صفحة لا تطوى، لطارق سليمان النعناعي

شيخي وأستاذي الدكتور فتحي محمد أحمد جمعة، صفحة في ضمير العربية ووجدان الإسلام، لا يطويها زمان، ولا يمل من النظر فيها، والامتلاء بحروفها، عاشق للعربية، أو مهموم بالإسلام. ولد في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وألف، ميلاديا، وعاش في المنصورة في مدينة بلقاس بجمهورية مصر العربية.

التحق بكُتَّابها، وحفظ القرآن الكريم، وهو دون السادسة من عمره. وكان أول ما قرأ بعد كتاب الله – وهو دون العاشرة – كتاب “كليلة ودمنة”ØŒ يقرأه لجده يوميا على مصباح الغاز؛ إلى أن صار هو نفسه الوزير بيدبا حكمةً، وصار جده الملك دبشليم استماعًا.
والتحق بالأزهر الشريف، ونهل من علومه الشرعية واللغوية، وكان قارئا جيدا لمجلة لواء الإسلام، وكتابات الكبار في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي – وهو ما زال يافعا – أمثال: الشيخ محمود شلتوت، ومحمد أبو زهرة، وعبد الوهاب حمودة، وعبد الوهاب خلاف. وبفضل القرآن الكريم وعلومه، صارت الفصحى لغته اليومية، أو كادت، واشتهر ببلاغته القرآنية، ونبرة صوته الرخيم، يتدفق بالعربية تدفق الجداول العذبة، تنساب معه لا يحدها سد، ولا يزداد سامعها إلا متعة بخرير مائها الرائق.
وفي صباه كان قارئا للكتب المترجمة، مثل: “مجدولين”ØŒ ولكل ما نشرته مجلة الرسالة، ولكتب العقاد، ولا سيما العبقريات، مثل: “عبقرية محمد” ØŒ Ùˆ”عبقرية عمر”ØŒ وغيرهما، وتأثر وهو دون العشرين من عمره بـ “اللغة الشاعرة”ØŒ Ùˆ”حقائق الإسلام وأباطيل خصومه” للعقاد.
ثم التحق بكلية دار العلوم، وحصل على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية، سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، ثم عين معيدا بقسم علم اللغة والدراسات السامية والشرقية، في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف، ثم حصل على درجة الماجستير في علم اللغة سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف، وعين مدرسا مساعدا في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر من العام نفسه، ثم حصل على درجة الدكتوراه في علم اللغة، سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف، وعين مدرسا بقسم علم اللغة والدراسات السامية والشرقية في السابع والعشرين من شهر يونيه من العام نفسه.
وكان ينصح طلابه المتشوقين إلى أسرار لغة القرآن بـ “البحر المحيط”ØŒ وتفسير “الكشاف”ØŒ Ùˆ “فتح القدير”Ø› والراغبين في الوقوف على أحكام القرآن بـ “تفسير القرطبي”Ø› أما “تفسير ابن كثير” فللراغبين في معرفة الأحداث وتفاصيلها.
وكان لأستاذنا جانبان: جانب الدراسات الإسلامية الذي أوقف نفسه على خدمته، جنديا من جنود الدعوة، وخطيبا ومحاضرا، بعيدا عن الرقائق، وقريبا من دحض الأباطيل، وتأصيل الفكر الإسلامي الصافي، كما خرج من مشكاة النبوة؛ وللأسف لم تسجل أغلب محاضراته وخطبه التي لو دونت لملأت مجلدات كثيرة.
وجانب الدراسات اللغوية الذي كرس حياته مدافعا فيه عن اللغة، وحارسا لحدودها، جاعلا من ذلك قضية حياته وهدفها، وغايتها، للحفاظ على الإسلام نفسه، فتلألأت عين سهرت تحرس، في سبيل الله، العربية، بكتابه ” اللغة الباسلة”.
وكان من عاداته أن يصطحب كتاب “رياض الصالحين” في سفراته، ويأنس به.
وهو أقرب إلى التراث والنحو، منه إلى العلوم اللغوية الحديثة، فهو تراثي النشأة، أصولي العقيدة. وهذا يفسر احتفاءه بالنحاة وكتبهم عامة، أمثال: سيبويه، وعبد القاهر الجرجاني، والمبرد، والفراء، وميله الشخصي إلى مؤلفات ابن هشام، التي ارتكز عليها في عمله مع الإذاعيين والإعلاميين، وفي محاضراته وندواته، ولا سيما “مغني اللبيب”ØŒ Ùˆ”قطر الندى”ØŒ Ùˆ”شذور الذهب”. وكان ولعا بابن جني وفكره اللغوي، ويراه علامة بارزة في تاريخ اللغة العربية.
المفارقة في علاقتي بأستاذي أنها بدأت – حقيقة – بعد عودتي من ألمانيا، والقيام بعملي بقسم علم اللغة والدراسات السامية والشرقية، فكان ترحيبه بي، وبمكتبي بجوار مكتبه في غرفة واحدة؛ أول ما جمع الشتيتين. فهو شيخ أصولي، ملتح، ملتزم، مدقق في جزئيات التزامه، لا يهمل صغيرها قبل كبيرها، ملتزم باللغة العربية الفصحى، أو يكاد في كلامه كله، ولا يقبل كلمة أعجمية، أو دخيلة، أو معربة، وإن لم يجد مقابلا فصيحا لها يتوقف – أحيانا – عن النطق بها، ويحاول أن يشرح معناها بالعربية؛ في حين أن جاره عائد من أوربا، ويبدو – في ظاهره – التأنق، والفرنجة، ما يوحي بما يتناقض ومبادئ الشيخ، ويوحي بتعذر التقاء الشخصين. فكانت المفاجأة أن تقارب الشخصان، ليس بوصفهما زميلين في قسم واحد، بل بوصفهما أستاذا وتلميذا، وشيخا ومريدا. إذا عنت للشيخ حاجة، وجد في تلميذه إسراعا إليها، وإذا أراد مشاركا له في لجنة الامتحانات الشفوية للطلاب، لم يأنس بغيره، وإذا أراد أن يأتمن أحدا على شيء، توجه إليه. وفي المقابل يرى التلميذ في الأستاذ القدوة الحسنة في الدين واللغة، من منطلق “أحب الصالحين ولست منهم”ØŒ ويرى ترفعه عن أمور الدنيا الصاخبة حولهما، في حين أن أغلب المحيطين بهما يتقاتلون عليها – إلا من رحم ربك – ويرى فيه نموذجا فريدا في هذا الزمان، لا تكاد ترى مثله؛ يصدر كتابا للطلاب، ويتركه للناشر بلا مقابل، ولا يأخذ شيئا من ثمنه، لصالح الطلاب، يترفع عن السعي إلى أي منصب، أو ترقية، تعطله عن أهدافه، وسعيه إلى الآخرة. لا يتدنى لأي سبب، ولا تتركه عزته، ولا يجافيه وقاره، ولا تفارقه أنفته في موقف من المواقف، أو في شاردة من الشوارد. يكفيه الكفاف في هيئته، وسكنه، ومركبته. لا يفرحه ما يفرح الناس من أمور الدنيا، ولا يحزنه شيء مما يحزنهم، وحينما شعر بما لا يرضيه، مما وجد فيه شيئا من إهانات الدنيا لراغبيها، لم يتردد لحظة في تقديم استقالته من الجامعة، على ما ترتب على ذلك من خسائر مادية وعلاجية، ولم يندم لحظة على هذا القرار الصعب، ووجد في نفسه الراحة والطمأنينة به.
ولورع الشيخ لم يذكر أحدا لي باسمه، ولم يغتب أحدا قط، ولم يشر إلى أي أحد بسوء، بل إذا ذكر اسما لا يذكره إلا بما فيه من خير وفضل. ولسانه بين الذكر والدعاء، تتعلم معه كيف يتعامل أهل الله وخاصته مع البشر خيرهم وشرهم. يضخم أقل معروف لصاحبه، ويحمله دَيْنًا لا يعادله شيء من إحسانه، ويبقي كريما مُلِكَ، ويتغافل عن أشد الإساءات، وأقبحها، ويتعالى عن الصغائر، ويبقى حليمًا عفا، ومحسنا أغدق.
وعندما كنت أواصله هاتفيا من سلطنة عمان، كان يحتفي بي احتفاء كبيرا يربكني، وأسمع منه ما أخجلني حسنه في حينه ويخجلني الحين أن أعيده، ما أظن أنني لست أهلا له، وإنما هو من فضل الشيخ وأدبه الجم، ومن فيض نورانياته القلبية، وجمال تعبيراته الخلابة، وبلاغته الرائقة.
تمنيت أن يكتب مقدمة مجموعتي الشعرية الثانية “وريقات توت”Ø› لما له من قامة علمية وأخلاقية، ولما له من رصيد ضخم في قلبي، ولما أبداه من ملاحظات نقدية دقيقة ووقفات واعية على مجموعتي الأولى “حفيف الصمت”ØŒ فوجئت بها أيما مفاجأة، ودهشت لها أيما دهشة، ولا سيما أنني ترددت كثيرا في إهدائه نسخة من هذه المجموعة، وخشيت أن يأخذ عليَّ شيئا مما يؤخذ على الشعراء من المشايخ، بيد أنه فاجأني بقراءته النقدية الواعية التي وقف فيها على الكلمة والحرف، ودقق، وتأثر، وانفعل بها، إلى درجة أن قرأ عليَّ – عبر الهاتف – بعض قصائدها، (مثل قصيدة “أعيدوني” ولا سيما الجزء الأخير منها) يتهدج صوته بها، ممسكا بكاءه، بما لا يخفى من العناء، ومخبرا بأنه بكى، أو كاد، عند قراءتها للمرة الأولى، وأنس بقراءتها وتكريرها. وأنه اكتشف صاحبها من جديد، ووجده كما يعرفه في قصيدة “يوجلينا”ØŒ وكما لا يعرفه في قصـــــيدة “الأطلال” التي سماها “الملحمة”ØŒ وفي قصـــيدة “أعيدوني”ØŒ وأثنى على ترتيب القصائد في المجموعة، ولا سيما ترتيب “أعيدوني” بعد “الأطلال” مباشرة، وأثنى على اللغة التي حافظت على التراكيب العربية الأصيلة، وبعض هذه الأساليب يكاد يكون مهملا، أو نادرا في استعمالات العربية المعاصرة. ولا أبالغ إذا ما قلت إن آراء أستاذي كانت أوقع في نفسي من نشر المجموعة نفسها، ولا سيما أنها تصدر من صاحب “اللغة الباسلة”ØŒ بتاريخه المعروف، وإن تأثره الشخصي بهذه المجموعة أسعدني، وزادني فخرا.
ومن هنا تمنيت أن يقدم لمجموعتي الثانية “وريقات توت”ØŒ وأرسلتها إليه عبر البريد الإلكتروني، وانتظرت – على أحر من الجمر – آراءه وتعليقاته، وفي أول اتصال به أخبرني بأنه مرض مدة من الزمن حالت بينه وبين القراءة الهادئة، لكنه قرأ شيئا منها على عجل، ولاحظ أن هذه المجموعة تميل إلى الرمز أكثر من سابقتها؛ ما يحتاج إلى جهد أكبر في فهم بعض رموزها.
وتأخر نشر هذه المجموعة، وما كنت لأنشرها إلا إذا أذن لي بذلك، وما تجرأت لأطلب هذا الإذن. ومن باب التأدب مع الأستاذ، لم ألح عليه في قراءتها، وكنت أواصله، أطمئن على صحته وأحواله، دون ذكر – من بعيد أو قريب – لموضوع مجموعتي التي بين يديه؛ لأن صحة أحواله وصفاءها خير عندي مما سواهما، إلى أن فجعني خبر وفاته؛ رحمه الله تعالى وأكرمه، كما يكرم الشهداء والصالحين. وقد صُلي عليه يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر يوم 11 من ذي الحجة عام 1439هـ، الموافق 22-8-2018Ù…ØŒ في مسجد الجمعية الشرعية بمدينة بلقاس بمحافظة الدقهلية..
وكنت في إجازة الصيف في مصر عند الفاجعة، وهرعت بسيارتي إلى طريق المنصورة، ولعدم معرفتي مكان العزاء هاتفت أهله وأنا على الطريق، وكانت المفاجأة أنهم انتهوا من الدفن، واكتفوا بالعزاء على القبر، وعملا بوصيته – رحمه الله تعالى وطيب ثراه – لم يقيموا عزاء بعد ذلك، ولن يقيموا له سرادقا للعزاء، ولن يستقبلوا أحدا من أجل ذلك؛ فما كان أمامي إلا أن أحول سيارتي إلى طريق القاهرة، يملؤني الحزن والأسى، على فقد شيخي وأستاذي، ويزدادان في نفسي، لما قصرت فيه من الإسراع إلى زيارته قبل ذلك، وما قصرت فيه من حق الصلاة عليه، والوقوف على قبره، وتقبل العزاء جنبا إلى جنب مع أهله وأحبابه، وأقول له في نفسي: أستاذي لكم نعتني بالوفاء، وهأنا لست أهلا للوفاء، فسامح مقصرا في حقك! كما سامحت الدنيا من قبل.
رحم الله الشيخ وتغمده برحمته، وتجاوز عما يعلم، وأفسح له في قبره، وجعله روضة من رياض الجنة، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وأورده حوض نبينا المصطفي – صلى الله عليه وسلم – وتقبله في عباده الصالحين، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الأنبياء والشهداء والصديقين، ولا حرمنا أجره، ولا فتنا بعده، وألحقنا به على خير، غير خزايا ولا مبدلين. هو نعم المولى ونعم النصير.

Related posts

Leave a Comment