حتى يرحمه المعتدَى عليه!

كان جدُّ أمك حكيمًا وكنت يده التي يردع بها، وما كنت أرضى أن أكون يدًا لغيره.

أجل، كانت بي قوة جمل، كنت أركب الجمل وهو يجرى…

الشاي!

أنت، يا وليّة!

  • ما لك -قالت جدتى مبروكة-

ألَنْ تنتهي عن هذا النداء!

ألم نحجّ معًا بيت الله!

وأنت، تُراك صدقت هذه الحكايات الجديدة!

أنا معه منذ ستين سنة، فمتى كان ذلك!

Related posts

Leave a Comment