انتظار، للدكتور السيد شعبان جادو

يتوقف أمام المرآة التي تآكلت حوافيها، يدور حولها؛ ينظر وجهه فيجده يشبه ما يفعله الصغار حين يمسكون بالقلم أول مرة، يرسمون للغد صورة لم تتحق يوما، يسرق الزمن بكل أثقاله ما يتمنونه، كلها أشياء تداعت، طائرة ورقية يعبرون بها إلى عالم جميل؛ كانوا يرسمون على شراعها سفينة تتراقص وحمامة تحمل أغصان الزيتون، صارت اليوم بومة تقذف باللهب، عصا خشبية يتخيلونها بندقية؛ اصطادت العصافير وتساقطت بعدها أوراق الأشجار الغضة، لم تقو على ذبول الخريف. جدائل البنات تقصفت؛ سكنتها العناكب؛ لم تعد ثمة أمهات تعتنين بهن. فلا جدوى من إناث أصيبت أرحامهن بالملوحة. حين أتى الربيع كانت كل البراعم ذابلة. في لعب الصغار يمثل الطيف واقعا؛ كل هذا ذهب مع الريح. يتأوه حزينا لم يقل كل الكلمات؛ لم يحقق الحلم، يخرج من تلك الحجرة ويتمنى أن يغوص في تلك الجموع التي تدب في شوارع المدينة، يبحثون عن موضع قدم تركه له الأجداد، يراهم بلا هدف فقد اختلفوا على كل شيء، يلوكون المفردات الساذجة والتي فقدت جدواها، يتحركون كما لو أنهم مخدرون، فيما مضى كان يلقى التحية ويبش في وجوه الذين يرافقونه، يبدو أن ذلك الحدث أصابهم بهشاشة الذاكرة، في كل ناحية تبقى منهم ذكرى، كانوا يفترشون ذلك المكان، ترددت أغانيهم بالحب الذي أزال تراكم الثلج، لم يدركه ذلك الممسك بصافرته النحاسية، لشدما تعاطف معه، إنه يعاني من سطوة العابرين، لم يغير موضعه منذ كان الحلم يختال في الميادين، ثيابه تهرأت، يبدو أن مرآته هي الأخرى مصابة بالغبش. تنطلق صافرته، فلا تتوقف السيارات، تتداخل تلك الجموع في اتجاهات متعاكسة، هل تراهم أصيبوا بالعمى؟ يتحين مساحة فارغة، يصعد درج سلم محطة القطار، الآن يستطيع أن يرى! من بعيد يعدو كلب خلف فتاة، لا أحد يقذفه بحجر، تصرخ فيتردد صدى صراخها، ينشغل عنها رجل المرور بصافرته النحاسية، عيناها تثيران فتنة، شعرها المتماوج هفيف ريح في خريف عمره، يتحسس وجههه الذي عبثت به السنوات، يتمنى أن لو كان ذلك الكلب يعدو خلفها، يصرف بصره ناحية بائع الصحف، طاولته الخشبية يتراقص حولها الذباب، تلك الجموع التي تسير لا تفكر في عناوين الأخبار، لقد ملت تلك الأوهام المعدة في الحجرات المكيفة والتي تضج من عطور باريس؛ يكتبها الذين ما نظروا في مرآة تشبه تلك التى اعتاد أن ينظر فيها كل يوم! تتساقط أمطار الشتاء؛ تضربه في غير توقع، حين ذاك ينظر في كل اتجاه، صار الناس كتلة بشرية واحدة، هل ضربتهم حالة من توحد؟ توقفت الحركة أسفل سلم القطار، تجمد رجل المرور في منظر يثير السخرية، الكلب الذي كان يعدو خلف الفتاة بات تحت قدميها، صوت من مكبر صوت أعلى البناية المقابلة يتتالى؛ سحابة أمطرت ماء غير معروف، لا تشربوا منه، لا تلمسوه، دعوه يتساقط دون أن تفكروا فيه. في لمحة من بصر مرر أصابعه على وجهه مسح شعر رأسه، شعر أن شيئا طارئا سرى داخله؛ الفتاة ذات الوجه المثير للفتنة تلوح له، يبدو أن تلك التجاعيد اختفت من وجهه، حركت شفتيه مبتسما.


Related posts

Leave a Comment