الخداع العلمي، للدكتور مصطفى السواحلي

خواطر دار السلام
الخَاطِرَةُ التَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ
الخِدَاعُ العِلْمِيُّ

ستقولُ: أيُّ تناقُضٍ يحمِلُهُ العنوانُ بينَ الصِّفةِ والموصوفِ؛ فالعلمُ والخداعُ عَدوَّانِ لَدُودانِ، وخَصْمانِ مُتناوئانِ، وبَحْرانِ لا يلتقيانِ، بينهما برزخٌ لا يبغيانِ، وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ؟!
فأقولُ: رُوَيْدَكَ، لا تعجَلْ عليَّ؛ فالشيطانُ الذي لبَّسَ على الإنسانِ عبادتَهُ، وأفسدَ عليه آخرتَهُ، ومزَّقَ حبالَ الوصلِ بين قلبِهِ وربِّهِ، ألا يستطيع أنْ يُلَبِّسَ عليه أمرَ العلمِ، وأنْ ينحرفَ به عن غاياتِهِ السَّاميةِ إلى دَرْكِ التنافُسِ الدُّنْيَويِّ المَقيتِ، وأنْ يخلطَ الحابلَ بالنابلِ، والخاثرَ بالزَّبادِ؟ فإذا النَّاسُ حَيارَى في مَتاهةٍ مُضِلَّةٍ، لا يَصْدقُ عليها إلا قولُ شيخِ المَعَرَّةِ:
كَأَنَّنَا فِي قِفَارٍ ضَلَّ سَالِكُهَا *** نَهْجَ الطَّرِيقِ، وَمَا فِي القَوْمِ خِرِّيتُ!
فالواقع المرُّ يُثبتُ يومًا بعد يومٍ احتلالَ شياطينِ الإنسِ مساحاتٍ شاسعةً من أرضِ العلمِ، وإنزالَهم كتائبَ من المُرْتزقةِ في تلك الأراضي المحتلَّةِ، مُتدثِّرينَ بعباءاتٍ طالما كانتْ مقصورةً على الأُصَلاءِ، فصارتْ نَهْبًا للدُّخَلاءِ، وكَلَأً مُباحًا للجُهَلاءِ!
وسبيلي أنْ أُشِيرَ في عُجالةٍ مُخِلَّةٍ –لأنَّ البَسْطَ والإسفارَ يحتاجُ إلى أسفارٍ -إلى جُملةٍ من المجالاتِ التي استنْسَرَ فيها البُغَاثُ، وتَثَعْبَنَ الحُفاثُ، وانقلبتْ فيها كلُّ الآياتِ الربانيَّةِ إلى آياتٍ شيطانيَّة؛ فلا جرمَ أنْ ترى المؤذِّنَ قابضًا على صليبِهِ، والإمامَ يُصلِّي على جنابةٍ!

خواطر دار السلامالخَاطِرَةُ التَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَالخِدَاعُ العِلْمِيُّستقولُ: أيُّ تناقُضٍ يحمِلُهُ العنوانُ…

Posted by ‎د. مصطفى السواحلي‎ on Friday, January 31, 2020

أولًا: العُلُومُ المزيَّفَةُ: فقد قسَّمَ القدماءُ العلومَ إلى علومٍ محمودةٍ وأخرى مذمومةٍ، وعدُّوا من تلك الأخيرةِ السِّحْرَ والتَّنجيمَ، وربَّما ضَمُّوا إليها الكيمياءَ والمنطقَ والفلسفةَ… وغيرها، وحذَّروا من الانخداعِ بعناوينِ كتبهم البرَّاقةِ منْ أمثالِ: “شمس المعارف الكبرى”ØŒ Ùˆ”الكبريت الأحمر”ØŒ Ùˆ”غاية الحكيم”. وفي أواخرِ القرنِ الثامنِ عشرَ ظهرَ مصطلحُ العلومِ المزيَّفةِ (Pseudoscience)ØŒ ويعنونَ بها تلك العلومَ التي لا تستندُ إلى حقائقَ ثابتةَ بدلائلَ قطعيَّةٍ أو شبهِ قطعيَّةٍ، وحسبُكَ منها اليومَ ما انبَعَثَ سَدَنَتُهُ في كلِّ وادٍ كالجرادِ المنتشرِ، يحملونَ حقائبَ التنميةِ البشريَّةِ، ويعرضونَ على الفارغينَ جُملةً من الدوراتِ “الكورسات” في علومِ الطاقةِ الإيجابيَّةِ والسلبيَّةِ، فيجمعون أولئك السَّذَّجَ في قاعاتٍ، ويقودونهم إلى جملةٍ من الحركاتِ البهلوانيَّةِ التي توهمهمْ بطردِ الظُّلُماتِ الشَّيْطانيَّةِ للطَّاقةِ السَّلْبيَّةِ منْ أجسادهمْ شرَّ طِرْدَةٍ، وإحلالَ الأنوارِ الملائكيَّةِ للطاقةِ الإيجابيَّةِ محلَّها. ويقيني أنَّك إذا كنت شاهدتَ جلساتِ “الزَّارِ” قديمًا؛ فستعلم أنَّ القديمَ والحديثَ خرجا مِنْ مشكاةٍ واحدةٍ، بلْ من كَنيفٍ مُشْتَركٍ، أعني كنيفَ الدَّجَلِ والتلبيسِ. والأمرُ عندي لا يعدو أنَّ تلك الحركاتِ البهلوانيَّةَ المجنونةَ تُخَلِّصُ الجسمَ مِنْ تَوتُّراتِهِ، شأنُها شأن كثيرٍ من الألعابِ الرياضيَّةِ لا أكثر! ولكنَّ الحداثة تقتضي الخروجَ منْ عباءةِ العجائزِ بِتَمائِمِهِنَّ العتيقةِ إلى خُبراءِ التنميةِ البشريَّةِ ذوي الملابسِ الأنيقةِ!

ثانيًا: الجَوْدَةُ الشَّكليَّةُ: وأنا ابتداءً لا أشكُّ في أنَّ تجويدَ العملِ وإتقانَهُ من لُبابِ الإسلامِ، وأنَّ الإهمالَ والعشوائيَّةَ وجميعَ أخواتِها النابعةِ من رَحِمِ ثقافةِ “البَلْطَجَة” هي ألدُّ أعداءِ العلمِ والثقافة. ولا أشكُّ كذلك في أنَّ الجودةَ ليستْ مطلوبةً لذاتِها، بلْ لغيرها، فهي مجردُ علامةٍ على واقعٍ يُفترضُ أنْ يكونَ جيِّدًا. ويقيني أنَّ الذي يشتغلُ بتلكَ العلامةِ الظاهرةِ عمَّا تُشيرُ إليه منْ حقائقَ حاضرةٍ لا يَعْدو ذلكَ المُريدَ الذي ذهبَ إلى حلقةِ الذِّكْرِ، فجعلَ يقولُ: “الله، الله، الله” مؤكِّدًا العددَ كلَّ مرَّةٍ على أصابِعِهِ بقوَّةٍ وعنايةٍ، فقال له الشيخُ: اشتغلْتَ بالعَدَدِ عَنِ المَعْدودِ! هكذا سمعتُ الخبرِ منْ فَمِ شيخِنا العلَّامةِ محمد حسن جبل رحمه الله.
وواقِعُنا الذي لا شكَّ فيه أنَّ المؤسساتِ التي حصلتْ على وِسامِ الجودةِ، وصَكَّ الغُفرانِ من هَيئَتِها القوميَّةِ لم يتغيرْ فيها شيءٌ ذو بالٍ في الواقع العمليِّ، فلا الأستاذُ الذي يُهملُ في أدائِهِ قد انزجَرَ والتزَمَ، ولا الطالبُ الخاوي قد تشبَّعَ بما دَرَسَ وَالْتَهَم، ولا المنهجُ المُهْلهلَ قد استقامَ عِوَجُهُ، ولا أنظمةُ التقويمِ قد عدلتْ عن انحرافِها، ولا الإدارةُ قد هبَّتْ عليها نسائمُ التَّحديثِ، وإنَّما يومُها الحاضرُ كأمْسِها الدَّابرِ، وما أظنُّ غَدَها ممَّا درجتْ عليه ببعيدٍ!

ثالثًا: الإجازاتُ المدفوعةُ الثَّمنِ: وهذا بابٌ يُدْمي الفؤادَ، فقدْ تكالبَ طلابُ العلمِ على طلبِ إجازاتٍ في القرآنِ الكريمِ وقراءاتِهِ، أوْ في الحديثِ الشريفِ وعلومِهِ… وغيرهما، وصاروا يهتمُّونَ بالسندِ المتَّصلِ كلَّ الاهتمامِ، ناهيكَ عن زَخْرفةِ الشهادةِ وما عليها منْ أختامٍ، ولا شكَّ أنَّ نفرًا منَ العلماءِ ما زالوا مُرابطينَ على ذلك الثغرِ، ولا يُعطونَ الإجازةَ إلا لمستحقِّها بشروطِها. ولكنَّ نفرًا ممنْ لا يرجونَ للهِ ولا للعلمِ وقارًا قد انحرفوا عن ذلك، وصارَ بمقدورِ مَنْ لا يحفظُ القرآنَ حقَّ الحفظِ، ولا يُجوِّدُ أداءَهَ حقَّ التجويدِ أنْ يحصل على تلك الإجازة في جلسةٍ واحدةٍ شكليَّةٍ، هدفُها الأعظمُ دفعُ الثَّمنِ، والغَوْصُ في حَنايا جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأنِ، وبعدها يخرجُ المُجازُ وهو يزهو زَهْوَ الطاووسِ بريشِهِ، أو الغنيِّ بِرِياشِهِ، ويذهبُ يُخايلُ ويُفاخِرُ، ويدَّعِي علمَ الأوَّلِ والآخرِ. وأذكرُ يومًا أنَّني كنتُ مُحكَّمًا في إحدى المسابقاتِ القرآنيَّةِ الكُبْرى، وفي التصفيةِ النهائيَّةِ دخل أحدُ المتسابقينَ، وناولني إجازةً في القراءاتِ السَّبْعِ أو العشرِ لا أدري، فقلت له: أَمْسِكْ عليكَ إجازَتَكَ، فوالله، ما معي مثلُها، ولكنَّ شيوخي رحمهم الله أجازونِي شفويًّا بعد اللَّتَيَّا والَّتِي، ولمْ تكنْ تلكُ الشهاداتُ الورقيَّة معروفةً يومَها، ثمَّ امتحنْتَ الطالبَ امتحانِيَ أقرانَه، فلم تنفعْهُ إجازُتُهُ يومَ الامتحانِ، وقصَّرَ في الإجابةِ؛ فكانَ من الرَّاسبينَ!

رابعًا: الشَّهاداتُ العَوارءُ: وشبيهٌ بتلكِ الإجازاتِ “المَضْروبَة” الشهاداتُ العلميَّةُ التي تمنَحُها مدارسُ وجامعاتٌ تقبَعُ في “بير السّلم”ØŒ وتعتمدُها وزاراتُ التعليمِ العالِي، وتُعادِلُها للأسفِ كثيرُ من الجامعاتِ. وهذا باب كبيرٌ من أبوابِ التَّدليسِ والتلبيسِ، فقد حدَّثَنِي مَنْ أثِقُ به أنَّ مدرسةَ (كذا) الدوليَّةِ تُعْطِي شهاداتِ الثانويَّةِ البريطانيَّة والأمريكيَّة المعتمدةَ من هاتين الدولتين العُظْمَيَيْن، والمعترفَ بها في جُلِّ جامعاتِ العالمِ، من خلالِ دفعِ الرسومِ الدراسيَّةِ، والحضورِ يومَ الامتحانَ فقط، وهم يعرفونَ الامتحانَ، ويُقَدِّمونَهُ للطالبِ معَ الإجابةِ، وما لكَ إلَّا أْن تحصُلَ على (A) في جميعِ الموادِّ، حتَّى لو كنتُ تكتبُ الإنجليزيّ من اليمينِ، ثمَّ تذهبُ بها إلى أيِّ جامعةٍ شِئْتَ. أمَّا الذي أعرفُهُ شخصيًّا فهو عددٌ من الجامعاتِ المفتوحةِ التي تحملُ ألقابًا أمريكيَّةً وأوربيَّةً، والتي تمنحُ الماجستير والدكتوراه في العلومِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، وقدِ ابتُلِيتُ بتحكيمِ رسالةٍ فِيها، فآليْتَ ألَّا أعودَ لمثلها يومًا، وانتُدِبْتُ للإشرافِ على أخرى، وبعد نحو شهريْنِ قدَّمْتُ اعتذارًا عن المُضِيِّ في هذا العبثِ، الذي بمقتضاه حصل كثيرٌ من الناسِ على شهاداتِ الدكتوراه، وباتوا يغضبونَ كلَّ الغضبِ إن لم تنادهم بلقبِ الدكتورِ!

خامسًا: المؤتمراتُ التِّجاريَّة: فكمْ من مؤتمرٍ يُدْعَى “علميِّ”ØŒ يَسْعى إليه المُؤْتَمِرونَ أو المُتآمرونَ لا سَعْيَ الحَجيجِ إلى الحَرَمِ، وإنَّما سَعْيَ السُّيَّاحِ إلى الهَرَمِ، فيقدِّمونَ أوراقًا هَزيلةً، رُبَّما قَمَشُوها مِنْ مَوْلاهُم “جوجل” قَدَّسَ الله سرَّه، وأدامَ بِرَّه، ثمَّ يحصلونَ على خطابِ القبولِ بعدَ ساعةٍ منْ إرسالِ المُلَخَّصِ، وما عليهمْ إلَّا أنْ يدفعوا بضعَ مئاتٍ من الدولاراتِ من أجلِ تلك السياحةِ المتدثِّرَةِ بعباءةِ العلم، والحصولِ على شهادةِ المُشاركةِ، وبعضهم قَدْ حصلَ عليها دونَ أنْ يَحْضرَ، لكنَّهُ دفع الرُّسومَ فاستحقَّها بِالمُشاركةِ الوجدانيَّةِ. وإنْ تعجبْ فعجبٌ ألَّا تُعْقَدَ بعضُ تلك المؤتمراتِ في أروقةِ جامعةٍ عريقةٍ، يُقابلُ فيها المشارِكُ العلماءَ والأدباءَ، ويَسْرَحُ في رياضِ المكتباتِ حيث شاءَ، وإنَّما في شواطئَ سياحيَّةٍ مشبوهةٍ، على غرارِ جزيرةِ “بالي” (Bali) في إندونيسيا، أو جزيرةِ “بوكيت” (Phuket) في تايلاند!

سادسًا: النَّشْرُ المموَّلُ: فكلُّ مَنْ يعملُ في الجامعةِ تؤرِّقُهُ مؤشراتُ الأداءِ (KPI)، وتَسُلُّ عليهم المجلَّاتُ المُصنَّفةُ ضِمْنَ (ISI)، أو (Scopas) سيوفَها في الأحلامِ، فلا جرمَ أنْ يقعُدَ لهمُ الشيطانُ بكلِّ طريقٍ، وأنْ يُمَهِّدَ لهمْ طريقَ النشرِ تمهيدًا، ويُطْمِعُهمْ في أنْ يزيدَ، حيثُ تسلَّلَتْ أعدادٌ هائلةٌ من المجلاتِ التافهةِ إلى ساحاتِ التصنيفِ، ونادتْ على الأولِ والآخرِ: هَاتِ ما عِنْدكِ هَاتِ! غاية ما في الأمرِ أنْ تكتبَ المقالةَ باللغةِ الإنجليزيَّةِ، أو تُكْتَبُ لك، وأنْ تدفَعَ رُسُومَ النَّشْرِ، وهي بِضْعُ مئاتٍ من الدولاراتِ، وبعد أسبوعٍ ستجد بحثَكَ منشورًا في إحدى تلك المجلاتِ، أو كتابَكَ في قالبٍ إلكترونيٍّ ممهورًا باسمِ دارٍ دوليَّةٍ للنشرِ، مَصْكوكًا عليه سعٌر باهظٌ، فإنْ أردتَ لنفسكَ -وأنت المؤلِّفُ -نسخةً واحدةً فعليك أنْ تدفع ثمنَها ورُسُومَ الشَّحْنِ لتصلك حيثما حَلَلْتَ، وربَّما كُنْتَ المُشْتَرِيَ الوحيدَ لها. وقدْ قَهْقَهَ الشيطانُ عندما وجدَ سبعةً يكتبونَ أسماءَهمْ على بحثٍ نظريٍّ في نحوِ عشرينَ صَفحةً، فقال لهم: ألمْ أكنْ قدْ نهيتكمْ عن الإسرافِ في تلك الغوايةِ، حتَّى لا يُفْتَضَحَ أمرُكُمْ وأمْرِي؟ فقالوا: سَيِّدَنَا المُطاعَ إنَّما نتقاسمُ رسومَ النشرِ، ونرفع الـ (KPI)، فقد خَلَت الجُيوبُ، وظَهرت العيوبُ! فقال: سُحْقًا لمَنْ علمتهمُ التسوُّلَ، فسبقونِي إلى الأبوابِ!

سابعًا: المؤشِّراتُ البحثيَّة: ونختمُ بالهمِّ الأعظَمِ لدى المشتغلينَ في الجامعاتِ والمراكزِ البحثيَّةِ، والسَّاعينَ إلى التفوُّقِ على أقرانِهمْ لغاياتٍ علميَّةٍ تارةً، وماديَّةٍ تاراتٍ، إنَّها مؤشراتُ جودةِ البحوثِ وسعةِ انتشارِها، أو ما يُعرفُ بمُعامِلِ تأثيرها (Impact Factor)، فقدْ تمخَّضَتِ السنواتُ القليلةُ الماضيةُ عن جُملةٍ من المؤشِّراتِ تقيسُ جودةَ البحوثِ العلميَّةِ، من خلال قياسِ سعةِ انتشارِها بإحصاءِ عَدَدِ الاقتباساتِ منها في البحوثِ العلميَّةِ، وأهمُّ تلك المؤشرات: (H-INDEX)، و(i10-INDEX)، و(G-INDEX)، وبينها فروقٌ معقَّدَةٌ جدًّا في المعادلاتِ الرياضيَّةِ لحسابِ مُعامِلِ التأثيرِ لديها، وصار همُّ كُلِّ باحثٍ أنْ يكتبَ في سيرتِهِ الذاتيَّةِ رصيدَهُ من النقاطِ في تلك المؤشراتِ؛ فهو عندهَ أغلى من رصيده في المصارفِ، ولك أنْ تقولَ: إنَّه ثَمَنُهُ في بورصَةِ العُلماءِ والبَاحثينَ.
ولستُ أريدُ الخوضَ في الوسائلِ الشيطانيَّةِ التي تُخادَعُ بِها تلك المؤشراتُ بسيلٍ من الاقتباساتِ الزَّائفةِ، أو المَعاوضةِ الاقتباسيَّةِ، فأنا أقتبسُ منك وأنتَ تقتبسُ منِّي، وهو ما يرفعُ المؤشِّراتِ للطرفينِ، وبخاصَّةٍ لدى من يعيشونَ في دولٍ كُبْرى كالهندِ مثلًا. ناهيك عن تهميشِ غير اللغةِ الإنجليزيَّةِ في تلكَ المؤشِّراتِ، حتَّى وإنْ كان الباحثونَ يعملونَ في دولٍ كبرى كالصين واليابان وألمانيا، ولكنَّهمْ لا يكتبون إلا بلغاتهم الوطنيَّة. وعنْ تجاهُلِ البحوثِ التي لا سبيلَ إليها؛ لأنَّها لا تعتمدُ على الاقتباسِ الإلكترونيِّ، أو على الانخراطِ في المنظوماتِ العالميَّةِ لكتابةِ الحواشِي مثل: (APA)، و(Chicago)، و(Gost)… وغيرها.

وإنَّما أريدُ أنْ أختمَ بأنَّ مكانةَ العالمِ الحقيقيِّ لا تُقاسُ بالكمِّ بل بالكيفِ، والتأثيرُ الحقيقيُّ إنَّما يقاسُ بمداهُ الأبعدِ لا بالفُقاعاتِ الوقتيَّةِ ساعةَ النَّشْرِ، وهذا ما أكَّدَهُ التاريخُ في العالمِ شرقًا وغربًا، ففي ثقافتنا العربيَّة نجد أنَّ سيبويه (ت180هـ) لم يكتبْ إلا “الكتاب”ØŒ وما أدراكَ ما هو حتَّى سُمِّيَ بقرآنِ النَّحْو، وعبد القاهر الجرجانيّ (ت471هـ) لم يؤلفْ عُشْرَ مِعْشارِ ما ألَّفه السيوطيُّ (ت911هـ)ØŒ لكنَّ تأثيره أعظمَ وأجلَّ، وشِعْرَ أبي الطيِّبِ المتنبِّي (ت354هـ) يبلغ نحو 5578 بيتًا، وهو نحو السُّدُسِ من شعر ابن الروميِّ (ت283هـ) الذي يبلغ 30515 بيتًا، أو الرُّبع من شِعْر مهيارِ الدَّيْلميّ (ت428هـ) الذي يبلغ 22515 بيتًا، ولا مقارنة بين الأثر الشعريِّ الذي أحدثه أبو الطيِّبِ، وأثرِ غيرهِ على مرِّ العُصُورِ!
وفي الثقافةِ الغربيَّةِ نجدُ أنَّ فرديناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure) الذي يُوصَفُ بأنَّه أبو اللسانيَّاتِ الحديثةِ، ليس له إلا محاضراتٌ كان يُمْلِيها على طلابِه، والتي جُمِعَتْ في كتابٍ عنوانُهُ: “محاضراتٌ في علم اللسانِ العامِ”ØŒ وما أدراكَ ما هو؟ ولا نكاد نعرفُ له كتابًا سواه! وقِسْ على ذلك روايةَ “مرتفعات وذرينج” (Wuthering Heights) لإيميلي برونتي (Emily Brontë)ØŒ ورواية “صورة دوريان جراي” (The Picture of Dorian Gray)ØŒ لأوسكار وايلد (Oscar Wilde) فكلتاهما يتيمةٌ لصاحبها، ومعدودتان ضِمْنَ روائعِ الأدبِ الإنجليزيِّ والعالميِّ!

فلا تأسَ أيُّها الباحثُ الجادُّ على تلكِ المؤشِّراتِ، ولا عليكَ أنْ تكونَ من أصحابِ الواحدةِ بمصطلحِ ابن سلَّامٍ الجُمَحِيِّ، وكَبِّرْ على أطلالِ سوقِ العَلْمِ المُفْعَمةِ بِالخِداعِ والمخادعينَ، وأنت تردِّدُ أبياتًا من القصيدِة اليتيمةِ، لدوقلةَ المَنْبِجِيِّ التي يقولُ في مطلعها:
هَلْ بِالطُّلُولِ لِسَائِلٍ رَدُّ *** أَمْ هَلْ لَهَا بِتَكَلُّمٍ عَهْدُ؟

  • * *
    نجز في بندر سري بجاوان – بروناي دار السلام
    الجمعة، 5 جمادى الآخرة 1441هـ
    الموافق 31 يناير 2020م

Related posts

Leave a Comment