لعنة التخصّص، لفهد عبد الله

عند تخرّجك من المدرسة، آخر مراحل التعليم الشامل والمتجانس، يحدّد لك المجتمع مسارات معدودة لتختار منها ما يضمن لك دخلًا ثابتًا، ولمحيطك وجاهةً، ولوطنك إنتاجيةً. سيصبح جزءاً من هويتك، ومعياراً لقيمتك، وقد يكون لعنةً تلاحقك بقية حياتك. هذه سمة الحياة المعاصرة التي تهيئ الفرد من طفولته إلى التخصص من خلال التعليم النظامي ابتداءً من المدرسة وصولا إلى الجامعة.

https://mana.net/archives/3678

إن تخصص الأفراد سبب رئيسي لتطور أي مجتمع، فقد أكدّ الاقتصادي “آدم سميث” قبل أكثر من ٢٠٠ سنة -في كتابه “ثروة الأمم” الذي يعدّ أحد أهم الكتب في التاريخ- أهمية تقسيم العمل في زيادة الإنتاجية. شركة السيارات التي تقسم العمل بين الأفراد، كلٌّ في مجاله المعين، ستتفوق على شركة السيارات التي تقوم بتدوير الموظفين للعمل في كل المجالات. من خلال انفراد كل عامل في “تخصصه”، تتطور مهارته ويزداد خبرة في أداء مهمته، وتصبح الشركة أعلى كفاءة. وهكذا الأمر في كل الدول المتقدمة وحال عامة الشركات.

حين تتقدم للوظيفة، ستُسأل مباشرة عن تخصصك، عن علمك الواسع في مجالك الضيق. ومع زيادة المتخصصين، تزداد الإنتاجية ويزداد التطور. التخصص حقيقة باقية معنا.  Ù…ع ذلك، فقد تغلغلت فكرة التخصص في العقل المعاصر إلى أن أصبحت مسلّمة مخيفة، فالتخصص يُنافي الفضول والمرونة والحرية الإنسانية. هو شرٌ لا مناص منه كما وصفه عالم الفيزياء “إيروِن شرودينغر” في أحد كتبه. فطأطأة الرأس المستمرة في مجال واحد فقط لها ضريبة لا مفر منها، هي محدودية الأفق والانفصال عن الواقع ونسيان لغة العامة والتوجس من الانغماس في المجالات الأخرى رغم أهميتها في التكوين الفكري للإنسان.

لقد أضحت التخصصات العلمية والتقنية ذريعة لتجاهل الفلسفة والتاريخ والفنون والآداب، وكأنها معارف هامشية لا تضفي شيئاً. بينما للتخصصات الإنسانية والاجتماعية والأدبية امتيازًا عن تلك الطبيعية في نظرتها المحيطة للإنسان وقربها من النفس البشرية. على الجانب الآخر، فإن المتخصص في المجالات الأدبية قد لا يجد حرجاً من جهله وتجاهله لأمور علمية كثيرة، وكأن التخصص الأدبي يخلق عجزاً عن فهم العلوم الطبيعية.

المرونة هي إحدى أجمل الملكات الأساسية للبشر، والتخصص ليس عذراً لتجاهل النظرة الشمولية للإنسان والطبيعة والحياة، والابتعاد عن محاولة توسيع المدارك والآفاق. هناك أمثلة لا تُحصى ممن أبدعوا لأنهم تعددوا في تخصصاتهم، لكن سرد تلك القصص قد يخلق صورة سلبية عن أحادية التخصص رغم أهميتها الماسة اليوم. مع ذلك، فإن هناك اقتراح بأن تكون هناك جائزة شبيهة بنوبل لمن يتميز في جمعه بين التخصصات المختلفة نظراً لأهمية ذلك في المسيرة الإنسانية لفك أسرار الكون.

وإذا ما تأملنا المجال الأكاديمي، نجد أن المعرفة بدأت كدولة لها لغة واحدة، فتعددت لهجات المدن، إلى أن تعددت اللغات في كل مدينة، فأصبح الباحث المتخصص يعجز عن التواصل مع المتخصصين في المجالات الأخرى، وعن الربط بين لغة تخصصه ولغة المعرفة الأم، ولا يعرف حتى مكانه في الدولة رغم تميزه في مدينته. ولعلنا نجد في نظام الدكتوراه الحالي معالم واضحة على معضلة التخصص، فالدراسات العليا ما هي إلا تخصص في تخصص. قتلت دقة التخصص الروح الفلسفية التي نشأ عليها نظام الدكتوراة، حيث الأولوية اليوم لخلاصة الدراسات والاكتشافات، أما تاريخ التخصص وفلسفته فكأنها مضيعة للوقت بمعلومات عفى عليها الزمن، فقد أثبت التخصص جدارته، وما جدوى دراسة جذوره أمام كتاب يستعرض آخر المستجدات وأحدث النظريات؟ عندما تتخصص في مجال ما، فإنك تسلم فوراً بمسلمات لا وقت للخوض بها بسبب التراكم المستمر للمعلومات المتجددة. هذا يجعل أسئلة الغرباء عن التخصص صعبة أحيانا، ومزلزلة في أحيان أخرى. أصبحت الدكتوراه اليوم أقرب لكونها عملية ميكانيكية ترتكز على قائمة من المهام التي يحددها المشرف البحثي، رغم وجود الاستثناءات، لذا فقد أخرجت عددًا كبيرًا من العقليات التي لا تفقه شيئاً بالمنهج العلمي رغم أن الدكتوراه شهادة بالأهلية في ذلك. لم يعد حاملي شهادة الدكتوراه بتلك الهيبة العلمية مع سقوط العديد منهم أمام أبجديات التفكير المنطقي أمام العامة، فهُم يفهمون تخصصهم لكنهم يجهلون أبعاده وامتداداته الواقعية والاجتماعية والفلسفية. جعل هذا عددًا من الباحثين يقترحون عدداً من الحلول لمعضلة التخصص في الدكتوراه، مثل أن تكون السنة الأولى فلسفية نقدية، يدرس فيها الباحث نظرية المعرفة والتفكير النقدي والميتافيزيقا وفلسفة الأخلاق وعلم الاحتمالات والإحصائيات. بهذا يكون باحث الدكتوراه واسع الأفق ذا نظرة شمولية غير محصورة في مجال ضيق، يملك أدوات التفكير ولا يكتفي بالمخزون العلمي فقط.

وفي حياة العامة خارج الإطار الأكاديمي، نجد أن التخصص خلق هاجسًا من الخوض في التخصصات الأخرى، فكلٌّ موسوم بتخصص واحد فقط، وإن تجاوز ذلك فتلك هوايات لا أكثر. أصبح تخصصك هو ميدانك الذي لا يحق لك الخروج منه، إلا بالتحول إلى تخصص آخر، إلا باختيار عنبر آخر. أصبح سؤال: “هل أتبع شغفي أم ما يضمن راتبي” يتكرر وكأنهما طريقان في مفرق، وكأن التعمق في أحدهما ابتعاد عن الآخر، وهذه صورة خاطئة عن محدودية في المرونة البشرية.

أصبح هناك شكل من أشكال النفور حتى من الاطلاع على التخصصات الأخرى، بحجة أن فهمها صعب لغير المتخصصين. وإن طَرح من لا يحمل شهادة تخصص معلومة ما وأخطأ فيها وُجهت له السخرية المبتذلة “من أتى بغير فنه أتى بالعجائب”، وكأن لكل إنسان فناً واحدًا فقط.

إن الإنسان كائن مرِن بقدرة فذة على التعلم والتأقلم، يملك خيالًا واسعًا ويسعى دائماً لفهم الوجود، يعيش في صراع مستمر مع فضوله الباعث للحياة للهروب من وحشية التخصص. مع ذلك، فإن التحدث خارج إطار التخصص الجامعي لا يعني التحدث بثقة في كل الأمور وادعاء فهم كل شيء، فالشخصية الموسوعية انقرضت منذ زمن طويل جدًا، ولا يمكن لأحد الإحاطة بكل شي. هناك فرق بين الموسوعية والتخصص والإحاطة والإلمام والدراية. فغير المتخصص لا يعني بالضرورة غير الملم، لعل الأصح هو أن المرء إذا تكلم من غير إلمام أتى بالعجائب، فالمتخصص بنفسه قد يأتي بالعجائب.

ختاماً، اقرأ في التاريخ والعلوم والدين والفلسفة والرياضة والاقتصاد والأدب وكل ما يدفعك الفضول نحوه، تعلم مونتاج الفيديو وإدارة الأعمال والتصوير الفوتوغرافي وكتابة الرواية واحترف كل ما تريد احترافه، فالتحرر من التخصّص فضيلة. 

Related posts

Leave a Comment