ظاهرة الإلحاد في القرن العشرين (1975)، لعبد الكريم الخطيب

“الإلحاد سمة ظاهرة من سمات العصر، ولون بارز من ألوان المدنية الحديثة، وذلك نتيجة لأزمة الصراع بين العلم والدين والمادة والروح ومطالب الحياة العاجلة المسعفة ووعود الآخرة المؤجلة إلى ما بعد الموت والبعث.

هذا هو واقع العصر الذي نعيش فيه، قد كشف العلم فيه للناس عن كل مجهول كان يروعهم ويفزعهم حتى ليلجئهم ذلك إلى الفرار من عالمهم هذا المخيف إلى العالم الآخر الذي يدعوهم إليه الدين ويكشف لهم معالم الطريق فيه. وإذا اطمأن الإنسان إلى وجوده في العالم الأرضي، ووضع يده على مواطن السر منه- لم تعد به من حاجة إلى عالم آخر يهرب إليه وينشد السلامة في رحابه، بل إن ثقة الإنسان بنفسه وبالقدرات التي بين يديه قد جعلته يتطلع إلى العالم العلوي، لا ليلجأ إليه ولا لينشد الحماية عنده، وإنما ليستولي عليه ويمسك زمامه ويحيي فيه استعمارا جديدا، بدلا من الاستعمار الذي غربت شمسه أو كادت على هذه الأرض!

ومن هنا بردت حرارة الإيمان في القلوب، وخمدت أو كادت جذوة الدين في النفوس؛ فلا دين إلا دين الواقع، ولا إيمان إلا بالمادة المحسوسة ومستخرجاتها.

ومع هذا فإني لا أذهب مذهب المتشائمين الذين فزعوا لهذه الموجات من الإلحاد التي أخذت تغزو شبابنا المثقف، وتزعزع إيمانه بالله وثقته في أحكام دينه وتعاليمه. لا أقول ذلك استخفافا بالخطر المحدق بالشباب، ولا تطمينا للقلوب التي كَرَبها هذا الأمر وأقامها على هم وخوف من ذلك المستقبل المظلم الذي يصبح الناس فيه وقد أَجْلَوُا الدين عن مواطنه من –هي فيه “عن”ØŒ ولعل الصواب ما أثبت- عقولهم وقلوبهم. وعلى كل فإن الأمر جد خطير لأنه يمس الصميم من حياة الأمة، إنه يمس الجانب الروحي والعقلي معا، وإنه لا بقاء لأمة أظلم روحها واضطرب تفكيرها ولصقت بالأرض لصوق الهوامّ والحشرات.

ومع هذا فإني كما قلت لا أذهب مذهب المتشائمين لما نرى أو نسمع أو نقرأ عما يشيع في شبابنا المثقف من آراء جريئة في الدين وشطحات بعيدة عن العقيدة وما يتصل بها؛ وذلك إذا نظرنا إلى الأمر من وجهه الآخر، وقسنا أبعاده بمقياس دقيق من النظر المتفحص والرأي البعيد عن الهياج العاطفي، وذلك الرأي الذي يدعو بالحسنى ويجادل بالتي هي أحسن- عندئذ تبدو لنا حقيقة واضحة، وهي أن هذه الظاهرة يجب أن ننسبها إلى نتيجة لازمة لتلك الدراسات العلمية الحديثة التي اصطبغ بها العقل، والتي تقوم على الشك لتبلغ اليقين، وتجمع العلل لتصل إلى المعلولات. إن ذلك هو أسلوب البحث العلمي في هذا العصر في التعرف على الحقائق والاطمئنان إليها.

ومن غير الطبيعي أن يلتمس العقل أسلوبا غير هذا الأسلوب في البحث عن الحقيقة الكبرى (الله رب العالمين)، وإنه ليس في مقدور أية قوة أن تصد العقل عن البحث عن الله بهذا الأسلوب، كما أنه ليس في مستطاع أية قوة أن تلزم العقل نتيجة لا يجد عليها دليلا واقعا محسوسا يكاد يشهد به الله عيانا.

وإذن فهذا الطور الذي يعيش فيه الشباب المثقف هو طور طبيعي، وهذه الظاهرة من الشك والإلحاد التي تظهر أعراضها على بعض الشباب ليست في ذاتها مصدر خطر، بل ربما كانت الطريق المأمون الذي يصلهم بالله، ويوثق صلتهم به، ويدفئ صدورهم بالإيمان المستنير القائم على البحث والنظر والمعاناة.

وغاية ما هنالك هو أن نراقب شبابنا المثقف بعين بصيرة نافذة، ترد الشارد، وترشد الحائر، وتقيم بين يديه منارات الهدى وهو في هذا الطريق، وألا نرمي هؤلاء الشبان بالكفر والإلحاد؛ فإن مثل هذه الرَّمَيات تباعد بينهم وبين الاستماع إلى كلمة الحق، وتغري الكثير منهم بالعناد والإصرار على الموقف الذي هو عليه، بل ربما استبد به العناد؛ فخطا خطوات بعيدة فيما بين يديه من ظلام دامس يضل فيه ويصبح من العسير استنقاذه.

ثم مع هذا يجب أن نضع بين يدي شبابنا المثقف بحوثا واضحة تجيب على كثير من الأسئلة المحيرة التي تثور في أذهان الشبان خاصة: عن الله، وعن البعث، وعن الجزاء، وعن القضاء والقدر، وعن الجبر والاختيار، وعن الخير والشر، وغير ذلك مما يتصل بما وراء الحس. كل هذا بمنطق العقل وأسلوب العلم الذي يتشكك ثم يوقن ويفترض ثم يحقق؛ فبمثل هذا يمكن أن نعالج حيرة الشباب ونعينهم على اجتياز مرحلة الشك؛ فإننا إذا عرفنا كيف ننتفع بهذه الحيرة لنحيلها يقينا، وبهذا الشك لنجعله إيمانا- فإذا استطعنا ذلك كنا قد أضفنا إلى المجتمع الإسلامي جيلا من أكثر الناس إيمانا وأثبتهم عقيدة، لأن هذه التجربة التشككية أو الإلحادية التي مروا بها وهم في طريقهم إلى الإيمان، قد أكسبتهم حصانة ضد الشك والإلحاد، كما يكتسب المريض حصانة ضد المرض الذي أصيب به”ØŒ 139-143.

Related posts

Leave a Comment