الملتاث وسنبلات القمح، للدكتور السيد شعبان جادو

في تلك اللحظات يتساقط الندى قطرات تتماوج خيطا فضيا، يتحرك النهار وئيدا، يتحسس رأسه المثقل بالأفكار التي ظل طوال ليله يراوح في مكانه؛ أيها ينفذه أولا!

بعضها مصاب بالمس ما إن يفكر فيه حتى يتخفى وراء ظلال مخاتلة، فكر في أن يرحل بعيدا إلى تلك البلاد التي تحتفي بالإنسان، تقيم جمعيات للرفق به، شدما أبهجه هذا!
إنه هنا في هذا السياج واقع تحت تصرف السلطة التي تعد عليه أنفاسه، ربما يبالغ في هذا، مريض بالوسواس القهري الذي جاءه مؤخرا، ينكر نفسه ويخاف من ظله، يغلق الباب بأكثر من مزلاج، ينظر وجهه في المرآة كل آونة؛ يعد التعرجات والمنحنيات التي تضرب وجهه، يجتهد أن يميز الشعرات البيض التى بدأت في غير هوادة تغزو رأسه.
ظلت تراقبه، أصيبت بحسرة لا نهاية لها، تبكي حلمها المنطوي أمام عينيها، ذوت ابتسامتها، تقرحت فرحة عمرها.
مثلت كل الروايات في ذهنه، تتحرك شخوصه كلما أغمض جفنيه، النداهة تقفز في سعادة لا حد لها، أمسكت به الكلمات وأحاطت به خناقا، إنه يرى العالم بعيون غيره، الأيام لطه حسين تؤرقه حيث العمى والطفل المسكون بالخوف من الجن، ليته ما قرأ ولا طالع كل هذه النصوص الممسوسة، ما جدوى أن تقرأ وتقيد نفسك بما يدور في عقلك؟!
لاشيء من هذا يصلح أن يعطيه لحظة انتماء لواقعه، حالة من الغثيان تحيط به، إنه مثل الغريب، أو المتشائم، أفلحت نصوص كامي وسارتر أن تزج به في هذا القبو.
ليته تخلص من أوراقه، ماذا يهم السلطة إن تخلص من بطاقة هويته؟
إنها لا تأبه إلا بمن يمطرونها بالثناء، أما من يمقتونها فتقيم لهم عرسا جماعيا وسط الرمال الحارقة، غبية بل هي مصابة مثله بذلك الوسواس اللعين، تعتاش على الأنين، هكذا يراها، مثل تلك المرأة التي لطخت وجهها بالمساحيق الزاعقة، تفرط فيها حتى تجعلها أشبه بهذا المهرج الذي يعزف سيمفونية الفناء!
ظل في سريره ينتظر الشمس، إنها تأخرت هذا اليوم، قرأت ذلك في عينيه التي تراقب شبحا من نافذة الحجرة، إنه الشتاء وهو لا يدري، من يأتي به؟
أطالوا الخريف عمدا، أية قوة يمتلكونها لتفعل كل هذا؟
بدأت تسري في داخله رغبة محمومة أن يخرج من هذا البيت، أن يبدل ثيابه، يمشط شعره، يحلق ذقنه التي صارت متنافرة مثل أفكاره، للعطر رائحة نفاذة، ليفعل كل الأشياء التي تمناها ذات يوم، أن يقول أبياتا من الشعر ليكون المجنون وهي ليلى!
يستطيع الحب أن يغيره، لتذهب السلطة إلى الجحيم، لن يعترض طريقها، ليغمض عينيه إن وجدها، لقد صار بدون بطاقة هوية؛ كل هذا مبرر ألا يسأله الشرطي المتربص به عن وجهته، سيخبره أنه يجري وراء الفراشات في الحقول، يملأ صدره بهواء الصباح، يكحل عينيه بوهج الشمس، هل في ذلك جناية؟
أدار مؤشر المذياع، جاءه صوت راعد؛ على الجميع أن يلزموا أماكنهم فقد قرر الحاكم بأمره أن يمنع الشمس من العبور فوق أجواء البلاد، وقد أصدر ذلك القرار حرصا على سلامة الوطن!
أخذ يقهقه بصوت عال، تسامع الجيران؛ رغم أنها أغلقت الأبواب جيدا، سدت كل الثقوب بجسدها، وضعت أصابعها في كل مكان!
في يوم ما يزال يتذكره جيدا حين قال له معلمه: جنون أن تقترب من شرفة القصر الكبير تلك ستكون نهايتك أو هذا أقصر طريق لمن ينتحرون مبكرا؛ ما أدري لم قال هذا؟
لعله أراد ألا ينجرف إلى ذلك المنحدر، ربما رآه فاشلا بما فيه الكفاية وأحب أن يدفعه إلى تجنب الموت السريع.
حيث تنفع النصيحة التي لا تقدر بثمن.
كان يسخر من نقاشه معه في مادة التاريخ، حسنا جاء الوقت الذي أسر لنا بما يتمناه للعالم الذي يعاني من كثرة الآراء وشتى المذاهب.
خيل إليه أنه مكلف بتغيير الكون،هذه طرفة تستحق الضحك حتى البكاء؛ يكمن هذا الهراء في مفردات اللغة، حيث يحتال بها هؤلاء الماكرون؛ تتغير الكلمات ذات الظلال الدلالية، أن تتخلص من احتمالية المعنى.
كان هذا فوق طاقته؛ كلمات اللغة كثيرة جدا؛ يختزنها الطلاب في كراساتهم؛ يتلاعب بها الساسة أمام العامة؛ يرددها الفقهاء في مجالسهم؛ الأمهات لا يفلحن إلا في الثرثرة بها.
بدأ يحدث نفسه:
هل آخذ ممحاة وأسطو على مكتبة المدرسة ومن ثم تكون الخطوة الأولى، بالفعل أتيتها مبكرا قبل أن يدلف داخلها المسئول الذي يتجهم في وجوه الصغار؛ يمنعنهم من أن تمتد إلى الأرفف أياديهم، يحرص كل يوم على نظافتها، يكره أن يجد واحدا منها مفتوحا؛ يعمل بنصيحة المدير: لا نريد مشاغبين جددا؛ يكقي هؤلاء الذين التاثت عقولهم، أي جناية تلك التي فعلها الساخر جحا في البلدة؟
تتساءلون ومن يكون؟
آها !
معلم فصل من الخدمة؛ أو بالأجدر ضبط ملتاثا بأفكار مشاغبة؛ يتكلم في مواضيع خطرة؛ أن يزرع الناس في القرية قمحا كثيرا؛ يرعون الأغنام في الصباح وينشدون الشعرساعة المساء ويناغمون بالناي فتتراقص الحملان، تسرح خيالات البنات حيث الفرسان القادمين في الربيع، هذه أفكار تنذر بالشر؛ القمح ستأكله الأغنام، لن يختزن دوار الوسية ما يكفي ﻷن يرسل إلى الحاكم.
حاولت جيدا أن أمحو تلك المفردات التى حذرنا منها مدير المدرسة: القمح والأغنام والشعر وبالتأكيد الحاكم، لا أدري ما الذي ربط تلك الكلمات بعضها ببعض؟
الحاكم يستولي على قمح الأغنام التي تنشد الشعر، لا بل قرأتها هكذا : الأغنام تنشد الشعر والحاكم يستولي على القمح!
هذه جملة خطرة؛ كيف لي أن أقضي على ظلال المفردات؛ نحتاج ألف معلم ليدلل على كذب تلك الجملة، الفقهاء بالتأكيد يمتلكون تبريرا لكل هذا.
يلوكون المبررات العتيقة يروون حواديت من أوراق صفراء قرضت متونها الفئران البيضاء.
المعلم جحا يعرف أنه يهزأ بهذا المحتكر لحبات القمح، أوصى الطلاب بأن ينصحوا آباءهم أن يدهنوا حبات التقاوي باللون الأسود، الحاكم يكره السواد؛ إنه يعشق الألوان القرمزية؛ لذا لن يسطو على الغلال بعد انتهاء فصل الشتاء، سيترك لهم الخزانة ممتلئة، نجحت حيلة المعلم، أخرجت الحقول حبات سوداء؛ يقال إن تعويذة الجدة الخضراء أحالت الأقماح إلى هذا اللون.
كل ما فعله الحاكم أن أمر بفصل المعلم من عمله وأن يمشي وحيدا في طرقات القرية وألا يقترب منه الصغار، أوصى بهذا الخفراء الذين يجيدون تنفيذ الأوامر دون نقاش.
كانت تلك فرصة المعلم لأن يشاغب في الطرق والممرات؛ وصمه المنادي الذي أطلقه الحاكم بالجنون؛ قيل يدبر مؤامرة ﻷن يستولي على الأقماح، صدقه الفلاحون، إنهم يستمعون إلى الفقهاء كثيرا.
أصابني تعب مفاجئ، كثرت المفردات في خزانة المدرسة؛ التلاميذ سيقعون بكل تأكيد في شرك المعلم جحا، ولأنني مطيع لتعليمات الحاكم الذي يهبني أرغفة مجانية ، وجدت الحل أن نزرع في كتب الصغار جملة جديدة: العليق نبات يصعد إلى السماء.
إنها موجزة لا تحتمل دلالة من نوع ما يخايل به المعلم جحا في شوارع القرية سيما عند بوابة المدرسة حيث يستولي على عقول الصغار.
كل هذا كفيل بأن يهب للماكر الذي يحتال على خزانة المفردات مزيدا من العمر يكفيه ﻷن يختزن القمح في جوف الحوت.

Related posts

Leave a Comment