خواطر عن قراءة ورش، لعبد الرحمن الطويل

(1)

قال ابن حزم رحمه الله عن رواية حفص: (وهي خيرُ القرآن عندنا) يقصد خير القراءات، ربما لأنها أضبط القراءات على اللغة النموذجية التي قعّدها النحاة.

وأقول – ولستُ نِدًّا لابنِ حزمٍ – إن رواية ورش خيرُ القرآن لمن كان مُتغنيًا، لأن تفردها بمدود البدل واللين وصلة الميم زيادة على المدود المشتركة مع القراءات الأخرى يمنح القارئ مساحات أكبر من الاتصال الصوتي، وتفردها بالنقل (نقل حركة الهمز بعد سقوطه) وترقيق الراء وتغليظ اللام يمنحها تركيبة صوتية متميزة لا تتوافر لغيرها، مكتسبة هذا التميز من مخالفتها للعربية النموذجية التي قعدها النحاة، والعربية التي يحتملها كلام الناس العادي الذي لا يحتمل رُبع هذا القدر من المدود، مع انتظام قواعدها في هذه المخالفة.

(2)

كان الشيخ طه الفشني رحمه الله كثير القراءة برواية ورش، بل إن كثيرا من تلاواته يستأثر ورش بأكثرها، وربما كانت مدود ورش الكثيرة أوفق لطبيعته الإنشادية المنطلقة.
وكان والشعشاعي الكبير قبله لا يخرجان من حفص إلا إلى ورش، ولأحكام ورش في تلاواته لذة لا أجدها كثيرًا عند غيره، ومِن طريف أمرها معه أنها تسللت من تلاوته إلى إنشاده، فوقف يُعيد بيتَ البُرعي المرةَ بعد المرة:

ويا غافر الزلّات وهْي عظيمةٌ
ويا نافذ التدبير ما شاء يفعلُ

بترقيق الراء من غافر، وأنا أجد لها حلاوة ترقيق الراء في التلاوة، وقلتُ لعله غلبت عليه ورش أول مرة وسيفخمها في الإعادة، فأعادها مرققةً وأصرّ.
وفعل نفس الأمر في توشيح آخر إلا أن النسيان غلبني عليه.

(3)

في أكثر التلاوات اعتاد القراء الإعادة بورش بعد حفص، وبخلف بعد ورش، لأن الروايات الثلاث الأوضحُ اختلافًا في أحكام الهمز وما يتعلق به من المدود، فبينما يوافق حفص اللغة النحوية القياسية، يُسقط ورش الهمز وينقل حركته إلى الحرف الساكن قبله، ويسكت خلف على الساكن قبل الهمزة، فهما – ورش وخلف – نقيضان في الاتصال والانقطاع الصوتي في هذه الحالة، ويسلكان بنغم القارئ طريقين متعاكسين، ولعل أوضح مثال على هذا الاختلاف من جملة كثيرة الهمزات، قراءة الشيخ محمود علي البنا في حفلتي النجم (حفلة الخمسينيات وحفلة الكويت) لآية “هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ Û– ” فهي بورش أطول ما تكون وأشد اتصالًا “هو أعلم بكمو~إذَ انشأكم من الَارضِ وإذَ انتمو~أجنةٌ في بطون أمهاتكم” وهي بخلف عن حمزة أشد ما تكون تقطيعًا “هو أعلم بكم* إذ* أنشأكم من الـ*ـأرضِ وإذ* أنتم* أجنةٌ في بطون إمِّهاتكم”.

والقارئ الحصيف هنا لا بد أن يسلك أسلوبين نغميين متغايرين، الأولى جملة طويلة ممتدة بمدودها منزلقة بسقوط همزاتها، فلا بد أن يجعل للمدود ظهورًا بالنغم وألا يُمرّها ساذجةً خالية من الصنعة، أما الثانية فجُملة مقطعة إلى وحدات قصيرة تتخللها سكتات، وتحتاج إلى براعة في إنشاء جُمَل نغمية قصيرة تمثل السكتات بينها نهاية جملة وبداية أخرى حتى تنتهي آخر جملة بقفلة أكثر شغلًا من قفلة مقطع ورش، لتعويض التوقفات التي سببتها السكتات، وهو ما فعله الشيخ البنا ببراعة.
ولا يخفي على قارئي هنا أن هذا التنظير تنظير المستمع استنباطًا لا تنظير القارئ لنفسه، لكن لو وعاه القراء الشباب فهو جيد لهم.

(4)

“إنّ هذا لفي الصُّحف الُاولى”
“اقرأ وربُّك الَاكرم”
“إن الِانسان لفي خُسر”

ما الذي يفعله إسقاط الهمزات من (الأولى) و(الأكرم) و(الإنسان) ونقل حركاتها إلى الساكن قبلها؟

الأثر السماعي الأكبر هو إسقاط السكون نفسه، صحيح أن الهمزة سقطت لكن حركتها بقيت، والحرف بقي لكن سكونه سقط، سقط السكون وأصبحت الحركات أكثر، وأقرب من بعضها، صار الكلام أسرع وأذلق على اللسان وفي الأذن
وهذا أطلَقُ للسان القارئ المتغني ولأُذُن المستمع وقلبه

(5)

ما اللذة في تغليظ لام (الصلاة) وأمثالها عند ورش؟
اللذة أنه فعل صوتي لم نقم به وأثر سماعي لم نتذوقه في اللغة الفصحى إلا في لفظٍ واحد، هو اسم الجلالة.
ورش يتيح لنا استعماله مرات ومرات.
اللذة أنه يعيد الاعتبار لقانون المماثلة الصوتية الذي تجاهلته قواعد التفخيم والترقيق الثابتة.
اللذة هنا أننا نخالف القاعدة بقاعدة، لا نشوزًا ولا شذوذًا ولا استراقًا ولا إباقًا، وشيء كثير من لذة القراءات غير المشهورة راجع إلى هذا، إنها فنّ بديع القرآن المُنزل معه،الذي غفل عنه أهل الشعر والغناء.

“رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي”
الشيخ طه الفشني مرة أخرى
حفلة قصر رأس التين عام 1948

(6)

حفّت هذا المنشورَ خواطر كثيرة عن القراءات لكني رأيتُ قصرَه على ورش فقط.

Related posts

Leave a Comment