Ù€ Ù¡ Ù€
أدين لأستاذتي‮ ‬سهير القلماوي‮ ‬بأشياء كثيرة،‮ ‬ربما كان أولها أنها جعلتني‮ ‬أدرك أن المرأة لا تقل ÙƒÙاءة عن الرجل Ùي‮ ‬ميادين العمل المختلÙة،‮ ‬أو مجالات العلم المتباينة،‮ ‬وأن تÙوقها Ùي‮ ‬كل ما‮ ‬يمكن أن تنهض به من أعباء خارج منزلها لا‮ ‬يعوقها عن أداء دورها Ùي‮ ‬منزلها بوصÙها زوجا وأمّا وربّة بيت‮. ‬وأشهد أن هذه الأستاذة الÙاضلة كانت أكثر Øزما،‮ ‬وأقوي‮ ‬إرادة،‮ ‬وأشد جسارة من كثير من الرجال الأساتذة الذين تتلمذتÙ‮ ‬عليهم،‮ ‬وعملت معهم،‮ ‬ورأيتهم‮ ‬يمارسون أعمالهم ويؤدونها Ùي‮ ‬Ùتور وعدم Øماسة‮، ‬وكانوا -‮ ‬أØيانا -‮ ‬يÙرون من المواجهة إذا لزم الأمر،‮ ‬إيثارا للراØØ© النÙسية،‮ ‬وطلبا للسلامة السياسية أو الاجتماعية،‮ ‬بل تÙضيلا للاسترخاء العلمي‮ ‬والدوران Ùي‮ ‬الدائرة Ù†Ùسها‮. ‬وما أكثر المواق٠التي‮ ‬رأيتها لسهير القلماوي،‮ ‬والتي‮ ‬جعلتني‮ ‬أتتلمذ علي‮ ‬هذه السيدة Ùي‮ ‬الدراسات العليا،‮ ‬وأوثر العمل معها،‮ ‬بل‮ ‬يزيدني‮ ‬هذا العمل Ùخرا بنÙسي‮ ‬وبنموذج المرأة الذي‮ ‬كان‮ ‬يتجسد Ùي‮ ‬سهير القلماوي‮ ‬موقÙا وسلوكا‮.‬
https://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?g=8&id=508897
وكانت سهير القلماوي‮ ‬بطبيعة ثقاÙتها تجمع بين القديم والجديد،‮ ‬تعلمت الجديد Ùي‮ ‬المدارس الأجنبية التي ‬درست بها قبل أن تلتØÙ‚ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب،‮ ‬وأتقنت العديد من اللغات الأوربية،‮ ‬واستعدت لدخول كلية الطب،‮ ‬ولكن كلية الطب لم تقبل أوراقها لأنها Ùتاة،‮ ‬Ùقد كانت الجامعة المصرية تتردد Ùي‮ ‬قبول الطالبات إلي‮ ‬عام التØاق سهير القلماوي‮ ‬بها‮. ‬وذهب والدها الطبيب الشهير إلي‮ ‬طه Øسين ليÙعينه علي ‬ØÙ„ مشكلة ابنته،‮ ‬ولكن طه Øسين صر٠نظر الطالبة عن كلية الطب،‮ ‬وأقنعها بالالتØاق بكلية الآداب،‮ ‬والدراسة Ùي‮ ‬قسم اللغة العربية الذي‮ ‬كان أشهر أساتذته‮. ‬ويبدو أن شخصية طه Øسين الساØرة جذبت الÙتاة سهير القلماوي‮ ‬إليه،‮ ‬Ùتعلقت به،‮ ‬واتخذته أبا ثانيا وأستاذا ومشرÙا ورائدا ومثلا أعلي‮ ‬Ùي‮ ‬الØياة‮. ‬وأجَلَّها الأستاذ وأعجب بها،‮ ‬ووجد Ùيها نموذجا للمرأة الجديدة التي ‬كان المثقÙون المصريون‮ ‬يØلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب‮ «المرأة الجديدة‮»‬ ‬ونشره ÙÙŠ سنة 1900‬ ‬من Ù…ÙØªØªØ Ø§Ù„Ù‚Ø±Ù† الماضي‮.‬
ومضي ‬الزمن بسهير القلماوي‮ ‬ÙÙŠ ‬قسم اللغة العربية بآداب القاهرة،‮ ‬وتنقَّلت ما بين الدرجات العلمية بعد أن Øصلت علي‮ ‬درجة الماچستير عن »‬أدب الخوارج Ùي‮ ‬التراث العربي»،‮ ‬وØصلت علي‮ ‬درجة الدكتوراه عن »‬أل٠ليلة وليلة»،‮ ‬وانتهي‮ ‬بها الأمر أستاذة للأدب الØديث ونقده Ùي‮ ‬القسم،‮ ‬وأصبØت رئيسة لقسم اللغة العربية وآدابها،‮ ‬Ùكانت الÙتاة الأولي‮ ‬التي‮ ‬تدخل إلي‮ ‬كلية الآداب،‮ ‬والÙتاة الأولي‮ ‬التي‮ ‬تØصل علي ‬درجة الدكتوراه من جامعة مصرية،‮ ‬والأستاذة الأولي‮ ‬التي‮ ‬تترأس قسما من أقسام الدراسات العلمية بالجامعة وكانت Ùي‮ ‬إشراÙها علي‮ ‬القسم نموذجا للØزم الإداري،‮ ‬والصلابة الموضوعية،‮ ‬والمواق٠المØايدة العادلة‮.‬
وقد تخرجتÙ‮ ‬Ùي‮ ‬قسم اللغة العربية وهي ‬رئيسة له،‮ ‬وÙوجئتْ‮ ‬هي‮ ‬بشاب لا تعرÙه،‮ ‬ويخجل من الاقتراب منها،‮ ‬بل‮ ‬يخجل من Ù…Øادثة أية أستاذة أو Øتي‮ ‬زميلة،‮ ‬يØصل علي ‬أعلي‮ ‬الدرجات،‮ ‬وينال درجة الامتياز بمرتبة الشرÙ،‮ ‬وهي‮ ‬درجة لا تزال نادرة Ùي‮ ‬قسم اللغة العربية إلي ‬اليوم‮. ‬وكانت هي ‬البادئة Ùي‮ ‬الاقتراب،‮ ‬تØدوها رغبة معرÙØ© تلميذها المجهول الذي‮ ‬لم‮ ‬يسألها سؤالا واØدا ÙÙŠ ‬مØاضرة،‮ ‬ولم‮ ‬يستعرض معلوماته كما‮ ‬يÙعل أقرانه Ùي‮ ‬السن عادة‮. ‬وكان Øنوها ÙÙŠ ‬التعامل معي‮ ‬أكبر داÙع لي ‬Ùي‮ ‬الاقتراب منها‮. ‬وسرعان ما جذبتني ‬إلي‮ ‬عوالمها‮: ‬التÙØªØ Ø§Ù„Ø§Ø¬ØªÙ…Ø§Ø¹ÙŠØŒâ€® ‬الموسوعية الثقاÙية،‮ ‬ضرورة إتقان لغة أجنبية والقراءة بها،‮ ‬الوصل بين المعرÙØ© التراثية والمعرÙØ© النقدية الجديدة،‮ ‬الجسارة Ùي‮ ‬الØÙ‚ والجرأة ÙÙŠ ‬إعلانه،‮ ‬الإيمان بقضية المرأة والدÙاع عن Øقوقها المهدرة،‮ ‬الانتماء الثقاÙي‮ ‬العربي‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يتناقض مع الانتماء الإنساني‮. ‬وبقدر ما كانت هذه العوالم تزيدني‮ ‬رغبة Ùي‮ ‬الانتساب إليها علميّا،‮ ‬والتعلم منها Øياتيّا،‮ ‬كانت هذه العوالم تصلني‮ ‬بأستاذها طه Øسين الذي‮ ‬قدّمتني‮ ‬إليه Ùي‮ ‬يوم لا أنساه،‮ ‬Ùي‮ ‬منزله‮ »‬‬رامتان» ‬بالهرم،‮ ‬وكان الأستاذ أيامها قد تقاعد من العمل الجامعي‮.‬
وازدادت الصلة بيني‮ ‬وبين سهير القلماوي‮ ‬بتعييني‮ ‬معيدا Ùي‮ ‬قسم اللغة العربية‮. ‬وبدأت أسعي‮ ‬لتسجيل أطروØتي ‬لدرجة الماچستير معها،‮ ‬واقترØت٠عليها أن أعمل Ùي‮ »‬‬الإيقاع الشعري”،‮ ‬Ùقالت لي ‬إنها لا تØبّذ أن أبدأ Øياتي ‬الجامعية بموضوع لا أمتلك الكثير من أدواته،‮ ‬واقترØت أن أنتقل من دراسة الإيقاع الشعري‮ ‬إلي‮ ‬دراسة التصوير Ùي‮ ‬الشعر،‮ ‬وأخذت٠أعمل ÙÙŠ ‬الموضوع،‮ ‬وانتهي‮ ‬الأمر بتسجيلي‮ ‬رسميّا لدرجة الماچستير‮. ‬واكتشÙت Ùي‮ ‬سهير القلماوي‮ ‬خلال ذلك الوقت أمّا Øنونا إلي ‬جانب الأستاذة،‮ ‬Ùكانت أمي‮ ‬التي‮ ‬ذهبت٠لأخذ مواÙقتها عندما قررت أن أخطب زميلتي‮ ‬التي‮ ‬أØببتها وأصبØت زوجتي‮ ‬وأم أولادي ‬ورÙيقة العمر إلي أن اختارها الله إلي جواره. ‬وشجعتني ‬سهير القلماوي‮ ‬علي‮ ‬أن أمضي‮ ‬Ùيما Ùعلت،‮ ‬بل قامت بدور الأم Ùعلا،‮ ‬وكانت كذلك ÙÙŠ ‬ØÙÙ„ الزÙا٠الصغير الذي‮ ‬أقمناه،‮ ‬بل كانت الأم التي‮ ‬تلقَّت ابنتي‮ ‬الأولي‮ ‬التي‮ ‬أطلقنا عليها‮ – ‬أنا وزوجتي‮- ‬اسم »‬سهير» التي‮ ‬أصبØت أستاذة جامعية إلي أن توÙيت ÙÙŠ تعقيدات عملية ولادة ÙرØلت عنّا بعد أن رØلت سميّتها بسنوات. رØمهما الله.
وكانت سهير القلماوي‮ ‬خلال هذه الأثناء قد انتقلت من رئاسة قسم اللغة العربية إلي‮ ‬رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب،‮ ‬Øيث أنشأت للمرة الأولي‮ ‬المعرض الدولي‮ ‬للكتاب الذي ‬يدين لها ÙÙŠ ‬وجوده بالÙضل‮. ‬واعتدت أن أذهب إليها ÙÙŠ ‬مكتبها بالهيئة،‮ ‬وكان علي‮ ‬كورنيش النيل،‮ ‬ÙÙŠ ‬العمارة المجاورة لعمارة دار المعار٠التي‮ ‬يوجد بها مقر مجلة‮ »‬‬أكتوبر» ‬بالقرب من مبني ‬التليÙزيون‮. ‬وكنت أري‮ ‬ÙÙŠ ‬مكتبها كبار الأدباء الذين‮ ‬يأتون لزيارتها أو متابعة ÙƒÙتبهم التي ‬كانت تصدرها الهيئة‮. ‬ويبدو أن هذا المناخ قد أثار المزيد من Øماستي،‮ ‬ودÙعني‮ ‬إلي ‬العمل ليل نهار Øتي‮ ‬أنتهي‮ ‬من أطروØØ© الماچستير‮. ‬وبالÙعل،‮ ‬Øبست Ù†Ùسي ‬شهرا كاملا وكتبت الÙصل الأول من الأطروØة،‮ ‬وجعلت عنوانه‮: »‬‬مÙهوم الصورة الشعرية Ùي‮ ‬النقد العربي‮ ‬القديم والنقد الأوربي‮ ‬الØديث والنقد العربي‮ ‬المعاصر». ‬وÙرغت من كتابة الÙصل،‮ ‬وذهبت به ÙرØا إليها،‮ ‬وأنا أقول لنÙسي‮: ‬»‬انتهيت من الÙصل الأول ÙÙŠ ‬شهر،‮ ‬Ùلابد من الانتهاء من بقية Ùصول الرسالة كلها ÙÙŠ ‬أربعة أشهر،‮ ‬وأØصل علي‮ ‬درجة الماچستير Ùي‮ ‬زمن قياسي»‮. ‬ولم أكن أدري‮ ‬لÙرط Øماستي‮ ‬ولسذاجتي ‬معا أن الØد الأدني‮ ‬لمناقشة الماچستير هو عام وليس أشهرا قليلة،‮ ‬وأنه من البلاهة المطلقة أن‮ ‬يÙرغ‮ ‬باØØ« من دراسة النقد العربي ‬كله،‮ ‬والنقد الأوربي‮ ‬كله،‮ ‬Ùضلا عن النقد العربي ‬المعاصر،‮ ‬Ùي‮ ‬شهر واØد‮. ‬ولا أزال إلي ‬اليوم أضØÙƒ من Øماستي‮ ‬وسذاجتي‮ ‬التي‮ ‬دÙعتني‮ ‬إلي‮ ‬Ùعل ما Ùعلت‮.‬
المهم أنني‮ ‬أعطيت الÙصل لأستاذتي‮ ‬Ùي‮ ‬مكتبها،‮ ‬Ùأخذته منÙّي،‮ ‬وقالت لي‮: ‬»‬هاتÙني ‬بعد أسبوع‮». ‬وقضيت الأسبوع علي‮ ‬أØرّ‮ ‬من الجمر،‮ ‬وهاتÙتها،‮ ‬Ùطلبت مني ‬الانتظار أسبوعا آخر،‮ ‬ولم ألتÙت إلي‮ ‬أن نبرة صوتها كانت متغيرة عن المعتاد‮. ‬وهاتÙتها للمرة الثانية،‮ ‬Ùدعتني‮ ‬إلي‮ ‬مكتبها،‮ ‬وجلست أمامها قلقا،‮ ‬Ùقد لاØظت تجهّم وجهها،‮ ‬واختÙاء البسمة التي‮ ‬تقابلني‮ ‬بها عادة،‮ ‬وÙتØت Ø£Øد أدراج مكتبها وأخرجت الÙصل وأعطته لي ‬دون كلمة،‮ ‬وأتبعت ذلك بأن قدمت إليّ ‬ورقتين تزدØÙ… سطورهما بكتابة إنجليزية‮. ‬وقالت بØزم لا أنساه‮: »‬‬هذه مراجع إنجليزية Ùي‮ ‬الموضوع،‮ ‬اذهب إلي‮ ‬الأستاذة‮ (‬س‮) ‬بمكتبة الجامعة الأمريكية،‮ ‬وسو٠تتولي ‬معاونتك Ùي‮ ‬الØصول علي ‬هذه المراجع والاطلاع عليها ÙÙŠ ‬المكتبة أو خارجها»‮. ‬ولم تترك ملامØها Ùرصة للاستÙهام عن شيء،‮ ‬Ùتلقيت الأوامر صامتا،‮ ‬مصدوما،‮ ‬وخرجت من عندها إلي‮ ‬مبني‮ ‬الجامعة الأمريكية القريب‮. ‬وأذكر أن دموعي‮ ‬انهمرت وأنا سائر علي ‬كورنيش النيل،‮ ‬Ùقد تبخرت الآمال والأØلام الوردية لإنهاء أطروØØ© الماچستير ÙÙŠ ‬أشهر‮. ‬وأخيرا،‮ ‬وصلت إلي ‬المكتبة،‮ ‬وتلقَّتني‮ ‬الأستاذة‮ (‬س‮) ‬بودّ‮ ‬جميل،‮ ‬وقرأت معي ‬ما لم أستطع ÙÙƒ رموزه من خط أستاذتي‮ ‬باللغة الإنجليزية،‮ ‬واسترØت لأن نص٠المراجع التي‮ ‬كتبتها كانت مقالات ÙÙŠ ‬دوريات أجنبية،‮ ‬أما البقيـــة Ùكـــانت كتبا لا بد من قراءتها‮. ‬ولØسن الØظ،‮ ‬كانت الكتب مرتبة بالأرقام،‮ ‬Ùقد Øرصت الأستاذة ‮- ‬دون أن تخبرني‮- ‬علي‮ ‬أن أتدرج من السهل إلي ‬الصعب،‮ ‬ومن الصعب إلي‮ ‬الأصعب‮.‬
وعدت إلي ‬منزلي‮ ‬وبدأت القراءة‮. ‬ومضيت ÙÙŠ ‬العمل بلا كلل،‮ ‬وبعناد من‮ ‬يريد أن‮ ‬يثبت لأستاذته أنه جدير بالتلمذة عليها‮. ‬وبقدر ما كنت أقرأ،‮ ‬وأÙهم،‮ ‬وأستوعب،‮ ‬وأعر٠المناهج والمدارس،‮ ‬كنت أدرك سذاجتي‮ ‬وجهلي‮ ‬Ùي‮ ‬الÙصل الذي‮ ‬كتبته،‮ ‬والذي‮ ‬لم تعلّق عليه الأستاذة بكلمة واØدة‮. ‬وØين كنت أراها Ùي‮ ‬الكلية،‮ ‬خارجة من الدرس أو داخلة إليه،‮ ‬كانت تسألني‮: ‬»‬هل تدرس الكتب التي‮ ‬طلبت منك دراستها؟»،‮ ‬وكنت أجيبها بأني ‬أدرس وأتعب،‮ ‬وكانت الإجابة قرينة الصمت‮. ‬وتØول السؤال بعد ذلك عن الكتاب الذي‮ ‬وصلت إليه. وكان الرد المتكرر منها: »‬‬Øسنا،‮ ‬أكمل الكتاب التالي»‮. ‬وظل الأمر علي‮ ‬ذلك المنوال إلي‮ ‬أن Ùرغت من العمل الذي‮ ‬أخذ منÙّي‮ ‬عاما كاملا من الجهد الشاق والمعاناة التي ‬لا تنسي‮. ‬وعندما انتهيت،‮ ‬اتصلت بها،‮ ‬Ùدعتني‮ ‬إلي‮ ‬لقائها،‮ ‬وذهبت إليها وقد أصبØت مدركا كل الإدراك لغبائي‮ ‬Ùيما كتبت،‮ ‬وكان Ø¥Øساسي ‬بالندم كبيرا علي‮ ‬الÙصل الذي‮ ‬كتبته من قبل والذي‮ ‬Øملته معي ‬كالذنب‮. ‬وعندما لقيتها،‮ ‬وجدت الابتسامة عادت إلي ‬وجهها،‮ ‬وقالت‮: »‬‬أين الÙصل الذي ‬كتبته منذ أكثر من عام؟»،‮ ‬Ùأخرجته من الØاÙظة،‮ ‬وقبل أن أعطيه إليها بادرتني ‬بالسؤال‮: »‬‬أخبرني‮ ‬أنت الآن عن رأيك Ùي‮ ‬هذا الÙصل؟» ÙاندÙعت قائلا Ùي‮ ‬تأثر‮: »‬‬كلام Ùارغ‮ ‬لا‮ ‬يكتبه إلا شخص جاهل‮». ‬Ùعاودها Øزمها وقالت‮: ‬»‬إذن مَزÙّقه أمامي،‮ ‬وتخلّص منه»‮. ‬وبلا تردد،‮ ‬مزقت الأوراق‮ ‬أمامها،‮ ‬وأنا أشعر أنني ‬أتخلص من مراهقتي‮ ‬العلمية وسذاجتي ‬الÙكرية علي‮ ‬السواء‮. ‬وابتسمت Øانية،‮ ‬وقالت‮: »‬‬أظنك تعلمت الدرس الأول واستوعبته‮. ‬امض الآن واكتب أطروØتك‮». ‬ومضيت،‮ ‬وبدأت Ùي‮ ‬كتابة الأطروØØ© التي‮ ‬لم Ø£Ùرغ‮ ‬منها إلا بعد سنوات،‮ ‬وعلي‮ ‬نØÙˆ كان‮ ‬يدÙعها‮ – ‬كما كان‮ ‬يدÙعني‮ – ‬إلي ‬الرضا عن ما Ùعلته بي ‬Ùي‮ ‬الدرس الأول‮.   ‬
ولا أعر٠هل كان هذا الدرس الأول الذي‮ ‬تعلّمته من سهير القلماوي‮ ‬هو المسؤول بقسوته عن ما أصبØ‮ ‬يلازمني‮ ‬كطبعي‮ ‬بعد ذلك من وسوسة وتدقيق ÙˆØرص علي‮ ‬المراجعة ونقد Ù†Ùسي‮ ‬قبل أن‮ ‬ينقدني‮ ‬غيري؟‮! ‬ربما كان الأمر كذلك،‮ ‬Ùأن تضعك أستاذتك Øيث‮ ‬يليق بسذاجتك ÙˆØماستك الجاهلة أمر قاسÙ‮ ‬علي ‬نÙس شاب كان‮ ‬يØسب Ù†Ùسه عالما منذ الصغر‮. ‬وصعب علي‮ ‬شاب‮ ‬يعتز بنÙسه ‮- ‬Øتي‮ ‬بغير Øق‮ – ‬أن تكش٠أستاذته التي‮ ‬يÙجÙلّها كل الإجلال عن شدة سذاجته وخيبة تصوراته عن Ù†Ùسه‮. ‬مؤكد أن هذا الدرس كان له أعمق الأثر Ùي‮ ‬Øياتي،‮ ‬بل أجدني ‬الآن أمارس ما‮ ‬يشابهه مع طلاب وطالبات الدراسات العليا الذين Ø£Ùشر٠عليهم،‮ ‬مؤمنا أن القسوة الصادمة للطلاب والطالبات ÙÙŠ ‬بدايات دراساتهم العليا تضعهم ÙÙŠ ‬الطريق السليم إلي‮ ‬العلم،‮ ‬وتعينهم علي ‬التخلص من أوهام المراهقة الÙكرية وكسل البداية التي ‬لم تقوَ‮ ‬Ùيها رغبة العلم Ùتغدو متجذرة Ùي‮ ‬أعماق النÙس‮. ‬مؤكد كان ÙÙŠ ‬نÙسي‮ ‬أشياء ناÙعة بَنت عليها أستاذتي،‮ ‬وكانت هناك بذور ساعدها الدرس القاسي‮ ‬الأول علي‮ ‬أن تنبت وتعطي ‬ثمارها ‬وتترعرع‮.‬
وما أعرÙÙ‡ علي‮ ‬وجه اليقين أنني‮ ‬منذ أن تركت مكتب أستاذتي‮ ‬سهير القلماوي ‬Ùي‮ ‬ذلك اليوم البعيد،‮ ‬من ربيع العام السادس والستين بعد أل٠وتسعمائة،‮ ‬قد تØولت٠تØولا كبيرا،‮ ‬كأنني‮ ‬قد نضجت٠Ùجأة،‮ ‬وكبرت علي ‬نØÙˆ لم أكن أتوقعه،‮ ‬وازددت إصرارا علي‮ ‬أن أتÙوّق Ùي‮ ‬الدراسات العليا كما تÙوقت طوال سنوات الدراسة الجامعية الأولي،‮ ‬وكنت الأول علي ‬زملائي ‬وزميلاتي ‬ÙÙŠ ‬قسم اللغة العربية‮. ‬وبدأت أكتب أطروØØ© الماچستير،‮ ‬لا أهدأ ÙÙŠ ‬العمل،‮ ‬ولا أتواني، ‮ ‬وأنصر٠بكليَّتي ‬إلي ‬البØØ« الجامعي ‬الجاد لعل هذا البØث‮ ‬يعطيني ‬بعضه،‮ ‬كما لو كنت أمارس علي ‬نÙسي ‬ومع Ù†Ùسي ‬تلك الØكمة الجميلة التي ‬نطق بها إبراهيم بن سيار النظّام، أستاذ الجاØظ ÙÙŠ ‬القرن الثالث،‮ ‬Øين قال‮: »‬‬العلم لا‮ ‬يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته ÙƒÙلَّك»‮. ‬ومضيت أسعي ‬إلي ‬هذا البعض،‮ ‬أÙرغ‮ ‬من الÙصل الأول،‮ ‬وأعود إليه Ùأكتش٠Ùيه ثغرات،‮ ‬Ùأعاود كتابته مرة أخري، ‬وأقرأ الÙصل بعد الÙراغ‮ ‬منه Ùلا‮ ‬يرضيني،‮ ‬وأظل هكذا إلي ‬أن أشعر براØØ© نسبية،‮ ‬Ùأترك الÙصل،‮ ‬وأبدأ ÙÙŠ ‬غيره‮. ‬وظللت أعاني ‬من قلق الكتابة وعذابها،‮ ‬أكتب ولا أرضي،‮ ‬وأملأ الصÙØات لأمزّقها،‮ ‬وانتابتني ‬Øالة من الوسوسة والشك ÙÙŠ ‬قيمة ما أكتب‮. ‬ولولا Øرصي ‬علي ‬إنهاء أطروØØ© الماچستير ما Ùرغت،‮ ‬وما ذهبت ÙÙŠ ‬النهاية إلي ‬أستاذتي ‬سهير القلماوي ‬لأقدم لها أطروØØ© كاملة،‮ ‬وكلي ‬تردد وعدم ثقة،‮ ‬بل كلي ‬توقع أن تÙعل معي ‬ما Ùعلت منذ سنوات،‮ ‬عندما جعلتني ‬أمزّق ما كتبت٠أمام عينيها،‮ ‬وأÙعل ذلك كما لو كنت٠أخلع عن Ù†Ùسي ‬أثواب السذاجة والمراهقة وأغدو عاريا إلا من الرغبة ÙÙŠ ‬البØØ« والإخلاص له‮.‬
وأخذت أستاذتي ‬مخطوطة الأطروØØ© علي ‬وعد بقراءتها خلال أسبوعين‮. ‬وقبل أن‮ ‬ينتهي ‬الأسبوعان،‮ ‬اتصلت هي ‬بي،‮ ‬واستدعتني ‬إلي ‬مكتبها،‮ ‬وقالت لي‮: »‬‬هذا ما كنت٠أنتظره منك،‮ ‬وأتوقعه وأرجوه ÙÙŠ ‬آن‮. ‬خذ المخطوط واطبعه علي ‬الÙور،‮ ‬وقم بالتصويبات أثناء الطباعة Ùهي ‬طÙÙŠÙØ© جدّا،‮ ‬Ùقط اكتب خاتمة للأطروØØ© لأنني ‬لاØظت أنها بلا خاتمة،‮ ‬ولا داعي ‬لعرضها عليّ»‮. ‬وØملت٠أطروØØ© الماچستير المخطوطة،‮ ‬وجلست ÙÙŠ ‬أقرب مكان،‮ ‬وقلبت صÙØات المخطوط لأعر٠ملاØظات الأستاذة،‮ ‬Ùوجدتها كلها تصويبات أسلوبية وجملتين أضاÙتهما الأستاذة بخطها ÙÙŠ ‬موضعين Ù„ØªÙˆØ¶ÙŠØ Ø§Ù„Ù…Ø¹Ù†ÙŠ. ‬وØملت المخطوط إلي ‬الطابع علي ‬الآلة الكاتبة‮ (‬لم نكن نعر٠الكومبيوتر ÙÙŠ ‬ذلك الوقت‮) ‬الذي ‬رجوته أن‮ ‬يبدأ علي ‬الÙور،‮ ‬وذهبت إلي ‬المنزل لكتابة الخاتمة التي ‬لم Ø£Ùرغ‮ ‬منها إلا بعد‮ ‬يومين‮.‬
وناقشت الماچستير،‮ ‬وداÙعت عني ‬مشرÙتي ‬أمام اعتراضات المناقشين،‮ ‬وانتهت المناقشة بØصولي ‬علي ‬أعلي ‬تقدير‮. ‬وانتقلت٠علي ‬الÙور إلي ‬خطة الدكتوراه‮. ‬وبدأ عذاب الكتابة من جديد‮. ‬وقضيت ÙÙŠ ‬عذاب الإعداد والكتابة ما‮ ‬يقرب من خمس سنوات‮. ‬وكنت أعاود كتابة الÙصل أكثر من مرة،‮ ‬وأمضي ‬به إلي ‬أستاذتي سهير القلماوي،‮ ‬وتقرأ الأستاذة وتعيد الÙصل مع ملاØظات‮ ‬يسيرة،‮ ‬وأعود بالÙصل إلي ‬المنزل،‮ ‬وأقرأ الÙصل مرة أخري ‬Ùأجده لا‮ ‬يرضيني،‮ ‬Ùأكتبه من جديد،‮ ‬وأعود به مرة أخري ‬إلي ‬أستاذتي،‮ ‬Ùتسألني ‬ضاØكة‮: ‬»‬لماذا كتبته مرة أخري؟‮!» ‬Ùأقول لها‮: »‬‬لأنني ‬لم أره ناضجا بالقدر الكاÙي»‮ ‬Ùتسكت،‮ ‬وتعدني ‬بإرجاع الكتابة الجديدة بعد أسبوع،‮ ‬وتقول لي‮: »‬‬معك Øق،‮ ‬Ùقد صار الÙصل أنضج‮». ‬وأعود إلي ‬منزلي ‬وأقرأ هذا الÙصل الأنضج Ùلا‮ ‬يعجبني،‮ ‬Ùأكتبه مرة أخري ‬وأعود به إلي ‬أستاذتي ‬التي ‬بدأت ÙÙŠ ‬القلق لذلك السلوك،‮ ‬ولكنها تقبل الÙصل وتعاود القراءة‮. ‬وظللت علي ‬هذا المنوال ÙÙŠ ‬الÙصل الثاني،‮ ‬وأذكر أنني ‬ذهبت به إلي ‬أستاذتي ‬بعد أن كتبته للمرة الثانية،‮ ‬Ùأخذته من‮ ‬غير تعليق،‮ ‬وØين قابلتها بعد أسبوع سألتها عنه Ùأجابتني ‬قائلة‮: »‬‬الÙصل ممتاز ولا‮ ‬يØتاج إلي ‬مزيد» ‬Ùطلبت٠منها أن تعيده إليّ،‮ ‬ÙرÙضت قائلة‮: »‬‬لا‮ ‬يا أستاذ،‮ ‬سأØتÙظ بالÙصل الثاني ‬مع الÙصل الأول عندي ‬إلي ‬أن تÙرغ‮ ‬من بقية الÙصول،‮ ‬Ùأنا أعر٠أنني ‬لو أعطيتك الÙصل ستبدأ ÙÙŠ ‬كتابته من جديد‮». ‬وØاولت إقناعها بأن Ø£ØتÙظ أنا بالÙصلين،‮ ‬Ùلم تقتنع،‮ ‬وØكت لي ‬ملخص Ø¥Øدي ‬روايات الروائي ‬الÙرنسي ‬إميل زولا،‮ ‬وهي ‬عن رسام شاب أراد أن‮ ‬يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واØدة بلوØØ© تقيم الدنيا ولا تقعدها ÙÙŠ ‬معرض الÙÙ† الØديث،‮ ‬وØبس Ù†Ùسه مع الموديل التي ‬كانت تØبه،‮ ‬وظلّ‮ ‬يرسم ويمØÙˆ ما‮ ‬يرسم،‮ ‬وطال الوقت،‮ ‬بل مضي ‬الوقت،‮ ‬واÙتÙØªØ Ø§Ù„Ù…Ø¹Ø±Ø¶ وهو لم‮ ‬يÙرغ‮ ‬بعد،‮ ‬ومنَّي ‬نÙسه بالمعرض القادم،‮ ‬Ùالمهم أن‮ ‬ينجز ما لم‮ ‬ينجزه Ø£Øد من قبل،‮ ‬ومرَّ‮ ‬معرض وثان وثالث ورابع،‮ ‬واللوØØ© لا تكتمل،‮ ‬والرسام المسكين‮ ‬يدخل ÙÙŠ ‬دوامات الجنون تدريجيّا،‮ ‬إلي ‬أن انتهي ‬به الأمر إلي ‬تمزيق اللوØØ© بسكين كشط الألوان،‮ ‬وتمزيق جسد Øبيبته الموديل،‮ ‬ثم انتØاره بعد ذلك‮.‬
وسكتت أستاذتي ‬بعد أن Øكت هذه الØكاية علي ‬تلميذها،‮ ‬وتوقÙت عن الكلام لبعض الوقت،‮ ‬لعلها كانت تريد مني ‬أن أستوعب المعني ‬والمغزي،‮ ‬وأخيرا قالت‮: ‬»‬لا‮ ‬يمكن لأØد أن‮ ‬يصل إلي ‬الكمال،‮ ‬الكمال مَثل أعلي ‬نسعي ‬إليه طول العمر،‮ ‬Øسبنا أن نقوم كل مرة بواجبنا Øسب قدراتنا التي ‬نصل بها إلي ‬أقصي ‬ما نستطيع من عمل وجهد‮. ‬وكل مرة ننجز Ùيها شيئا نتعلم من إنجازنا،‮ ‬ونقترب بهذا الإنجاز من ذلك الكمال الذي ‬يتباعد عنا بقدر اقترابنا منه،‮ ‬كأنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يدÙعنا إلي ‬الصعود علي ‬درجات سلّمه إلي ‬ما لا نهاية له من العمل‮». ‬وختمت أستاذتي ‬كلامها بالسؤال‮: »‬‬هل Ùهمت أيها التلميذ العنيد؟‮! ‬يكÙيك ما Ùعلتَ ÙÙŠ ‬الÙصلين،‮ ‬Ùأكمل الÙصول الباقية»‮.‬
وتركت٠أستاذتي،‮ ‬وعدت لأعمل ÙÙŠ ‬الÙصول الباقية،‮ ‬وظللت أعمل لسنوات إلي ‬أن Ùرغت‮. ‬وكنت كلما مضيت إليها بÙصل جديد،‮ ‬تقرأ الÙصل،‮ ‬ثم تناقشه معي،‮ ‬متØدثة عن الجوانب المختلÙØ© للÙصل،‮ ‬ثم تضعه بعد ذلك ÙÙŠ ‬درج المكتب Ù†Ùسه الذي ‬تØتÙظ Ùيه بالÙصول‮ ‬السابقة،‮ ‬وترÙض ÙÙŠ ‬صرامة تسليمي ‬الÙصول الجديدة،‮ ‬قائلة‮: »‬‬ستتسلم الÙصول كلها بعد الانتهاء من كتابة الدكتوراه»‮. ‬ومضت الأشهر،‮ ‬وÙرغت من كتابة الÙصول كلها،‮ ‬وذهبت إليها لأØصل علي ‬مخطوطة الدكتوراه كاملة،‮ ‬واستقبلتني ‬ÙÙŠ ‬مكتبها كعادتها‮. ‬وناقشت معي ‬للمرة الأخيرة النقاط التي ‬اختلÙت٠Ùيها معها،‮ ‬وختمت المناقشة قائلة‮: »‬‬لا بأس من اختلاÙÙƒ معي،‮ ‬Ùهذا هو المطلوب،‮ ‬Ùليس المهم ÙÙŠ ‬البØØ« العلمي ‬الاتÙاق،‮ ‬وإنما المØاجة المنهجية التي ‬تعرض الرأي ‬موضوعيّا‮. ‬وإليك مخطوطة الدكتوراه‮. ‬اذهب بها إلي ‬الطابع علي ‬الÙور،‮ ‬Ùقد اتÙقت٠مع الأساتذة المناقشين علي ‬موعد قريب للمناقشة،‮ â€¬ÙŠØ³Ù…Ø Ù„Ùƒ بالكاد بمراجعة النص المطبوع علي ‬الآلة الكاتبة وتجليده‮. ‬وقد تعمدت٠ذلك،‮ ‬Øتي ‬لا تأتي ‬مرة أخري ‬ومعك كتابة جديدة للموضوع،‮ ‬ÙØسبك ÙˆØسبي ‬ما قد Ùعلت إلي ‬الآن‮». ‬وكانت كلماتها صارمة لا تدع مجالا للنقاش أو الØوار أو الجدل‮. ‬وأخذت٠الرسالة صاغرا إلي ‬الطابع ليكتبها علي ‬الآلة الكاتبة‮.‬
وجاء‮ ‬يوم مناقشة الدكتوراه‮. ‬وامتلأت قاعة أكبر مدرجات كلية الآداب بزملائي ‬وأصدقائي ‬من المثقÙين‮. ‬وØضر الكثير من أساتذتي. ‬وكان مساء مشهودا،‮ ‬لا أنسي ‬منه أمرين‮: ‬الأمر الأول هو Øديث سهير القلماوي ‬عن تلميذها الذي ‬كان‮ ‬يكتب Ùصول الرسالة أكثر من مرة،‮ ‬ولا‮ ‬يكÙّ‮ ‬عن معاودة الكتابة إلا بعد أن اØتÙظت هي ‬بمخطوطات الÙصول،‮ ‬ومنعته من ممارسة عناده الذي ‬اقترن بالإسرا٠ÙÙŠ ‬الوسوسة‮. ‬وØكت لجمهور الØضور عن إلØاØها علي ‬المناقشة السريعة؛‮ ‬كي ‬لا تدع لتلميذها مجالا‮ ‬يمارس Ùيه وسوسته المقترنة بالرغبة ÙÙŠ ‬كتابة الأطروØØ© كلها من جديد‮. ‬أما الأمر الثاني ‬Ùكان قرين Ù…Ùاجأتي ‬بأنها تولّت الدÙاع عن Ø£Ùكاري ‬التي ‬اختلÙتÙ‮ ‬Ùيها معها،‮ ‬والتي ‬ظلت تناقشني ‬هي ‬Ùيها مرات ومرات كي ‬تثنيني ‬عن ما انتهيت إليه،‮ ‬ولم تتركني ‬إلا بعد أن تأكدت من ØÙسن عرضي ‬لاختلاÙاتي ‬معها‮. ‬وإذا بها تنسي ‬ذلك كله،‮ ‬أو تتناساه،‮ ‬وتأخذ ÙÙŠ ‬الدÙاع عن Ø£Ùكاري،‮ ‬وتردّ‮ ‬هجمات الأستاذ المناقش الذي ‬لم تعجبه هذه الأÙكار،‮ ‬والذي ‬ظن Ù„Øماستها أنها تداÙع عن Ø£Ùكارها هي ‬وليس عن Ø£Ùكار تلميذها الذي ‬اختل٠معها‮.‬
وكانت سهير القلماوي ‬ÙÙŠ ‬الأمرين معا مثالا للأستاذ الجامعي ‬الأصيل،‮ ‬خصوصا ÙÙŠ ‬اØترامها Ù„ØÙ‚ الاختلاÙ،‮ ‬وتشجيعها تلاميذها علي ‬أن‮ ‬يختلÙوا معها،‮ ‬وعلي ‬أن تكون لهم شخصيات مستقلة‮. ‬والمÙارقة الدالة Øقّا ÙÙŠ ‬علاقة هذه الأستاذة الجليلة بتلاميذها أن الكثير منهم اتجه إلي ‬اليسار،‮ ‬وتعاط٠مع مناهج النقد اليساري،‮ ‬مع أنها كانت ليبرالية عنيدة،‮ ‬ترÙض Ùكريّا كل صنو٠الÙكر اليساري،‮ ‬وتكره الشيوعية كل الكره‮. ‬والمؤكد أن ليبراليتها والذهن المتØرر الذي ‬انطوت عليه،‮ ‬والذي ‬ØÙظ تقاليد طه Øسين،‮ ‬كانت هي ‬الأصل وراء سماØتها العقلية،‮ ‬ووراء ÙرØها Øتي â€¬Ø¨Ø¬Ù†ÙˆØ ØªÙ„Ø§Ù…ÙŠØ°Ù‡Ø§ إلي ‬تيارات اليسار رغم رÙضها لهذه التيارات‮. ‬ولم تكن تØاسبنا إلا علي ‬شيء واØد،‮ ‬هو موضوعية المØاجة والعرض،‮ ‬مؤكدة أنه ما من Ø£Øد‮ ‬يملك الØقيقة الكاملة ÙÙŠ ‬البØØ« الجامعي،‮ ‬وأن كل بØØ« إنما‮ ‬يكش٠عن جانب نسبي ‬من أوجه الØقيقة العلمية،‮ ‬Ùالمهم هو التراكم وتنوع المداخل التي ‬تثري ‬العلم ÙÙŠ ‬النهاية – ‬رØمها الله -‮ ‬Ùقد مرّت ذكراها دون أن‮ ‬يذكرها الكثيرون من تلاميذها الذين أعطت لهم من جهدها وصبرها ما جعلهم أساتذة كبارا بعدها‮. ‬أما تلميذها الذي ‬كانت تتØدث عن عناده المقترن بالوسوسة ÙÙŠ ‬العلم Ùإنه لم‮ ‬ينسها قط،‮ ‬وكيÙ‮ ‬ينساها وابنته أستاذة Ø§Ù„Ù…Ø³Ø±Ø Ø§Ù„Ø¥Ø³Ù€Ù€Ø¨Ø§Ù†ÙŠ ‬تذكÙّره‮ – ‬كل‮ ‬يوم ‮- ‬بسميّتها الكبري ‬ÙÙŠ ‬السلوك والأÙعال، وظلت كذلك إلي أن رØلت عن دنيانا الÙانية.
‮ ‬-2-
وجدت٠نÙسي أردد لا شعوريّا، وأنا أغادر مقبرة أستاذتي سهير القلماوي يوم الاثنين المواÙÙ‚ الخامس من مايو 1997 بعد أن أودعناها التراب الذي سنعود إليه جميعا، سطرين من قصيدة لأمل دنقل:
»‬كل الأØبة يرتØلون
ÙترØÙ„ شيئا Ùشيئا من العين ألÙØ© هذا الوطن».
نعم.. ما أكثر الأØبة الذين ارتØلوا؟! ابتداء من Ù…Øمود Øسن إسماعيل الذي كتب أمل دنقل هذين السطرين ÙÙŠ رثائه، مرورا Ø¨ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ø¨Ø¯ الصبور ÙˆØµÙ„Ø§Ø Ø¬Ø§Ù‡ÙŠÙ†ØŒ وعبد المØسن بدر وعبد العزيز الأهواني وزكي نجيب Ù…Øمود، وانتهاء بالعزيز أمل دنقل Ù†Ùسه. ترد علي الذهن أسماء كثيرة، تØمل Ù…Øبة الأصدقاء، وذكريات الأساتذة الكبار الذين رØلوا عنا، وخلّÙوا لنا الصمت والذكريات بعد أن أخذوا من العين ألÙØ© هذا الوطن. الوطن؟! هل تعلمنا Ù…Øبته ومعناه والعمل له إلا بÙضل ما تعلمناه من هؤلاء الأساتذة. لقد أخذنا عنهم، منذ أن طالعنا ما كتبوه لأول مرة، أن الوطن ليس قطعة أرض، أو مجموعة بشر، وإنما هو مجموعة Ø£Øلام وقيم ومبادئ ورؤي، تاريخ ممتد يصل الØاضر بالماضي الذي يعود ليرتد علي الØاضر ÙÙŠ تطلعه إلي المستقبل، مكان يظل ÙÙŠ Øاجة إلي التØقق، وكون من الوعود التي تظل ÙÙŠ Øاجة إلي الإنجاز، ودعوة دائمة إلي الÙعل الخلاق، الÙعل الذي ينتقل بهذا الوطن كله من مستوي الضرورة إلي مستوي الØرية، ومن الإظلام إلي الاستنارة، ومن التخل٠إلي التقدم.
وكانت سهير القلماوي واØدة من هؤلاء الذين أسهموا ÙÙŠ صنع وعينا المتمرد علي تخل٠الواقع، المتطلع إلي وعود الØاضر، الباØØ« عن Ø¢Ùاق المعرÙØ© التي تØقق Ø£Øلام المستقبل الذي ÙŠÙرد أجنØØ© الغد Ùوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب. هكذا عرÙتها، منذ أن جلست٠أستمع إليها ÙÙŠ المدرج رقم 18 ÙÙŠ مطالع الستينيات، متوثبا، مستوÙزا، مشØونا بالØماسة والبراءة، Ø£Øلم بأن أكون امتدادا لطه Øسين ÙÙŠ قسمه الذي ينتسب إليه، والذي جئت من بلدتي – المØلة الكبري- لأنال شر٠التتلمذ عليه، Ùلم أجده، قالوا لي: »‬إن صØته لم تعد تساعده علي المØاضرات، ولا علي التواجد المستمر ÙÙŠ القسم الذي تترأسه أقرب تلامذته إليه وأØبهم إلي Ù†Ùسه، سهير القلماوي، ولكنه يأتي بين الØين والØين لمقابلة الأساتذة وطلاب الدراسات العليا». Ùانتظرت٠لقاءه طويلا. ولكنني، أثناء الانتظار، أخذت أتعر٠علي تلامذته – أساتذتي – ÙÙŠ المØاضرات التي لا زلت أذكر الكثير من تÙاصيلها التي صنعت لي Øياتي التي مضيت Ùيها.
لا أذكر متي رأيت أستاذتي سهير القلماوي لأول مرة. ما أذكره هو Ù…Øاضرتها الأولي عن النقد العربي القديم الذي جذبتني إلي هذا النقد، وألقت بي ÙÙŠ عوالمه التي تصل الماضي بالØاضر، والإبداع بلغاته الشارØØ©ØŒ والنصوص الأدبية بعوالمها التي تظل ÙÙŠ Øاجة إلي الكشÙ. ولم تنته السنة الدراسية التي قضيتها ÙÙŠ Ùصل سهير القلماوي، وهي تقرأ معنا نصوص الجاØظ والآمدي وعلي بن عبد العزيز الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني، إلا وقد أصبØت٠مشدودا إلي عالم هؤلاء النقاد القدامي، ومشدودا إليها ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه.
ورغم ذلك، لم أجرؤ علي الاقتراب منها، أو سؤالها ÙÙŠ قاعة المØاضرات، أو Øتي Ù…Øاولة التعر٠عليها. اكتÙيت بالإعجاب الصامت الخجول والمذاكرة التي جعلتني Ø£Øصل علي أعلي درجة تمنØها لطالب، Ùسألت عني مع بداية السنة الدراسية الجديدة التي مضينا Ùيها مع درس آخر لسهير القلماوي ÙÙŠ النقد التطبيقي. وطاÙت بنا ما بين الشعر والنثر، وأخذتنا إلي Ø§Ù„Ù…Ø³Ø±Ø Ù…Ø¹Ù‡Ø§ لنشاهد ما اختارته لنا من نماذجه، وأشارت علينا بعشرات الكتب التي لم نسمع عن أصØابها من قبل، وأمرتنا ÙÙŠ Øزم أن نتعلم اللغة الإنجليزية Øتي يتÙØªØ ÙˆØ¹ÙŠÙ†Ø§ علي ثقاÙØ© العالم العريض الممتد.
-3-
كنا ÙÙŠ خري٠1964. انتهي الصي٠وعدنا من مدننا الموزّعة علي Ù…ØاÙظات مصر، وجئنا إلي القاهرة لنستأن٠عامنا الرابع والأخير ÙÙŠ قسم اللغة العربية بكلية الآداب ÙÙŠ جامعة القاهرة. وكانت أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوي قد بدأت معنا تدريس النقد الأدبي الØديث، تنظيرا وتطبيقا. وتوقÙت عند القصيدة الØديثة، ربما لأنها كانت تؤثر كلمة (الØديث) علي كلمة (الØداثة) التي بدأت ÙÙŠ الشيوع التدريجي، وذات ØµØ¨Ø§Ø ÙˆØ²Ù‘Ø¹Øª علينا ورقة مطبوعة Ùيها قصيدة »‬أنا والمدينة» للشاعر Ø£Øمد عبد المعطي Øجازي. وتمضي القصيدة علي النØÙˆ التالي:
»‬هذا أنا،
وهذه مدينتي،
عند انتصا٠الليل
رØابة الميدان، والجدران تل
تبين ثم تختÙÙŠ وراء تلّ
وريقة ÙÙŠ Ø§Ù„Ø±ÙŠØ Ø¯Ø§Ø±ØªØŒ ثم Øطت، ثم
ضاعت ÙÙŠ الدروب،
ظل يذوب
يمتد ظل
وعين Ù…ØµØ¨Ø§Ø ÙضوليÙÙ‘ Ù…Ùمل
دÙست٠علي شعاعه لمّا مررت
وجاش وجداني بمقطع٠Øزين
بدأته، ثم سكت
من أنت يا.. مَن أنت؟
الØارس الغبيّ لا يعي Øكايتي
لقد طردت٠اليوم
من غرÙتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا،
وهذه مدينتي».
كانت القصيدة مؤرّخة بتاريخ يونيو 1957ØŒ وطلبت منا الدكتورة سهير القلماوي أن نقرأ هذه القصيدة، وأن نبدأ ÙÙŠ تØليلها. وتساءلنا جميعا كي٠نبدأ هذه القصيدة التي لا تشبه ما تعوّدناه من شعر عمودي؟!ØŒ ظللنا ندرسه طوال السنوات الثلاث السابقة لنا ÙÙŠ قسم اللغة العربية، Ùقد درسنا ÙÙŠ عامنا الأول الشعر الجاهلي وانتقلنا ÙÙŠ عامنا الثاني إلي الشعر الإسلامي والأموي ومنه إلي العصر العباسي ÙÙŠ عامنا الثالث، أما ÙÙŠ العام الرابع Ùركّزنا ÙÙŠ أوائله علي الشعر الØديث، ابتداء من البارودي وشوقي وانتهاء بعبد الرØمن شكري والعقاد والمازني. وها Ù†ØÙ† نترك ذلك كله ونواجه هذا النمط الذي لم يكن لنا به عهد ولا ألÙØ©. وعندما Øان دوري للكلام وتقديم ملاØظاتي، قلت: »‬إن السطر الأول من القصيدة يقوم علي تÙعيلة واØدة هي (مستÙعلن)ØŒ ويتÙرع السطر الثاني والثالث إلي تÙعيلتين، أما السطر الرابع Ùهو تÙعيلتان أيضا، ثم يأتي السطر الخامس ليمتد ÙÙŠ السادس ثم السابع والثامن إلي أن تختمه الجملة (دÙست علي شعاعه لما مررت) وكان هذا التغير ÙÙŠ عدد التÙعيلات لاÙتا دالا، Ùقد كان يشير إلي أن القصيدة الØديثة تتبع – ÙÙŠ عدد تÙعيلاتها – الدÙقة الانÙعالية للشاعر ÙÙŠ Ù„Øظة الكتابة، Ùكلما كانت الدÙقة سريعة ÙˆØاسمة انطوي السطر علي تÙعيلة واØدة – مثلا – كما ÙÙŠ السطر الأول الذي يمثل بأØرÙÙ‡ استهلالا نغميّا ومØطة للنغم علي السواء». وكما كان هذا الشعر جديدا ÙÙŠ إيقاعه لا يخضع لما أسمته الدكتورة سهير القلماوي (الأÙطر التÙعيلية) أو (النظمية الخارجية) وإنما يخضع إلي Øركة الانÙعال الآنية والمتغيرة ÙÙŠ وجدان الشاعر، وذلك علي Ù†ØÙˆ يمكن أن يكون معه السطر الأول تÙعيلة واØدة مثلا، وتمتد الأسطر بعد ذلك لينطوي واØد منها علي ست تÙعيلات مثلا. وكانت هذه الملاØظة العروضية هي أول ما Ù„Ùتت أستاذتنا أنظارنا إليه وجعلتنا نلتÙت إلي الØرية الإيقاعية التي تتميز بها القصيدة الØديثة بالقياس إلي القصيدة العمودية القديمة. ثم استطردت ÙÙŠ تداعياتها، وقالت لنا: »‬إن الشكل العروضي القديم يشبه إلي Øد ما – ومع بعض الاØتراس – سرير بروكرست الذي جاء ÙÙŠ الأساطير اليونانية مرتبطا بذلك الكائن الذي يستضي٠العابرين، Ùإذا كانوا أطول من سريره، قص الأجزاء الزائدة من أجسادهم Øتي تتناسب أطوالهم مع طول سريره، أما إذا كانت قامتهم أقصر من السرير، Ùقد كان يقوم بشدها لكي يتناسب الجسد المشدود مع طول السرير». وظللنا نضØÙƒ علي هذا التشبيه ونعر٠به لماذا يضي٠الشعر العمودي كلمة أو جملة إلي آخر البيت لكي يتمم المعني الذي قد يغدو أقل من طول البيت، أو يختصر المعني لكي لا يطول عن وزن البيت. لكن أستاذتنا استدركت قائلة: »‬أرجو ألا تنسوا أن القيمة الجمالية ليست ÙÙŠ مجرد شكلها أو نظمها العروضي، وإنما هي مرتبطة بما هو أكثر من ذلك، Ùما أكثر الشعر العمودي القديم الذي يعد ÙÙŠ موازين الجمال أعلي رتبة ومقاما من القصائد التÙعيلية الØديثة، والعكس صØÙŠØ ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه، Ùالقيمة الجمالية للقصيدة تآل٠وتناغم بين كل عناصرها، وزنا وإيقاعا وتصويرا ودلالة وتراكيب Ù†Øوية».
وصمتت قليلا، وهي تنظر إلينا، كي تتأكد من استيعابنا لما قالته. وبعدها انتقلت إلي دلالات القصيدة، وطلبت منا أستاذتنا أن Ù†Ùسر لها دلالات الأبيات سائلة: »‬هل هذه الدلالات التي نقرأها دلالات واقعية مباشرة أم دلالات رمزية مجازية؟»، وأضاÙت: »‬من الذي تتØدث عنه القصيدة؟ ومن هذا الذي يتØدث؟» قال بعضنا الذي كان قد قرأ ديوان Øجازي قبل ذلك: »‬إن الشاعر يتØدث عن قرويّ ÙÙŠ المدينة، وإن هذا القروي سرعان ما يشعر بالوØدة والØنين إلي قريته عندما يجد Ù†Ùسه Ùجأة ÙÙŠ عالم القاهرة الصاخب وغير الإنساني بدليل عنوان الديوان الذي جعله الشاعر »‬مدينة بلا قلب”. يقصد القاهرة التي تبتلع الغرباء، والتي تبدو كأنها لا تقبل الغرباء بسهولة، خصوصا عندما يكونون قد أتوا إليها من القري الوادعة ذات الØياة البسيطة الأليÙØ©ØŒ أو Øتي المدن الصغيرة التي تتميز بهدوئها النسبي وصغر عدد سكانها بالقياس إلي القاهرة، Ùهي مدن أقرب إلي القري ÙÙŠ بساطة Øياتها التي لا تعر٠الصخب أو الضجيج أو زØام السيارات الذي يمكن أن يؤدي بمن لا يأخذ Øذره منها إلي الموت. وهذا ما كانت تؤديه قصيدة »‬مقتل صبي”». ولكننا توقÙنا أكثر عند الصوت المتØدث ÙÙŠ القصيدة، ذلك الصوت الذي صار ضائعا بدون اسم، ÙˆÙسر بعضنا الضياع علي أنه عدم وجود المأوي، بينما Ùسره البعض الثاني بأنه ضياع الهوية، ÙˆÙسره البعض الأخير بأنه الغربة بكل معانيها الميتاÙيزيقية والÙيزيقية، وعندما جاء السطر: »‬الØارس الغبي لا يعي Øكايتي»، قال واØد من زملائنا: »‬إن الشاعر يتØدث عن صدام المواطن بالسÙّلطة، وهو صدام Ù…Øتوم ما بين المواطن إذا لم يكن له مسكن وبين السلطة التي يشتبه عسكرها ÙÙŠ كل عابر سبيل مهما كانت هويته أو درجة ضياعه»، وهذا ما قادنا إلي الجدال: هل القصيدة تتØدث ÙÙŠ دلالاتها القريبة عن قروي ÙˆØيد ÙÙŠ المدينة ضاع منه مسكنه أم تتØدث عن الإنسان المعاصر الذي يغترب عن عالمه ويمضي ضائعا بدون اسم ÙÙŠ عالم يبدأ من غرÙته التي Ø·Ùرد منها ولا ينتهي بالطرقات التي يهيم Ùيها، شاعرا بأن كل الطرق مغلقة أمامه كأنها تلال متتابعة يدور Ùيما بينها كأنه وريقة ÙÙŠ Ø§Ù„Ø±ÙŠØ Ø¯Ø§Ø±ØªØŒ ثم Øطت، ثم ضاعت ÙÙŠ الدروب. ويشتد الØصار علي هذا الإنسان الضائع والØائر، عندما يشعر بأنه Øتي Ù…ØµØ§Ø¨ÙŠØ Ø§Ù„Ø·Ø±Ù‚ تتØول إلي أعين Ùضولية تعرÙّيه من كل شيء، تاركة إياه ÙˆØيدا مع الواØد الذي هو إياه؟
وظللنا طوال المØاضرة نتجادل Øول الدلالات الرمزية المجازية والدلالات الواقعية المباشرة وأستاذتنا سهير القلماوي تشجعنا علي المضي ÙÙŠ الاستنتاج تØليلا وتÙسيرا. ولا أظن أننا جرؤنا علي تقييم القصيدة، Ùقد كانت جدتها غريبة علينا، كما كانت هي لقاءنا الأول بالشعر الØديث. لكن مع Ù…Ùضينا ÙÙŠ التØليل والتÙسير تزايدت الاØتمالات الدلالية، واكتشÙنا معني أن الشعر الØر Øمّال أوجه، وأنه Øتي أبسط القصائد وأوضØها سرعان ما تزول عنها هذه البساطة ويÙارقها هذا Ø§Ù„ÙˆØ¶ÙˆØ Ø§Ù„Ø®Ø§Ø¯Ø¹ Ùنكتش٠أنه لا ÙˆØ¶ÙˆØ ÙˆÙ„Ø§ بساطة، كأن مثل هذه القصائد قطرات الماء التي نراها بأعيننا المجردة Ùلا Ù†Ù„Ù…Ø Ù…Ø§ يعكر صÙاءها أو Ø´ÙاÙيتها، ولكننا إذا نظرنا إلي هذه القطرات من وراء عدسة ميكروسكوب، ضاعت هذه الشÙاÙية التي توهمناها، والبساطة التي تمنيناها، واكتشÙنا أننا إزاء مجرة من الكائنات متناهية الصغر والشوائب التي لا تراها العين ÙˆØدها. وهكذا الشعر مهما بدت كلماته بسيطة سهلة، Ùهي دائما بساطة خادعة وسهولة مراوغة، Ùهناك تآلي٠التراكيب النØوية والنظمية والدلالية التي لا يستقل واØد منها عن غيره، بل تتآل٠جميعها ÙÙŠ نوع من الÙاعلية المتبادلة علي كل المستويات.
وعدت٠مع زملائي من جديد إلي قصيدة Øجازي بعد أن استمعنا إلي أستاذتنا، وهي تعلمنا الدرس الأول ÙÙŠ النقد: »‬لا يوجد نص بريء أو نص Ø£Øادي الدلالة، والقصيدة دائما لا تÙارق صÙات التكثي٠الدلالي وتعدد المعاني أو تعدد المستويات، وليس ضروريّا ولا Ù…Ùلزما لنا – Ù†ØÙ† النقاد – أن نضع ÙÙŠ اعتبارنا تÙسير الشاعر لقصيدته، Ùبمجرد أن ÙŠÙرغ الشاعر من كتابة قصيدته يتØول إلي قارئ مثلنا. وقد يجد ÙÙŠ قراءتنا ما يصدمه أو يدهشه. المهم أن Ù†ÙØªØ Ø£Ø¹ÙŠÙ†Ù†Ø§ علي أشدها، ونتخلي عن البراءة والسذاجة، Ùوراء كل كلمة موصولة بأختها أكثر من معني، ووراء كل تركيب Ù†Øوي دلالة، ووراء كل إيقاع موسيقي إيØاء ما. ووظيÙتنا هي أن نراوغ الكلمات التي تراوغنا ÙÙŠ القصيدة، ومن ثم لا نري Ùيها مجرد ضياع Ùتي قروي ÙÙŠ مدينة بلا قلب، أو نتØد وجدانيّا مع بطل القصيدة، Ùنري Ùيها أصداء لغربتنا – Ù†ØÙ† أبناء المدن الصغري أو القري الذين جئنا إلي الجامعة للتعلم – وإنما علينا أن نري القصيدة ÙÙŠ ذاتها أولا، ونتØسس دلالاتها ثانيا، ولا نغÙÙ„ عن تضاÙر ذلك كله مع التراكيب النØوية والتشكيلات العروضية، وكل ما يسهم ÙÙŠ إيقاع القصيدة ووØدتها القائمة علي التنوع. وعندئذ، ÙØسب، تكاÙئنا القصيدة علي صبرنا، Ùنكتش٠أن بØØ« الشاعر القروي عن مكان إنما هو بØØ« عن هوية، واستبدال جديد يدخÙله بقديم يتركه. أو نكون إزاء تØول ÙÙŠ الهوية، قائم علي الإزاØØ©ØŒ وأن السطر: »‬وسرت٠يا ليل المدينة، أرقرق الآه الØزينة» إنما هو مسيرة التØول التي تخلع عن الشاعر وعيه القروي ليØÙ„ Ù…Øله وعي مديني، ÙÙŠ عملية Øتمية من تغير الوعي وتØوله، عملية أشبه بتلك العملية التي تØكي عنها – رمزيّا – قصة »‬النداهة» ليوس٠إدريس».
هل كانت تلك كلماتي أم كلمات أستاذتي الجليلة سهير القلماوي رØمها الله؟ هل أضÙت٠ما اكتسبتÙÙ‡ من الممارسة إلي ما كانت تعلمنا إياه؟ لا أدري علي وجه التØديد. المهم أنني أسترجع ما علمتنا إياه وما قالته لنا بعد ما يزيد علي نص٠قرن. مؤكدًا أن هذا ما تعلمته ÙˆÙهمته منها ولا أزال أتذكره إلي اليوم بوصÙÙ‡ درسنا الأول ÙÙŠ نقد الشعر، وهو درس ÙØªØ Ù„ÙŠ الطريق لكي Ø£ØµØ¨Ø Ù†Ø§Ù‚Ø¯Ø§ للشعر.
-4-
أول ما يصاÙØ Ø¹ÙŠÙ† القارئ لأطروØØ© سهير القلماوي الرائدة عن »‬أل٠ليلة وليلة» – بعد المقدمة التي كتبها أستاذها طه Øسين – هو الكتاب الأول من الأطروØØ©ØŒ وعنوانه: »‬أل٠ليلة وليلة ÙÙŠ الشرق والغرب”.
والكتاب دراسة ضاÙية، تبذل جهدها ÙÙŠ الØصر والاستقصاء، ÙÙŠ Øدود وقتها (الذي مضي عليه ثلاثة أرباع القرن) لعرض وتقديم Ù†Ùسخ »‬أل٠ليلة» المطبوعة والمترجمة ما بين كلكتا وبرسلاو والقاهرة وبيروت وباريس وإسطنبول. ويعرض الكتاب لترجمة أنطوان جالان الشهيرة بإضاÙاتها، وطبعاتها المتعددة، والترجمة عنها إلي الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدنماركية والألمانية والسويدية والروسية والبولندية والهنغارية. وأدي Ù†Ø¬Ø§Ø Ù‡Ø°Ù‡ الترجمات التابعة إلي ترجمات مباشرة أخري، كما Ùعل Ùون هامر ÙˆÙيل وهاننغ وليمان ÙÙŠ الألمانية. وهنري تورنز وإدوارد لين وجون بين ÙÙŠ الإنجليزية. ويقرأ القارئ، ÙÙŠ هذا الكتاب، عن دراسات العلماء الألمان والإنجليز والÙرنسيين والدنماركيين والأميركيين عن أصل »‬الليالي» والكيÙية التي تركبت بها ومنها. ويقرأ القارئ بعد ذلك عن أبØاث أخري للموضوعات والتيمات والوظائÙ. وهناك الدراسات المقارنة التي تصل بين الشعوب والأجناس، ودراسات الموازنة التي تقارن بين »‬أل٠ليلة» وغيرها من أنواع الأدب العربي وأشكاله.
وينتقل الكتاب إلي الØديث عن أثر »‬أل٠ليلة» ÙÙŠ الآداب العالمية والبيئات الأدبية المختلÙØ©ØŒ ونشهد طيÙا متنوع الألوان من أشكال التأثر الÙارسية والتركية والÙرنسية والإنجليزية، وننتقل ما بين Ùنون الكلمة ÙˆÙنون اللون والنغمة والØركة.
ويÙرغ القارئ سعيدا من هذا الكتاب الأول من أطروØØ© سهير القلماوي الرائدة التي تمّت مناقشتها سنة 1941 أي مر عليها Øتي الآن سبعة وسبعون عاما ويرجع سر السعادة إلي ريادة دراسة سهير القلماوي من ناØية، والجدية اللاÙتة التي بدأ بها الدرس الجامعي لأل٠ليلة من ناØية ثانية، ÙˆØ§Ù„Ø±ÙˆØ Ø§Ù„Ø¥Ù†Ø³Ø§Ù†ÙŠ الذي ينسرب ÙÙŠ الدراسة من ناØية أخيرة. لكن قراءة الكتاب الأول من الدراسة تثير ÙÙŠ القارئ، Ùضلا عن السعادة، العديد من الأسئلة التي يتولد كل منها عن الآخر، والتي ÙŠÙ„Ø ÙƒÙ„ منها علي طلب الإجابة. وأØسب أن هذه الأسئلة انطوت علي الداÙع الأول والمØرك الأصلي لما رأيناه من تطورات مذهلة ÙÙŠ دراسة »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ بعد أن كتبت سهير القلماوي ما كتبته ÙÙŠ أطروØتها التي ناقشتها ÙÙŠ شهر يونيو من العام 1941. وكانت أول دراسة جامعية عربية ÙÙŠ الموضوع. لقد اتسعت الدائرة الجغراÙية لدارسي »‬أل٠ليلة» ÙÙŠ الشرق والغرب. واتسعت الدائرة المنهجية لدراسة المصادر والأصول وأشكال التأثر والتأثير، وتØولت »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ مع مرور الوقت، والتغير المتداÙع للمناهج والإجراءات، إلي مرآة ينعكس عليها التعدد، وتعكس هي لغة الاختلاÙØŒ وما كان يشار إليه ÙÙŠ سطر واØد، Ø£Øيانا، ÙÙŠ أطروØØ© سهير القلماوي، Ø£ØµØ¨Ø Ù…ÙˆØ¶ÙˆØ¹Ø§ لأطروØØ© دكتوراه. وما كانت تعبر عليه سهير القلماوي عبورا سريعا، ÙÙŠ Ø£Øيان ثانية، Ø£ØµØ¨Ø Ù…Ù†Ø·Ù‚Ø© جذب للكثير من الأعين الÙاØصة ÙÙŠ الشرق والغرب. وما كانت سهير القلماوي تسخر منه، Ø£Øيانا أخيرة، Ø£ØµØ¨Ø Ù…ÙˆØ¶ÙˆØ¹Ø§ لدراسات جادة.
وبعد أن كانت »‬أل٠ليلة وليلة» اكتشاÙا غريبا Øديثا، بدأه أنطوان جالان الذي عمل سÙيرا ÙÙŠ إسطنبول، وقضي Øياته يقتنص التØ٠الشرقية، إلي أن عثر علي »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ وتعر٠إلي Øكاياتها Ø´Ùاهة علي لسان Ø£Øد الموارنة من Øلب، أقول بعد أن كانت »‬أل٠ليلة وليلة» اكتشاÙا Øديثا لغرب أوربا، بوصÙها طرÙØ© شرقية، تØولت إلي Ùضاء لا نهائي متعدد الأبعاد، يستوعب كل الجنسيات، ويجذب إليه أنظار المترجمين والدارسين والقراء من الباØثين عن المتعة الأدبية ÙÙŠ كل لغات العالم من الشرق والغرب. والمقارنة مذهلة بين مكتبة دراسات »‬أل٠ليلة وليلة» التي كانت سهير القلماوي تشير إليها وتعتمد عليها ÙÙŠ كتابتها منذ ما يربو علي ثلاثة أرباع القرن، ومكتبة هذه الدراسات الآن، سواء ÙÙŠ الØجم أو الكي٠أو تعدد الموضوعات أو المناهج أو اللغات أو الأقطار أو المؤسسات. وكما تزايد إغراء دراسة »‬أل٠ليلة» تزايد الإقبال علي قراءتها، وتØولت إلي Ø£Øد أهم الأعمال العالمية الكلاسيكية الكبري التي لا تمل البشرية كلها من الاستمتاع بها واستلهامها.
ولكن ما السر ÙÙŠ ذلك كله؟ ليس سØر الشرق ÙˆØده، ليس عالم المØرمات، ليست الدهاليز المخيÙØ© الجذابة التي ÙŠÙتØها الØكي للخيال. ليس الجنس الذي يجتذب المØرومين كما تجتذب النار الÙراشات، ليست التØولات والغرائب والعجائب، ليست Øكايات الØيوان أو السØر. إن كل ذلك موجود، ومثير، يناوش القلوب والعقول، ولكن ما يكمن وراءه أعمق منه، إنه Ùعل المعرÙØ© وسØرها. الÙعل الذي يتجسد ÙÙŠ مئات الأشكال والهيئات، ويتجلي ÙÙŠ عشرات الرموز والتمثيلات. والسÙÙ‘Øر الذي يصاØبه ما ينطوي علي دهشة التعرÙØŒ لذة الاكتشاÙØŒ غواية الÙضول وإشباعه، بهجة التعلم وآÙاقه. وعندما نتØدث عن هذه الجوانب Ùإننا نتØدث عن المعني الذي تتØول به »‬شهر زاد» إلي نمط من الأنماط العتيقة المجسدة Ù„Øضور المعرÙØ© بالقدر الذي تتØول به شخصيات كثيرة ÙÙŠ الليالي إلي تجليات لها.
ما الذي Ùعلته شهر زاد؟ مارست سØر الØكي، واقترÙت Ùعل القص. لكن Øكي ماذا؟ والقص عن أي شيء؟ إنها الصورة الأنثوية لــ »‬بيدبا الØكيم»، ÙÙŠ »‬كليلة ودمنة”.. بيدبا الذي Ù†ÙŽÙ‚ÙŽÙ„ بالمعرÙØ©ØŒ »‬دبشليم» السلطان الطاغية من مستوي الضرورة الØيواني إلي Ø£ÙÙ‚ الØرية الإنساني.
بيدبا وشهر زاد صانعا معرÙØ©ØŒ يقودان من يقترب منهما إلي قارات مجهولة من المعرÙØ© اللا Ù…Øدودة. وكما تنتقل الرØلة معهما عبر صور التمثيلات والكنايات والاستعارات والمجازات التي تسمي »‬Øكايات»، ويري المساÙر، ÙÙŠ هذه الرØلة من صنو٠البشر والØيوان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ويشهد من المغزي والمعني ما يستØÙ‚ أن يكتب علي آماق البصر ليكون عبرة لمن اعتبر ومن لم يعتبر، ويتØول القارئ المضمن والمروي عليه، ÙÙŠ دنيا الليالي، كما تØول دبشليم ÙÙŠ دنيا بيدبا، وتØول »‬شهريار» ÙÙŠ دنيا شهرزاد، وينتقل من Øال اللا معرÙØ© إلي المعرÙØ©ØŒ من الوعي التجريبي الÙج إلي الوعي الممكن الواعد، من خشونة الØس ووØشية الرغبات إلي رهاÙØ© الشعور وشÙاÙية الأÙكار.
تØدثنا ملØمة »‬جلجامش» عن »‬أنكيدو» الذي كان يهيم ÙÙŠ البرية، مع الوØوش والØيوانات، كأنه Ø£Øد الوØوش البرية، إلي أن تأتي إليه »‬شمخت» الساØرة، تقتنصه بروØها وجسدها، Ùيتغير أنكيدو، ÙŠÙارق صورته البرية، ويتØول عن Øضوره الوØشي وتنكره أصنا٠الØيوان التي كانت تعده واØدا منها، ويصير أنكيدو أكثر صمتا لأنه صار أكثر معرÙØ©ØŒ ومن ثم أكثر إنسانية.
ذلك هو ما Ùعلته شهر زاد بشهر يار، أخرجته من صورته الØيوانية إلي Øضوره الإنساني، نقلته من Ø£ÙÙ‚ الطبيعة المØسوسة إلي Ø£ÙÙ‚ الثقاÙØ© المعقولة، أداتها ÙÙŠ ذلك أنها قرأت ودرت، ÙˆØÙظت أسرار المعرÙØ©ØŒ واستوعبت خزائن العلوم، Ùاستطاعت أن تÙعل بشهر يار ما Ùعلته شمخت ÙÙŠ أنكيدو بأكثر من معني. ولكنها عندما Ùعلت ذلك لم تكن عربية الأصل، أو هندية، أو Ùارسية بل كانت نموذجا عتيقا للإنسان المبدع، Øامل الأسرار، سارق النار، المبشر بالمعرÙØ© والØكمة الذي يمس بعصاه كل من ÙŠØتاج إليــه. ولأن شهر زاد واØدة من النماذج الإنسانية العتيقة، Ùهي تختزل الرغبة الإنسانية ÙÙŠ المعرÙØ©ØŒ وتنطوي علي شوقها اللاهب ÙÙŠ التعرÙØŒ والمزيد من التعرÙØŒ ولذلك، تØولت شهر زاد، منذ أن ولدها الخيال الإنساني، إلي رمز متعدد الأبعاد، كأنها جبل المغناطيــس الذي يجذب إليـه كـل مـن يقــع ÙÙŠ مجالـه، ويقتــرب مـن دائرتـه، ولـكـن شهر زاد لا تØطم من يقترب منها، كما ÙŠÙعل جبل المغناطيس، إنها تستوعبه ليضي٠إليها، وتØتويه ليسهم ÙÙŠ وجودها، وذلك بالقدر Ù†Ùسه الذي تسهم به ÙÙŠ وجوده الذي يزداد معني، ÙˆÙÙŠ Øضوره الإنساني الذي يزداد غني وثراء.
هكذا، صارت شهر زاد طبقات وطبقات من الدلالات الإنسانية، وصارت »‬أل٠ليلة وليلة» طبقات وطبقات من الخبرة البشرية، وتراكمت الطبقات والطبقات ÙÙŠ تركيب Ùريد، يشد الجميع لأنه من صÙنع الجميع، تخلق سØر الØكايات التي تجذب كل البشر لأنها تنطوي علي Øلم كل البشر، ÙÙŠ اكتشا٠المجهول، ÙÙŠ أن نعر٠أكثر مما نعرÙØŒ وأن نرتØÙ„ ولا نقيم، أن نتØول ولا نثبت، أن نتجدد ولا نجمد، أن ندرك أهمية المعرÙØ© التي لا تك٠عن التولد، والإبداع الذي لا يك٠عن التطلع إلي Ø£ÙÙ‚ ليس له Øد أو مدي.
ولأن »‬أل٠ليلة وليلة» لا تريد أن تنغلق علي Ù†Ùسها بأسرها Ùتنقطع عنا، أو ننقطع عنها، Ùإنها تكش٠عن القليل من سÙØرها الذي يغري باكتشا٠السÙÙ‘Øر كله، وتبين عن بعض سرها لتغوينا بتعر٠السر كله، Ùتخلق من الشخصيات ما له دلالة، ومن الØكايات ما له مغزاه الكاشÙ. أعني شخصيات من مثل الجارية »‬تودد» بين الإناث، و»‬Øاسب كريم الدين» بين الرجال، وكلاهما لا ÙŠÙارق دلالة المعرÙØ© التي تصل أمثالها بــ »‬السندباد» الذي لا يهدأ ÙÙŠ اكتشا٠القارات المجهولة من أعماق Ø§Ù„Ø±ÙˆØ ÙˆØ£Ø±ÙƒØ§Ù† المعمورة. وإلي جانب هؤلاء الكثير من السØرة والكهنة والعلماء والشعراء من بني الإنس، ونقلة المعرÙØ© من بني الجن والعÙاريت الطيبة ÙˆØ§Ù„Ø£Ø±ÙˆØ§Ø Ø§Ù„Øارسة، ناهيك عن الكتب والخزائن التي تصون المعرÙØ© وتنأي بها عن العيون التي لا تÙقدÙّر قيمتها.
وتتضاÙر الطبيعة ÙÙŠ تأكيد الدلالة الرمزية لنهم المعرÙØ© الذي لا ÙŠÙارق الليالي: الطيور التي تØمل البشارة أو تعين علي اكتشا٠المجهول، كائنات البØار، والكائنات التي تجمع ما بين البØر والسماء، الأنهار، البØار، الأعاصير، الجبال، الآبار، العلامات المنقوشة علي الØجر، الإشارات المنسربة ÙÙŠ العناصر، الØدوس التي تضيء بها دورة الكائنات والÙصول وتعاقب الليل والنهار. دوامة لا تك٠عن توليد المعرÙØ©ØŒ وقارة لا تك٠عن إدهاش المرتØÙ„ Ùيها، وأÙÙ‚ متجدد من بهجة الكشÙØŒ ونبع مسØور من أسئلة لا تك٠عن توليد غيرها من الأسئلة التي لا تقنع بأجوبة قط، تلك هي أل٠ليلة وليلة، كنز الرغبة الإنسانية ÙÙŠ المعرÙØ©ØŒ ÙˆØلمها المتجدد، ورمزها المتعدد ÙÙŠ آن.
وكما خزّن ملوك »‬أل٠ليلة وليلة» وأثرياؤها المعرÙØ© ÙÙŠ خزائن الØديد ليصونوها، وليØتÙظوا بها كما ÙŠØتÙظ الإنسان بأثمن ما لديه.. خزَّنت الذاكرة الإبداعية الإنسانية Øكايات »‬أل٠ليلة» وظلت تضي٠إليها. وبالقدر Ù†Ùسه، ظلت »‬أل٠ليلة وليلة» تضي٠إلي البشرية، وتَعÙد من يتطلع إليها بمزيد من الÙهم، والدراية، والاكتشاÙØŒ والإدراك.
> > >
لا أذكر المرة الأولي التي قرأت Ùيها »‬أل٠ليلة وليلة”. ولا أتمثَّل – الآن – تÙاصيل الرعشة الأولي التي سَرت ÙÙŠ جسدي وأنا أتابع، مبهورا، تقلب الØظوظ بالأبطال، وتØولات المكان والزمان ÙÙŠ هذا الكتاب العجيب. ومن الذي يستطيع أن يسترجع تÙاصيل لقائه الأول بهذا الكتاب؟! إنها ذكري تستقر ÙÙŠ اللا وعي، نائية ÙÙŠ المكان والزمان، مغلَّÙØ© بضباب الطÙولة، خيالات مطلع الصبا، Ø£Øلام الشباب، Ùورة العقل والجسد معا، وكلاهما يتÙØªØ ÙƒØ§Ù„Ø²Ù‡Ø±Ø©ØŒ أو يتÙجر كالبرعم. كنا صغارا وقت أن تخلَّقت Ùينا هذه الذكري، وتجسدت معرÙتها التي خطونا بها خطوتنا الأولي، ÙÙŠ سØر الاكتشاÙØŒ ÙÙŠ مطلع الوعي، عتبة الإدراك التي علَّمتنا كي٠نكتش٠العالم بالقراءة التي كنا قد تعلمنا ØروÙها، وأخذنا Ù†ÙØªØ Ø¨Ù‡Ø§ مغاليق المجهول، ونØلق بها تØت راية الخيال، ÙÙŠ اللØظات التي نختلسها بعيدا عن الرقباء، Øالمين، راغبين، متوترين، قلقين، مؤرقين، متلهÙين علي معرÙØ© ما يجري، وماذا يقع؟ وماذا سو٠يØدث؟ وما مصير الخير ÙÙŠ صراعه مع الشر؟ ومصير القص ÙÙŠ تهذيبه براثن القوة الغاشمة؟
وكانت »‬أل٠ليلة» غيمة تتشكل ÙÙŠ مئات الأشكال، طوال الصبا، تتخذ ÙÙŠ كل Øال هيئة جديدة، ولا يك٠Øضورها، ÙÙŠ وعينا، عن التØول والتبدل، بÙعل سØر القراءة وسØر Ùعل الكتابة. Øملتنا Øكاياتها من هدأة النهر إلي رØابة البØر، ألقت بنا ÙÙŠ جداول أرض الغرابة، Ùرَّقتنا بين طرقات السلامة والندامة، جمعتنا ÙÙŠ ديار لم تطأها قدم، وطارت بنا Ùوق مدائن النØاس ومدائن الØجر. ولكن، كان لا بد لدوامات الوهم أن تتكسر علي شواطئ النÙّهي، وأن يبدأ مسار آخر للتعرÙØŒ مسار ÙŠÙارق بكارة الدهشة المسØورة إلي نضج التأمل وهدأة العقل النقدي الذي (يوجد سقط، لعله: يَردÙÙ‘/ ÙŠÙرجÙع) كل نتيجة إلي علتها الأولي.
وكانت سهير القلماوي بداية هذا المسار. بÙضلها انتقلت »‬أل٠ليلة وليلة» من منطقة السØر إلي منطقة العلم ÙÙŠ وعينا، من مبدأ الرغبة إلي مبدأ الدراسة ÙÙŠ تكويننا، من Ø£ÙÙ‚ التسلية الغامضة المدهشة إلي Ø£ÙÙ‚ اكتشا٠الدلالة العلائقية ÙÙŠ طموØنا. كانت دراستها عن »‬أل٠ليلة وليلة» بابا Ù…ÙتوØا ÙŠÙضي بنا إلي ما لم نكن نعرÙÙ‡ من قبل عن الليالي، وما لم نكن نلتÙت إليه ÙÙŠ مجلداتها الأربعة التي وجدناها ÙÙŠ منازلنا، وكانت هناك من قبل أن نولد. وأدركنا لأول مرة أن هذا الكتاب الغامض الغريب الذي ورثناه تØÙØ© أدبية معجزة، تتهاÙت الدنيا كلها علي الاستمتاع بها، واستلهامها وتوظيÙها ودراستها. وبدأنا نسمع عن رØلة أل٠ليلة وليلة ÙÙŠ الشرق والغرب، وندرك الكيÙية التي تم بها تألي٠هذا الكتاب، ونتعر٠صوت العقل التØليلي، وهو يمارس تشريØÙ‡ ÙÙŠ الكتاب، ويÙرجعه إلي عناصره التكوينية، تمهيدا لاكتشا٠علاقاته التي تصنع دلالاته. هكذا، أدركنا معني الخوارق ÙÙŠ »‬أل٠ليلة”ØŒ وأبعاد الموضوعات الدينية والخÙلقية، ورمزية الØيوان وعالمه، ومستويات الØياة الاجتماعية. وتنقّلنا ما بين طرائق معالجة الموضوعات التاريخية والموضوعات التعليمية، وتوقÙنا طويلا عند صور المرأة ÙÙŠ الليالي، وأخيرا: اكتشÙنا الينابيع الأولي للواقعية السØرية.
وما إن انتهت رØلتنا الجديدة مع سهير القلماوي التي ارتØلت بنا، ÙÙŠ عوالم جديدة، Øتي أصبØت لأل٠ليلة أوجه مغايرة ÙÙŠ وعينا، ÙˆØ£ØµØ¨Ø Ù„ÙˆØ¹ÙŠÙ†Ø§ Ø£ÙÙ‚ مغاير لم يكن له من قبل. ودخلنا دنيا العلم دون أن نتخلي عن راية الخيال، وتعلمنا طرائق الدرس دون أن Ù†Ùارق لذة الاكتشاÙØŒ وتلونا أبجدية المنهج دون أن تÙارقنا لهÙØ© انتظار ما يمكن أن ÙŠØدث أو يكون. أذكر٠أنني كنت ÙÙŠ السنة الثانية من سنوات المدرسة الثانوية Øين عثرت علي كتاب سهير القلماوي ÙÙŠ مكتبة المدرسة. جذبني إليه العنوان ÙÙتØته، ووجدت٠الكتاب مهديّا إلي طه Øسين الذي كانت قد شدتني إليه »‬الأيام”ØŒ وألقت بي أسيرا ÙÙŠ عوالمه، ولا أزال. ووجدت طه Øسين يقدم كتاب تلميذته (ÙÙŠ الكتاب الذي نشرته لأول مرة دار المعار٠بمصر عام 1943) بقوله: »‬هذه رسالة بارعة من رسائل الدكتوراه التي ميَّزتها كلية الآداب ÙÙŠ جامعة القاهرة. وبراعتها تأتي من مؤلّÙÙتها أولا، Ùهي السيدة سهير القلماوي، وما أظن الناس ÙÙŠ Øاجة إلي أن تÙعرَّ٠إليهم سهير القلماوي، Ùهي قد عرَّÙت Ù†Ùسها إليهم بـ »‬أØاديث جدتي”ØŒ وبما نشرت ÙÙŠ الصØ٠من Ùصول، وبما تØدثت إليهم به ÙÙŠ الراديو من مختل٠الØديث، وإن كنا Ù†ØÙ† أساتذتها قد عرÙناها، من قبل ذلك ومن وراء ذلك، بجدها ÙÙŠ الدرس ودقتها ÙÙŠ البØØ« وإتقانها للاستقصاء Øين تعرض لموضوع من موضوعات العلم».
وعرÙت من تقديم طه Øسين أن تلميذته لم تكد تظÙر بإجازة الليسانس من كلية الآداب Øتي أظهرت ميلا شديدا إلي الÙراغ لدراسة الأدب الشعبي، وأنه اضطر إلي أن يردها عن ذلك ÙÙŠ تلك الأيام البعيدة Øتي تستكمل ما تØتاج إليه من أداة البØØ«. ولذلك وجَّهها إلي دراسة أدب الخوارج Øين أرادت أن تÙعÙد رسالتها لدرجة الماجستير. Ùلما ظÙرت بهذه الدرجة أبت إلا أن تساÙر إلي أوربا لتلقي المستشرقين الذين يعنون بدراسات الأدب الشعبي، Ùتسمع منهم وتتØدث إليهم، وتستعينهم علي دراسة »‬أل٠ليلة وليلة» التي أصبØت موضوع رسالتها التي Øصلت بها علي درجة الدكتوراه. لم تخ٠من موضوع الرسالة الصعب والغريب ÙÙŠ تلك السنوات. ولم تشÙÙ‚ من الجهود المادية والمعنوية التي ÙÙرضت عليها لتظÙر بشيء من التوÙيق ÙÙŠ درسه. ÙساÙرت إلي Ùرنسا وإنجلترا ولقيت Ùيهما من لقيت من الأساتذة المستشرقين، واختلÙت إلي دروسهم واسترشدت بهم ÙÙŠ بØثها، وزارت المكتبات، ثم عادت إلي مصر لتمضي ÙÙŠ درسها، جادة إلي أقصي Øدود الجد، موÙَّقة ÙÙŠ هذا الدرس إلي أبعد غايات التوÙيق، Øتي أتمت رسالتها التي قدمتها إلي كلية الآداب، وداÙعت أمام لجنة الامتØان عن آرائها Ùيها، وعما اصطنعت من مناهج البØØ«ØŒ دÙاعا عرÙته لها اللجنة Øين ميَّزت رسالتها تمييزا.
وكان الأمر Ù†Ùسه من التقدير يوم أن تقدمت سهير القلماوي برسالتها إلي مجمع اللغة العربية الذي منØها جائزته الدالة علي تقديره، تلك الجائزة التي كانت سهير القلماوي المرأة الأولي التي تØصل عليها، تقديرا لبراعتها ÙÙŠ البØØ«ØŒ وتقديرا لاختيارها موضوع البØØ«ØŒ وتقديرا لأل٠ليلة وليلة، ذلك الكتاب الذي خلب عقول الأجيال ÙÙŠ الشرق والغرب قرونا طوالا، والذي نظر الشرق إليه علي أنه متعة ولهو وتسلية، ونظر الغرب إليه علي أنه كذلك متعة ولهو وتسلية، ولكن علي أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعا صالØا للبØØ« المنتج والدرس الخصب.
ÙˆØين تØولت رسالة سهير القلماوي إلي الكتاب الذي طبعته دار المعارÙØŒ كان الكتاب بداية عهد جديد من المعرÙØ© التي أنزلت »‬أل٠ليلة» إلي أرض العلم وساØØ© العلماء، ÙأصبØت موضوعا للدرس، يجذب اهتمام مئات الدارسين من بلاد الدنيا. وتكتب عنه مئات الدراسات بلغات العلوم الØديثة. ويÙساÙر من أجل إتقان درسه إلي جامعات العالم الجديد لإØكام المنهج. ÙˆÙŠØµØ¨Ø Ù…Ø¬Ø§Ù„Ø§ من مجالات الدنيا، تشغل العلماء والباØثين ÙÙŠ الأدب الشعبي الذي تأتل٠Øدائقه المهجورة المتناÙرة المتناثرة ÙÙŠ علاقات جديدة، نتعر٠معها معني النقد الاجتماعي ودلالة الاتجاه الديني ورمزية الشخوص ومستويات الØوار، جنبا إلي جنب مذاهب القÙصّاص ÙÙŠ تصوير ما يصورون من الأغراض، وما يتكش٠عن ذلك من مغزي ÙÙŠ التاريخ الأدبي الذي يتصل بالØياة الشعبية.
واختÙت صورة شهر زاد القديمة. ÙˆØلت Ù…Øلها صورة سهير القلماوي أستاذتي التي لم أكن تعرÙت شخصها، أو Øتي رسمها، ÙÙŠ تلك السنة التي مر عليها خمسة وسبعون عاما، أو يزيد. ÙˆØين لقيت سهير القلماوي، وتتلمذت عليها، وجدت لشهر زاد القديمة شبيهة Ù…Øدثة. وأخذت أعي، شيئا Ùشيئا، Øقيقة شهر زاد التي تصÙها الليالي بأنها قرأت الكتب والتواريخ وسيَر الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين، والتي قيل إنها جمعت أل٠كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالÙØ© والملوك الØالية والشعراء. تØولت المسلية القديمة، الساØرة العتيقة، إلي عالمة، باØثة، شبيهتها القديمة – ÙÙŠ الليالي- الجارية تودد، وشـــبيهتهـــا المـــØدثة – ÙÙŠ الكش٠عن سر الليالي- سهير القلماوي. ولÙتت انتباهي كلمات طه Øسين التي يص٠بها سهير القلماوي مرة أخري. كان يشير إلي Øسها الدقيق، وذوقها الرقيق، ومزاجها المعتدل، وطبعها المصÙّي ÙÙŠ الدرس الأدبي. ولذلك، جاءت دراستها عن »‬أل٠ليلة وليلة» مشوقة إلي الكتاب مرغÙّبة Ùيه، Ùأظهرت ما Ùيه من كنوز لا تقدَّر، بØيث تشوÙّقك إلي أن تلتمسها بنÙسك ÙÙŠ مصادرها، Ùتقرأ »‬أل٠ليلة وليلة» ÙÙŠ أوقات الجد ÙˆÙÙŠ أوقات الÙراغ جميعا، وتنال المتعة والمعرÙØ© ÙÙŠ آن. أما الجد، Ùيرتبط بالتØليل الذي يعتمد علي العقل، ويساير أدق مناهج البØØ« وأØدثها ÙÙŠ ذاك الزمان. وأما المعرÙØ©ØŒ Ùتعتمد علي ما ÙŠØªØ§Ø Ù„Ù„Ù‚Ø§Ø±Ø¦ أن يعلمه عما لم يكن يعلمه من جوانب قد تصوَّر أنه يعلمها.
ولم أكن الوØيد الذي قادته سهير القلماوي إلي Ø¢Ùاق جديدة من الوعي بكتاب أل٠ليلة وليلة. إن جيلي كله يدين لها بذلك. ويدين لها كل الذين تعلموا منها، سواء من جيلها أو الأجيال اللاØقة، معني أن يرتÙع الأدب الشعبي إلي Øيث يشغل العلماء والباØثين، ÙˆØلم أن ينطلق العقل المنهجي ÙÙŠ اكتشا٠مناطق من »‬أل٠ليلة وليلة» تظل ÙÙŠ Øاجة إلي الكشÙ.
والمساÙØ© دالة بين ما كتبته سهير القلماوي ÙÙŠ مطلع الأربعينيات وما كتبه تلامذتها وتلامذة تلامذتها بعد ذلك، Ùيما Ø£ØµØ¨Ø ÙŠØ¹Ø±Ù Ø¨Ø§Ø³Ù… »‬تاريخ دراسات الليالي»، وهو التاريخ الذي صنعه تراكم الدرس المنهجي العربي والعالمي ÙÙŠ الليالي. وكتاب سهير القلماوي نقطة مضيئة، مشرقة، لامعة ÙÙŠ هذا التاريخ منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن. انطوت علي Ø§Ù„Ù…Ù„Ø§Ù…Ø Ø§Ù„Ù…Ù†Ù‡Ø¬ÙŠØ© الغالبة علي طرائق أساتذتها الذين أخذت عنهم ÙÙŠ ذاك الزمان، والذين تعلمت منهم إجراءات المنهج التاريخي، وآليات التØليل الÙيلولوجي، وعمليات الدراسة المقارنة، وكيÙيات التØليل النصي الذي يركز علي ÙˆØدة الموضوعات. وبقدر ما كانت هذه الرسالة إنجازا علميّا كبيرا ÙÙŠ عصرها، من Øيث ما قامت به من نقل الكتابة الشعبية الهامشية إلي مركز الاهتمام النقدي، ومن Øيث النتائج المنهجية التي توصلت إليها، Ùإن هذه الرسالة ظلت Ù…ØاÙظة علي قيمتها الØية التي تؤكدها الثمار الأخيرة للتØليل النÙسي والتØليل الاجتماعي والتØليل التاريخي لأل٠ليلة، وتجاور البنيوية والتÙكيك والسميوطيقا والهرمنيوطيقا ÙÙŠ قراءة Øكاياتها الساØرة.
مؤكد أن المساÙØ© كبيرة، بالقطع، بين بداية عمل الأستاذة الرائدة التي ردها أستاذها طه Øسين عن اقتØام عالم »‬أل٠ليلة وليلة» بعد الليسانس، وأمهلها إلي أن تØصل علي الماجستير، وما ÙŠØدث الآن، وما نشهده من إقبال لاÙت علي دراسة »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ ÙÙŠ كل مكان، وبمختل٠اللغات. إنها المساÙØ© بين البداية التي تمهد الطريق والوضع الØالي الذي اتسع Ùيه الطريق، وتÙرَّع، وتعدَّد، وتØوَّل إلي عشرات الطرق الممهَّدة التي تÙضي إلي طرق أخري غيرها. لكن البداية تظل دائما علامة، إنجازا، Øدثا يشار إليه علي سبيل التذكرة والتكريم والعرÙان والتقدير والتواصل ÙÙŠ تقاليد المعرÙØ© المنهجية والØدوس النقدية التي لا تÙقد جدتها بمضي الأعوام.
ÙˆØين نقدم كتاب »‬أل٠ليلة وليلة» لأستاذتنا سهير القلماوي، ÙÙŠ »‬مكتبة الأسرة» لقراء هذا الزمان، Ùإننا نؤكد هذه القيم، بالقدر الذي نؤكد أهمية دور الرائدة التي لولاها ما وجدنا العشرات من الكتب والمئات من الدراسات، Ùضلا عن الموسوعات التي تتناÙس كلها ÙÙŠ جدة المنهج وتعدد المنظور، والتي تشترك كلها ÙÙŠ تقدير »‬أل٠ليلة وليلة» من منطق التواصل مع التقاليد الخلاقة التي استهلتها دراسة أستاذتنا سهير القلماوي، كل ذلك يجعل منها مجلي آخر من شهر زاد التي قرأت الكتب والتواريخ وجمعت إلي المعرÙØ© بالإبداع، المعرÙØ© بشؤون الثقاÙØ© والمجتمع.
-5-
كانت دروس سهير القلماوي مثل ÙƒÙتÙبها الأولي التي قرأناها ÙÙŠ سنوات الدراسة، تتميز بما كان ÙŠÙ„Ø Ø¹Ù„ÙŠÙ‡ أبناء جيلها ÙÙŠ ذلك الزمان البعيد، من Øيث هي دروس تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، وتمضي علي نهج أستاذها طه Øسين؛ ذلك لأن سهير القلماوي كانت علي درجة عالية من المعرÙØ© التراثية التي تمكّنها من الØديث الواثق عن القديم. ÙˆÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه، كانت ثقاÙتها المعاصرة، واطلاعها علي الآداب العالمية الجديدة، وخبراتها ÙÙŠ الترجمة والإبداع، تÙØªØ Ø£Ù…Ø§Ù…Ù‡Ø§ من Ø¢Ùاق النقد التطبيقي، ÙÙŠ التعامل مع نصوص الأدب القديم والجديد، ما دÙعنا دÙعا إلي المقارنة بينها وبين زملائها من الأساتذة الذين اقتصروا علي ثقاÙØ© الموروث، Ùعجزوا أن يكونوا مثلها ÙÙŠ امتلاك قدرة التØليق ÙÙŠ Ùضاء المعرÙØ© الرØيب بجناØÙŠ الأصالة والمعاصرة.
هكذا، سمعنا من سهير القلماوي عن أهمية العودة إلي النص الأدبي، وضرورة التركيز علي عناصره التكوينية الخاصة إذا أردنا أن نكون نقادا بØÙ‚. لقد ظل العمل الأدبي، Ùيما كانت تقول: »‬أشبه بالغرÙØ© التي يدخلها النقاد ليتطلعوا من نواÙذها إلي ما يقع خارجها، وآن الآوان لأن نلتÙت Ù†ØÙ† إلي هذه الغرÙØ©ØŒ ونتعمّقها بØثا وتØليلا وتÙسيرا. وإذا كان التØليل هو اكتشا٠العناصر التكوينية للعمل الأدبي، من Øيث هو عمل أدبي، Ùإن التÙسير اكتشا٠العلاقات التي تصل بين هذه العناصر، والتي ØªÙ…Ù†Ø Ø§Ù„Ø¹Ù†Ø§ØµØ± Ù†Ùسها المعني والدلالة. وإذا كان علينا أن نبدأ بالتØليل، ونتعمق Ùيه، Ùمن المهم أن Ù†Øاول المرة بعد المرة الإنصات إلي صوت العمل الخاص، واكتشا٠النغمات المائزة له علي وجه أقرب إلي اليقين، Ùهذه النغمات هي العناصر التكوينية التي تقودنا إلي اكتشا٠الدلالة الأدبية علي مستويات التÙسير المختلÙة».
ولم يكن مثل هذا الكلام مألوÙا لأغلب أساتذتنا ÙÙŠ قسم اللغة العربية الذين تعوّدوا أن ينظروا إلي الأدب بوصÙÙ‡ وثيقة دالة علي Øياة الكاتب أو عصره أو بيئته أو مجتمعه، Ùذلك Ùهمٌ شجّع عليه شيوع الدعوة إلي الواقعية الاشتراكية التي انتشرت انتشار النار ÙÙŠ الهشيم طوال سنوات المد القومي والدعوة إلي الاشتراكية. وكان علي سهير القلماوي Ù†Ùسها أن تبØØ« عن العلاقة بين الأدب والقومية أو الأدب والوØدة العربية أو Øتي الأدب والثورة. Ùكلها موضوعات كان لا بد من الØديث Ùيها أو عنها، ÙÙŠ غمرة التيارات السائدة التي Ùرضها الصعود الثوري للدعاوي الجديدة التي اقترنت بتØولات ثورة يوليو 1952ØŒ التي لم تكن سهير القلماوي ÙÙŠ Øالة عداء معها، Ùهي أصلا كانت وظلت تؤمن بأنه ما من Ø£Øد يستطيع أن ينكر علاقة الÙÙ† بالØياة أو Øتي علاقته بالمجتمع، ÙالÙÙ† له تأثير، مثل الأدب، يقع خارجه علي مستوي المتلقّي الÙرد أو المتلقين بصيغة الجمع، لكن هذا التأثير لا ينÙÙŠ عن الÙÙ† Ùنيته، ولا عن الأدب أدبيته، ولا عن الشعر شعريته. ولذلك بقدر ما كانت تربط الÙÙ† والأدب والشعر بالØياة من Øولها، كانت تؤمن بأهمية التكوين الداخلي والذاتي للÙÙ† أو الأدب أو الشعر، وذلك عن طريق الخصوصية النوعية التي تجعل من الÙÙ† Ùنّا ومن الأدب أدبا ومن الشعر شعرا…إلخ. ولذلك كانت مع الÙريق الذي يربط الÙÙ† بالØياة والمجتمع من ناØية، ويؤكد، ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه، الخصائص الذاتية التي تجعل من الÙÙ† Ùنّا.
وما كان أبعدها ÙÙŠ ذلك عن الذين يدعون إلي عزلة العمل الأدبي عن عصره، والاغتراب بالنص الأدبي عن مهمته الثورية ÙÙŠ تغيير الواقع. ولكن للأس٠كان خصومها من مراهقي الماركسية وأصوليّ الواقعية الاشتراكية يتهمونها بالرجعية، ويصلون بينها وبين رشاد رشدي ÙÙŠ الدعوة إلي عزلة العمل الأدبي عن عصره والاغتراب بالنص الأدبي عن مهمته الثورية ÙÙŠ تغيير الواقع، والØÙ‚ أن سهير القلماوي بقدر ما كانت أبعد ما تكون عن الدعاوي النظرية لكل من رشاد رشدي ومدرسته، كانت أقرب ما تكون إلي دعوة لويس عوض ومØمد مندور لأهمية التÙسير النصي للأعمال الأدبية، ولهذا لم تأخذ من دعاة »‬النقد الجديد» ÙÙŠ أصوله الأجنبية إلا ما يرتبط بالتØليل النصي للأعمال الأدبية. ولذلك كانت تؤكد استقلال العمل الأدبي ÙÙŠ الوقت الذي كانت تؤكد صلته بغيره من أوجه الØياة، لكنها كانت ØªÙ„Ø Ø¹Ù„ÙŠ التمييز بين النقد الأدبي بمعناه الØÙ‚ وعلم اجتمــاع الأدب أو علم Ù†Ùس الأدب أو علم سياسة الأدب أو التاريخ الأدبي علي السواء. وكانت تقول لنا: »‬إذا أردتم أن تكونوا نقادا Ùدونكم العمل الأدبي، ادرسوه ÙÙŠ ذاته، من Øيث هو عمل أدبي، ولا تكونوا ÙƒØ§Ù„Ø¬Ø±Ø§Ø Ø§Ù„Ø°ÙŠ ينشغل عن إجراء العملية الجراØية للمريض بالبØØ« عن أوضاعه الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية». وكانت تقول لنا: »‬إن الناقد لا يكون ناقدا بØÙ‚ إلا إذا كان ما ÙŠØسنه من التراث ÙÙŠ وزن ما ÙŠØسنه من علوم العصر، وما يتقنه من معار٠العرب لا يقل عن ما يتقنه من معار٠غير العرب من علوم العصر ومناهج درسه الØديثة».
وكانت جسارتها ÙÙŠ الدعوة إلي اكتشا٠ما Ø£ØµØ¨Ø ÙŠØ¹Ø±Ù Ø¨Ø¹Ø¯ ذلك باسم »‬أدبية الأدب» و»‬قصية القص» و»‬شعرية الشعر» تقودنا إلي Ø¢Ùاق باهرة ÙÙŠ ذلك الزمان البعيد. وكم جلسنا إلي مكاتبنا، واصلين الليل بالنهار، ونØÙ† Ù†Øاول تطبيق ما تعلمناه منها علي نصوص أدبية، تركت لكل واØد Ùينا Øرية اختيارها، Ùقد كان Øرصها علي Øرية الاختيار الوجه الآخر من Øرصها علي الغوص بنا عميقا ÙÙŠ عالم الأعمال الأدبية. وقد سبق أن ذكرت أن القصيدة الأولي التي تعرÙت عليها من شعر Ø£Øمد Øجازي كانت بصوتها ÙÙŠ قاعة المØاضرات، Øيث قامت بتØليل تÙصيلي معنا للقصيدة ابتداء من اختيار الكلمات، مرورا باختيار التÙاعيل للوزن العروضي، وانتهاء بالمقاطع التي تتكون من علاقاتها الدلالية والصوتية، ÙˆØدة القصيدة، وبعدها أخذت تØدثنــا عـن ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ù€Ø¨Ø¯ الصبور الذي كانت تكنّ له تقديرا خاصّا، وتدÙعنا إلي البØØ« عن نماذج مشابهة من الشعر الØداثي والقصة والمسرØية. ولن أنسي درسها التØليلي عن قصة نجيب Ù…ØÙوظ »‬زعبلاوي» التي علمتنا بها، لأول مرة، معني تعدد مستويات الدلالة وتنوع مدلولات الرمز.
وقد دÙعنا ذلك إلي متابعة ما كانت تكتبه ÙÙŠ المجلات الدورية التي عاصرناها، Ùوجدنا ÙÙŠ »‬الكاتب» مقالاتها المتتابعة عن قراءات جديدة ÙÙŠ التراث الشعري القديم، ÙتØت أعيننا علي الأبعاد الدالة للتكرار البلاغي ÙÙŠ موازاة الأبعاد المقابلة ÙÙŠ الدوال الرمزية، وذلك ÙÙŠ جدة وأصالة لم نجدها عند دارسي التراث الأدبي الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. وقد Ù„Ùتت انتباهنا ÙÙŠ هذه المقالات المبكرة التي نشرتها مجلة »‬الكاتب» ÙÙŠ بداياتها إلي معني الاكتشا٠النقدي، وجسارة التعمق ÙÙŠ التØليل المنهجي الØديث، خصوصا إذا كان هذا التØليل المنهجي ينبع من معرÙØ© عميقة بالنظريات النقدية الغربية. وأعني بالمعرÙØ© العميقة هنا المعرÙØ© التي لا تنقل وإنما تتمثل وتستوعب بعمق، ثم بعد ذلك تنتج من أدوات التØليل والتÙسير والتأويل ما يسهل تطبيقه Øتي علي النصوص الجاهلية التي لم يكن يعرÙها القراء المØدثون ÙÙŠ عالم الستينيات.
وكان منطلقها ÙÙŠ تØليل النص الأدبي الجاهلي هو منطلقها Ù†Ùسه ÙÙŠ تØليل النص الأدبي الØديث أو المعاصر، مدمرة بذلك الأسطورة التي Øاول أن يغرسها ÙÙŠ وعينا تلامذة شوقي ضي٠وطريقته التقليدية ÙÙŠ أن الشعر القديم لا ÙŠÙهم إلا بمناهج قديمة، يغلب عليها نثر النظم، أو Ø§Ù„Ø´Ø±Ø Ø§Ù„Ø³Ø§Ø°Ø¬ للمعاني القريبة أو المعاني الأولي بلغة عبد القاهر الجرجاني، وليس المعاني الثواني أو Øتي معاني المعاني التي تقودنا إلي تعدد الدلالة وتنوعها وتباين مستوياتها. وكانت ÙÙŠ ذلك تبدأ من Øيث انتهي أساتذتها خصوصا طه Øسين وأمين الخولي، Ùقد اتÙÙ‚ كلاهما علي أن أول التجديد هو قتل القديم Ùهما، ووصل الÙهم الجديد بالقديم بكل ما يمكن أن يستوعبه العقل النقدي من نظريات الÙÙ† ومناهج الدرس الأدبي ÙÙŠ امتداده الذي يصل الأدب بÙلسÙØ© الÙÙ† ÙÙŠ أعمق معانيها. ولذلك اهتمت سهير القلماوي كل الاهتمام بمبØØ« الأداة ÙÙŠ الÙنون. وهي اللغة ÙÙŠ Øالة الشعر، والمشهد ÙÙŠ Øالة المسرØØŒ والسرد ÙÙŠ Øالة الرواية، والنغم ÙÙŠ Øالة الموسيقي، والØجر والكتلة ÙÙŠ Øالة النØت والعمارة.
وأظن أن سهير القلماوي هي أول من كتب ÙÙŠ اللغة العربية عن نظرية الÙيلسو٠والناقد الألماني جوتهولد Ø¥Ùرايم ليسينج التي شرØها وبسطها ÙÙŠ كتابه العظيم: »‬لاؤوكون”. وهو كتاب يتتبع Ùيه هذا الÙيلسو٠الألماني وعالÙÙ… الجمال كي٠يختل٠الÙÙ† باختلا٠الأداة Ùيه، Ùاللغة تجعل من الزمن أساسا لها ÙÙŠ الامتداد، والرسم يختل٠عنها من هذا المنظور، Ùالرسم مثلا المعول Ùيه علي تثبيت اللØظة الزمنية (البرهة) سواء ÙÙŠ صياغة اللوØØ© أو تشكيل التمثال، Ùأداة الشعر زمنية، وأداة التشكيل – ÙÙŠ Øالتي النØت والتصوير والعمارة – مكانية، والعلاقة بينهما علاقة تمايز وتواصل وانقطاع Ø£Øيانا. وقد توق٠ليسينج عند تمثال »‬الراهب» الذي تتØدث عنه الأساطير اليونانية باسم »‬لاؤوكون”ØŒ والذي عاقبته الآلهة بأن سلّطت عليه Ø£Ùاع٠ضخمة كي تنهشه نهشا هو وأولاده البؤساء. ولا أزال أذكر النبرة التي كانت تتØدث بها أستاذتي سهير القلماوي عن هذا التمثال الذي رأته بعينيها والذي يصور الراهب الذي يستجير به أطÙاله الصغار والبراثن الوØشية تنهال عليهم من كل اتجاه، والÙارق بين بلاغة النØت ÙÙŠ هذا التصوير وبلاغة الرسم وأخيرا بلاغة الشعر. وانتقلت الدكتورة سهير القلماوي من ذلك إلي زمكانية اللغة وإيقاعها الذي يمر عبر الزمن ليمنØنا الإيØاء بتعاقب المكان وتغير الزمان ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه. هكذا أدخلتنا ÙÙŠ صلب دراسة النص الأدبي ÙÙŠ ذاته، ودÙعتنا إلي أن نبØØ« عن دور الأداة، وهي اللغة ÙÙŠ Øالة الشعر، والسرد ÙÙŠ Øالة الرواية، والتشكيل ÙÙŠ Øالة الÙنون التشكيلية، بل جعلت من Ù…ØµØ·Ù„Ø (التشكيل) Ù†Ùسه مصطلØا ينتقل إلي نقد الشعر ويعين الناقد علي رؤية القصيدة بوصÙها تشكيلا ÙÙŠ اللغة وباللغة ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه.
وأظنني كنت مخلصا لما تعلمته منها عندما أصررت، وأنا ÙÙŠ المركز القومي للترجمة، علي أن أبØØ« عن كتاب »‬لاؤوكون» وأكل٠بترجمته الدكتورة Ùوزية Øسن، وبالÙعل صدرت الترجمة ÙÙŠ العدد رقم 1354 من منشورات المركز القومي للترجمة، سنة 2009. وقد صدّرت الدكتورة Ùوزية Øسن الترجمة بدراسة عن Ùيلسو٠الÙÙ† والØضارة »‬جوتهولد Ø¥Ùرايم ليسينج» وكتابه العلامة الذي يعد صاØبه أول من أثار الانتباه للعلاقة بين الÙÙ† التشكيلي ÙˆÙÙ† الشعر، ÙˆØاول الربط بينهما ومقارنتهما معا من منظور جديد كل الجدة. وقد وجدت للدكتورة سهير القلماوي مقالا ÙÙŠ Ø¥Øدي الدوريات القديمة عن مأساة »‬لاؤوكون”ØŒ كما وجدتها تكرر الØديث عنه ÙÙŠ مقالات أخري. ولا أظن أنني أسر٠ÙÙŠ الاجتهاد لو قلت إن ما ذكره المرØوم الدكتور عز الدين إسماعيل بعد ذلك عن »‬زمكانية اللغة”ØŒ إنما هو أثر من الآثار الإيجابية التي تركتها ÙÙŠ Ù†Ùسه Ù…Øاضرات أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوي عليها رØمة الله.
والØÙ‚ أن هذه السيدة هي Ù†Ùسها التي علّمتنا ÙÙŠ Ù…Øاضراتها ما كان يقصد إليه ت.إس. إليوت عن معني »‬التقاليد والمواهب الÙردية”ØŒ Ùقد كانت تطور مقولة طه Øسين وأمين الخولي بأن أول التجديد هو قتل القديم Ùهما، بتأكيد أن الشاعر العربي المعاصر لا يمكن أن ينبغ إلا إذا كان واعيا بتراثه الشعري كله ابتداء من Ø£Øدث شاعر ÙÙŠ عصره، وانتهاء إلي أقدم شاعر ÙÙŠ تراثه. ولذلك Ùإن أصالة الإبداع الØقيقي Ù„ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ø¨Ø¯ الصبور – مثلا – لا يمكن أن تتØدد إلا بأمرين: الأمر الأول هو تواصله الخلاق مع شعراء عصره، مثل إبراهيم ناجي وعلي Ù…Øمود طه إلي العصر الجاهلي بأقدم شعرائه، وأن أصالة ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ø¨Ø¯ الصبور لا تتØدد بهذا الوعي ÙØسب، وإنما تتØدد بإضاÙته – أي ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ø¨Ø¯ الصبور- رؤيته العصرية. أعني رؤيته الÙردية إلي عالمه المعاصر، ولكن بما لا ينÙÙŠ – قط – العلاقة بين هذه الرؤية وعصرها من ناØية، وعلاقتها بماضيها المنتسب إلي هذا التراث بالمعني الخلاق الذي تنسØب دلالته علي كل من ØµÙ„Ø§Ø Ø¹Ø¨Ø¯ الصبور علي مستوي الموهبة الÙردية، وعلي علاقته وغيره – إيجابا أو سلبا – بالتراث، من Øيث التواصل الخلاق بين الأقدم والأØدث. وبهذا المعني الجديد يتØدد Ùهم سهير القلماوي لمقولة ت. إس. إليوت عن التقاليد والموهبة الÙردية. ولا أزال أذكر أن سهير القلماوي كانت تنقل عن ت. إس. إليوت Ùكرته ÙÙŠ أن عقل الشاعر يتميز بأنه يقيم علاقات بين ما لا يتصل أو ما لا نري Ù†ØÙ† – القراء العاديين – اتصاله، Ùقراءة كتاب للÙيلسو٠الهولندي سبينوزا – مثلا – تتجاوب ورائØØ© الطهو، كما يتجاوب كلاهما مع دقات الآلة الكاتبة ÙÙŠ عقل الشاعر الذي يصنع دائما علاقات جديدة بين أشياء لا يتصور الإنسان العادي إمكان وجود علاقات بينها، Ùعقل الشاعر كخياله يبنيان دائما كليّات علائقية جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ولقد كنت٠ألاØظ دائما أن انØياز سهير القلماوي إلي الدراسة الÙنية للأدب المعاصر كانت توازي تماما اهتمامها بالدراسة Ù†Ùسها للتراث العربي القديم. وأتصور أنه الآن وبعد مرور واØد وعشرون عاما من ÙˆÙاة سهير القلماوي (مايو 1997) وما أكتبه الآن، Ùأنني أري تأثرها Ø§Ù„ÙˆØ§Ø¶Ø Ø¨Ù…Ø¯Ø±Ø³Ø© »‬النقد الجديد» ÙÙŠ كل من إنجلترا والولايات المتØدة. Ùإن Ùهمها الأدبي لمعني القيمة ÙÙŠ الÙنون من Øيث هي تØقيق لأقصي درجات التوازن بين أقصي درجات التعارض، لا تكاد تختل٠كثيرا عن المعني السيكولوï½Ù€ÙŠ للقيمة الذي رأيناه ÙÙŠ كتابات الناقد الإنجليزي إيÙور آرمسترونج ريتشاردز، وهو الثاني ÙÙŠ Øركة» النقد الجديد» التي بدأت من إنجلترا وازدهرت ÙÙŠ الولايات المتØدة الأمريكية من خلال نقاد من طراز: كلينث بروكس، جون كرو رانسوم، وآلان تيت وغيرهم من أقطاب المدرسة التي Øاول أن يروج لها رشاد رشدي ÙÙŠ زمنه الذي انقضي، والذي كان يصل بقدر ما كان يباعد بينه وبين سهير القلماوي.
وأعتقد أن المصادر الثقاÙية لنقد سهير القلماوي الأدبي لم تكن متوقÙØ© علي المدرسة البريطانية ÙÙŠ النقد الأدبي ÙØسب، وإنما تمتد إلي المدرسة الأمريكية ÙÙŠ الوقت Ù†Ùسه. وإذا أردت الدقة Ùأنني أقول إن البداية كانت من دراستها ÙÙŠ Ùرنسا Øين تعلمت – Ùيما تعلمت – علي أيدي مدارس Â»â€¬Ø´Ø±Ø Ø§Ù„Ù†ØµÙˆØµÂ» تØليلا وتÙسيرا، وهي المدرسة التي سبق إليها ÙÙŠ التأثر بها Ù…Øمد مندور (1907-1965) الذي سبقها ÙÙŠ الذهاب إلي Ùرنسا.
وأعتقد أن من ØÙ‚ سهير القلماوي علينا، Ù†ØÙ† الذين تعلمنا علي إيديها المعاني الØقيقية والدقيقة للنقد الØديث والمعاصر علي السواء، والتي تعلَّمنا منها الدلالات الأولي للØداثة، والإيمان بالتØليل النصي الذي يهتم بالعناصر التكوينية الدقيقة والمØايثة ÙÙŠ العمل الأدبي، علينا أن ندÙع طلابنا إلي دراسة الأسس النظرية للنقد التطبيقي الذي مارسته سهير القلماوي علي امتداد ما يقرب من نص٠قرن، وذلك ÙÙŠ الدائرة التي كانت تصل بينها وبين زميلها Ù…Øمد مندور (1907- 1965) الذي ولد قبلها بأربع سنوات، ودرس مثلها ÙÙŠ Ùرنسا، والتي كانت تصل بينها وصل التوازي وبين زميلها لويس عوض (1915-1990) الذي كان النقيض النقدي لكل من رشاد رشدي (1912-1983) وزكي نجيب Ù…Øمود (1905- 1993)ØŒ والتي كانت تباعد بينها وبين Ù…Øمود أمين العالم (1922- 2009) ÙˆØسين مروة (1910-1987) ÙÙŠ آن.
وقد بدأت سهير القلماوي خطواتها الجامعية الأولي بالإلØØ§Ø Ø¹Ù„ÙŠ أستاذها طه Øسين بأن يرعاها ÙÙŠ دراسة »‬أل٠ليلة وليلة» التي قرأتها وشغلتها منذ صباها الباكر، ولكن أستاذها طه Øسين أدرك المصاعب التي يمكن أن تØول بينها وبين التعمق ÙÙŠ هذه الدراسة، ÙدÙعها إلي أن تبدأ Øياتها الأكاديمية بدراسة شعر الخوارج موضوعا للماï½Ø³ØªÙŠØ± الذي Øصلت عليه ÙÙŠ أبريل عام 1937ØŒ وبعد أن استراØت من عناء الدراسة ÙÙŠ الماï½Ø³ØªÙŠØ± Ø³Ù…Ø Ù„Ù‡Ø§ الأستاذ أن تبدأ ملØمتها الكبري ÙÙŠ الدراسة النصية بدراسة »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ ÙساÙرت إلي Ùرنسا لتدرس ÙÙŠ السربون، وتÙيد من المناهج الØديثة ÙÙŠ دراسة »‬أل٠ليلة وليلة”ØŒ وعادت من باريس بعد عامين ÙÙŠ سبتمبر عام 1939ØŒ وأكملت الرسالة التي ناقشتها عام 1941ØŒ وأصبØت السيدة الأولي الØاصلة علي درجة الدكتوراه ÙÙŠ الآداب ÙÙŠ الجامعة المصرية، ومن ثم ÙÙŠ كل جامعات العالم العربي التي لا تراث لها مثل تراث الجامعة المصرية.
الطري٠أنني عندما أتأمل الآن ÙÙŠ دراسة الماï½Ø³ØªÙŠØ± ثم دراسة الدكتوارة، أجد أن أستاذتي اختارت »‬الكتابة الهامشية» التي تخرج علي تيار الكتابة السائدة، موضوعا لإطروØØ© الماï½Ø³ØªÙŠØ± ثم الدكتوراه، Ùاختارت شعر الخوارج موضوعا للماï½Ø³ØªÙŠØ±ØŒ وانتقلت منه إلي دراسة »‬أل٠ليلة وليلة» التي طاÙت بها ما بين الشرق والغرب، وانتهت من دراستها بكتابها الÙØ° عن »‬أل٠ليلة وليلة» الذي نشر للمرة الأولي عن دار المعارÙØŒ سلسلة الدراسات الأدبية عام 1943ØŒ مستهلا عهدا جديدا من الدراسات الشعبية من ناØية، والأساليب المنهجية الجديدة ÙÙŠ دراسة النصوص الأدبية من ناØية ثانية. لكن تظل رسالتي الماï½Ø³ØªÙŠØ± والدكتوراه علامة منهجية بارزة ÙÙŠ الدراسات الأدبية من منظور المنهج التاريخي المقارن من ناØية، ومن منظور تسليط الضوء الباكر علي الكتابة الهامشية والاهتمام بما أطلقت٠أنا عليه، بعد ذلك بØوالي نص٠قرن، اسم: »‬بلاغة المقموعين» مستجيبا إلي بذور التلمذة الأولي التي انطويت عليها من دروس الأستاذة التي أصبØت لي أمّا بكل معني الكلمة.
هل كان مصادÙØ© أن تندÙع سهير القلماوي إلي دراسة شعر الخوارج بعد تخرجها مباشرة، وإلي دراسة »‬أل٠ليلة وليلة» بعد شعر الخوارج؟! لا أظن أن الأمر يخضع للمصادÙØ©ØŒ خصوصا عندما أسترجع ما كانت تØكيه لي من ذكرياتها، ÙÙŠ مناقشة أطروØتها الأولي والثانية، Ùقد هاج المØاÙظون علي أستاذها طه Øسين، ونددوا بهذه الشابة الساÙرة التي تجلس مجلس الرجال، ويجلس أمامها الرجال الذين يقومون بامتØانها ÙÙŠ Øضرة رجال آخرين غرباء. واضطر طه Øسين أن ينقل المناقشة من مكانها المعلن إلي مكان آخر، وأن تجتاز سهير القلماوي امتØان الماï½Ø³ØªÙŠØ± والدكتوراه ÙÙŠ غرÙØ© مغلقة، بعيدا عن عيون وصيØات الغاضبين الذين لا يكÙّون عن استغلال الدين لتبرير التخلÙ. وخرجت سهير القلماوي دكتورة من هذه التجربة التي زادتها صلابة وقوة، كأنها أصبØت وريثة »‬شهر زاد» التي تنقل إلي كل من Øولها Ø¢Ùاق المعرÙØ© الواعدة، منتصرة بإبداع العقل علي القوة الغاشمة لتخل٠كثير من الرجال الذين لا ÙŠÙارقون التقليد الجامد والنقل الجاهل، Ùكان انتصارها رمزا مجدÙّدا لتØرر المرأة العربية وتØرير وعيها بØضورها الÙاعل ÙÙŠ الوجود.
لقد اختارت طريق أستاذها الذي ظل يؤثر الجديد الØÙŠ علي القديم الميت، ويستبدل اقتØام الأÙÙ‚ المغلق بالسير ÙÙŠ الطرق الآمنة الممهَّدة، ونقلت السر الخلاق للجسارة والشجاعة والجرأة والإيمان بالمبدأ الأصيل للتطور من أستاذها إلي تلامذتها الذين ظلت تعاملهم بوصÙهم أبناءها، دون تÙرقة بين ذكر وأنثي، أو بين مصري وعربي، تلامذتها الذين علمتهم أن يضيÙوا إلي ما أنجزت، وأن يصلوا إلي أبعد مما وصلت إليه، تاركة لكل منهم اختيار منهجه، ÙˆØرية تÙسير مادة موضوعه Øسب تصوراته الÙكرية الخاصة، Ù…ØاÙظة ÙÙŠ ذلك علي تقاليد ليبرالية أصيلة، Ùكان من هؤلاء التلامذة الماركسي الماويّ والتروتسكي، كما كان منهم القومي والناصري والليبرالي، وبعد ذلك الواقعي والبنيوي والتÙكيكي…إلخ، Ùاجتمعت Ùيهم كل ألوان الطي٠السياسي والÙكري والنقدي. ومضت هي تواصل إلي جانب مهمة التدريس والإشرا٠علي الرسائل الجامعية، كتابة المقالات ÙÙŠ شؤون الØياة العامة ÙˆÙÙŠ مجالات النقد الأدبي بمعانيه النظرية والتطبيقية بخاصة، Ùكتبت العشرات من المقالات ÙÙŠ النقد الأدبي بمجاليه النظري والتطبيقي. وقد بدأت بالكتابة عن الشعر بين الÙنون، وعن نظرية »‬لاؤوكون»، واستمرت تكتب المقالات ÙÙŠ مجلات: »‬أبوللو» و»‬الهلال» و»‬العربي» و»‬الآداب» و»‬الكاتب» و»‬المجلة» و»‬الÙنون» وغيرها مما Øاولت٠جمعه ÙÙŠ هذا المجلد، وما يخص النقد الأدبي ÙˆØده، وجعلته باسم: »‬مقالات ÙÙŠ النقد الأدبي»، وذلك ÙÙŠ مجلد يضا٠إلي بقية ما تركته هي لنا من مؤلÙاتها: (أدب الخوارج، أل٠ليلة وليلة، مع الكتب) وإبداعاتها: (Ø£Øاديث جدتي، الشياطين تلهو) وترجماتها: (ترويض النمرة، رسالة أيون، عزيزتي أنتونيا، رسائل صينية، هدية من البØر، كتاب العجائب) هذا Ùضلا عن قصائدها الموجودة ÙÙŠ مجلة »‬أبوللو» Ùقد كانت شاعرة واعدة، سرقها الدرس النقدي المنهجي، إلي آخر أنشطتها الثقاÙية والاجتماعية، متعددة الجوانب، متنوعة الاتجاهات، وذلك كله بما يجعل منها علامة ساطعة ÙÙŠ تاريخ الثقاÙØ© العربية التي تدين لها بالكثير، مثلنا Ù†ØÙ† تلاميذها الذين أودعت Ùيهم Ø£Øلامها عن المستقبل الذي يتØقق بالعلم والجامعة التي تتأسس بالØرية. وها Ù†ØÙ† نجدد لها العرÙان بالÙضل، ونØÙ† Ù†ØتÙÙ„ بمرور خمسين عاما علي تأسيس معرض الكتاب الدولي الذي أسستْه٠واÙتتØÙ‡ معها ومشاركا لها ثروت عكاشة، أهم وزير للثقاÙØ© ÙÙŠ تاريخنا المصري الØديث، رØمهما الله معا.