صلاح عبد الله

ظهيرة أحد أيام خريف 1988ØŒ وكنت في تمهيدية ماجستير قسم النحو والصرف والعروض، معيدا بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، خرجتُ من الكلية أسعى إلى حافلات النقل، فوجدتُّه قد سبقني يتحسَّس بعصاه الطريق إليها -وكنت عرفتُه طالبا بالفرقة الثانية وأنا طالب بالفرقة الرابعة، يدخل علينا في مكتب أستاذنا الحبيب الدكتور رجاء عبد المنعم جبر، ذامًّا جهله ببعض المسائل البلاغية، لا يخلط بالعربية الفصحى كلمة عامية واحدة، فيتبسَّم له أستاذُنا محتفيًا به مُوحيًا لنا أن ذلك إنما هو مِن تجاهُل العارف- فأمسكتُ بيده لنصعد خشية التأخر إلى إحدى الحافلات المارّات بنا على ازدحامها، نَتخلَّل فيها المُخلَّلين وهو يقول لي: “اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ” -!- حتى وقفنا أمام بعض القاعدين، فطلب منه ترك كتبه له ولم تُطلعه نَظّارتُه على حقيقة حاله، فأبى عليه، فاستنكر، فاعتذر: “هَذَا شَرَفٌ لِي، وَلَكِنَّنِي أَسْتَخِفُّ حَمْلَهَا”Ø› فعجب الرجل لهذا الكلام “النحوي”ØŒ وأعاده عليه سخرية منه، ثم لم يلبث أن قام، فقعد هو مكانه وأنا واقف أمامه نتحدث في طلب العلم. ذكرت له بعض كتب الأدب العربي الكبار، فقال لي: لَا بَأْسَ بِهَا إِذَا حَفِظْتَهَا! وهو الذي لما صادَفَته في الطريق نجوى إبراهيم المذيعة والممثلة المعروفة، فحاورته على البديهة ببرنامجها “فكر ثواني واكسب دقايق”ØŒ وبهرها نَهَمُه العلمي، وتجمع عليهما الناس، فوصفَت له تَجمُّعَهم- قال لها: لَيْتَهُمْ جَمِيعًا قُرَّاءٌ (يقرؤون له ما يشاء)! ثم جمعتنا ملتقيات جماعة الشعر، فعجبتُ فيها منه يُلَمِّع القصائد (ينظمها عربية فصحى صدور أبياتها، إنجليزية ساخرة أعجازها)! ثم ضرب الدهر بيننا ضرَبانَه، ولم أعد أراه إلا من وراء الحُجُب المُتلفَزة، قد تخرج، وحصل في الفلسفة من كليتنا على الماجستير والدكتوراة، وحظي بوجوه كثيرة من التكريم مصرية وعالمية، ثم اشتغل بالسياسة متحولا عن الفصحى إلى العامية يردد قصائدَه الساخرةَ فيها الصغارُ والكبارُ، ثم بالبرامج الإعلامية التثقيفية تحتشد له فيها الحشود، أخي الدكتور صلاح عبد الله. 

Related posts

Leave a Comment