فاروق شوشة

ما زلت أذكر أنني كنت أنتبه أواخر سبعينيات القرن الميلادي العشرين، إلى براعته في محاورة ضيوف أمسيته الثقافية حتى ليكاد يستولي دونهم أحيانا على البيان، وإلى قول أمي -رحمها الله، وطيب ثراها!-: “الراجل دا ما بيسيبش حد يتكلم”! فأما برنامجه الإذاعي “لغتنا الجميلة” الذي صار اسمه على كل لسان وفي كل مكان، فقد كان باب مغارة “علي بابا” المسحور الذي ينفتح بصوته الضخم الرخيم الفخم؛ فتنثال انثيالا جواهر الأدب العربي المبين! لم أكن أظن أنني سأتحول عن طريق العلوم الطبيعية إلى طريق العلوم الإنسانية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، التي تخرج فيها قبلي بثلاثين عاما تقريبا، لأحضر في الطلاب المحتشدين بمدرج علي مبارك باشا، محاضرة توجيهية عارضة، حفزنا فيها محاضرها الأستاذ عرفة عبد المقصود المعيد بقسم النحو والصرف والعروض، إلى محبة الكلية والاجتهاد فيها والصبر عليها، بتعليقنا بصورة أشهر خريجيها وأبهرهم، لأجد قصيدته “يقول الدم العربي” ب”قراءة الشعر” كتاب أستاذنا الدكتور محمود الربيعي، الذي درسناه عليه في السنة الثالثة! ثم رأيته مرارا في الأمسيات الشعرية، ولاسيما بمعرض القاهرة الدولي للكتاب مع رفيقي أمسيته الدائمين فاروق جويدة الصحفي المصري وسعاد الصباح الأميرة الكويتية. وما زلت أذكره في إحداها يقدم قصيدته “مهرجان العبير”ØŒ بقوله: دُعيت إلى مهرجان شعري كويتي؛ فاهتممت له، ثم لما حضرت وجدتني الرجل الوحيد في جمع من الحسان المشاركات؛ فقلت من وقتي هذه القصيدة! ثم لقيته بمكتب الدكتور عبد الفتاح عثمان وكيل كلية دار العلوم مدعوا إلى أمسية شعرية، والطلاب بمدرج علي مبارك باشا محتشدون صاخبون، والدكتور عبد الفتاح يسأله أن يذهب إليهم ليهدئهم؛ فيقول له: لا، بل لو ذهبت لازداد هياجهم؛ فيتبسم الدكتور عبد الفتاح معترفا للنجم بوهج سطوعه! ثم لقيته بمكتب أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن عميد كلية دار العلوم أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين، مدعوا بعقب أحد اجتماعات مجلس الكلية الذي كان أحد أعضائه الدائمين، إلى حلوَيات منمنمات، أبى أن يصيب منها قائلا على بديهته الحاضرة: لا صغيرة مع إصرار! ويسأله الدكتور بلتاجي: أصحيح أن نزار قباني يكتب لسعاد الصباح شعرها؛ فلا ينكر، ولكنه يذكر بعمل ذلك صالح جودت، ثم يستطرد إلى أمثلة عجيبة من سرقة القصائد والتقدم بها إلى الجوائز! ثم جرى ذكر أحمد عبد المعطي حجازي الذي استضافه بأمسيته كثيرا بعد رجوعه من فرنسا؛ فقال: إنه يريدك أن تشعر بأنه هو المثقف، وأنك يجب أن تسمع له وتتعلم منه! ثم لما احتفلنا عام 1993ØŒ بعلي مبارك باشا مؤسس كلية دار العلوم احتفالنا الكبير، وقدمتُ أمسيتنا التاريخية (http://mogasaqr.com/?p=3243)- رتبتُ الشعراء ألفبيًّا، واصطنعت لكل منهم بيتين من مشطَّر الرجز، أدعوه بأحدهما، وأحييه بالآخر، فقلت فيه:
سابقتُ بين صوته وشعرهْ
فسبَقا فنحن طوع أمرهْ
هاءتْ لك استمِع حنين الدارِ
فإنها في العشق لا تداري
أشيرُ إلى ديوانه الصادر عندئذ “هِئْتُ لكِ”! ثم لقيته أواخر التسعينيات بأحد مواسم جامعة السلطان قابوس الثقافية محاضرا بقاعة مؤتمراتها، يذكر أن حياة العربية من حياة العرب، ويمثل بكلمة “انتفاضة” التي بدماء الفلسطينيين دخلت لغات العالم كما هي! رأيته في تلك المواقف وغيرها، فلم أر إعلاميا يَفري فريَّه! نعم؛ لقد احترف العمل الإعلامي، ولكنه احتمى من سخافاته ومهازله بالتثقف المنهوم، ولاسيما أنه كان مضطرا إلى تحصيل ما يبثه ببرنامجه الإذاعي وما يحاور به ضيوف برنامجه المتلفز، حتى لقد تطلع إلى استضافة محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا؛ فأبى عليه بأنه لا يعرفه، ودعاه على كرمه إلى بيته، فكأنما كان في هذا اللقاء ما أغنى كلا منهما عن اللقاء المتلفز! لقد سطع نجمه مبكرا بما أوتي من وسامة وأناقة وأبهة وثقافة وطلاقة ولباقة وفخامة، حتى كان لقاؤه أمنية المتمنين أيًّا كانوا! وانفتحت له المنابر العلمية والتعليمية والفنية والتثقيفية طوال عمره، حتى سخط عليه بعض المتطلعين ممن لا ذِكرَ لهم معه! وحظِي شعره بذلك كله عند متلقيه متثقفين ومثقفين وعلماء؛ فلم يستطع أحد أن يرد شفاعة مواهبه المختلفة في شعره! نعم؛ فشعره على وجه العموم وسط لا رديء ولا جيد، لم ينبع عنده من فذاذة أهواء ولا تجارب ولا تعبيرات، ولاسيما إذا وُوزِن بشعر أمل دنقل مجايله الذي فضَّله هو على نفسه وهو أسبق منه إلى مجموعته الشعرية الأولى. ومن تأمل اللقاء المتلفز الفريد الذي اجتمعا فيه هما وعبد الرحمن الأبنودي، وقف على فرق ما بين الشاعر الكبير الآسر والشاعر الوسط الأسير! لقد أصاب الدكتور عرفة عبد المقصود حين علقنا بمثاله في أوليتنا بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة؛ فقد ظل طوال حياته كبيرا نزيها كريما رفيعا، نتشرف به نحن وسائر المشتغلين باللغة العربية في كل مكان. وفي عزائه اجتمع المفترقون على حسن ذكره؛ فكأنما انتظم بهم في مماته من الشعر الجيد ما لم ينتظم له في حياته، أستاذنا الحبيب فاروق شوشة، رحمه الله، وطيب ثراه!

Related posts

Leave a Comment